Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - LA  - PL  - PT ]

APOSTOLIC LETTER
MOTU PROPRIO DATA

PORTA FIDEI

OF THE SUPREME PONTIFF
BENEDICT XVI

FOR THE INDICTION OF THE YEAR OF FAITH

 

رسالة رسولية

على شكل رسالة بابوية تلقائية

باب الإيمان

للحبر الاعظم بندكتس السادس عشر

فيها تُعلن سنة الإيمان

1.  ان "باب الإيمان" (راجع أعمال 27:14) يُدخل الى حياة الشركة مع الله ويُتيح الدخول في كنيسته المفتوحة لنا دائماً. ويمكن اجتياز هذه العتبة حينما تُعلَن كلمة الله ويترك القلب المجال للنعمة المغيّرة ان تصوغه. واجتياز هذا الباب يقتضي ان يلتزم الانسان بهذا الطريق الذي يدوم الحياة كلها. ويبدأ بالعماد (انظر روم 4:6) الذي به نستطيع ان ندعو الله باسم الآب، وينتهي بالعبور بالموت الى الحياة الأبدية، ثمرة قيامة الرب يسوع الذي، بهبة الروح القدس، أراد ان يشرك في مجده المؤمنين به، (يو 22:17). فاعلان الإيمان بالثالوث – الآب والابن والروح القدس – يعادل الإيمان باله واحد هو المحبة (1يو 8:4) : الآب الذي في ملء الزمان ارسَل ابنه لأجل خلاصنا؛ ويسوع المسيح الذي في سر موته وقيامته افتدى العالم؛ والروح القدس الذي يقود الكنيسة عبر القرون في انتظار عودة الرب المجيدة.

2.  منذ بدء خدمتي كخليفة بطرس، ذكّرتُ بضرورة اعادة اكتشاف طريق الإيمان لكي نسلّط النور بنوع أوضَح على الفرح والحماس المتجدّد باللقاء مع المسيح. ففي موعظة القداس الذي بهِ افتتحتُ حبريتيِ، كنتُ اقول : "ان الكنيسة في مجملها، والرعاة فيها، عليهم مثل المسيح، ان يسيروا في الطريق، ليقودوا البشر خارج البرية، نحو موضع الحياة، نحو الصداقة مع ابن الله، نحو ذاك الذي يعطينا الحياة والحياة في ملئها". ويحدث من الآن ان المسيحيين غالباً ما يهتمون اهتماماً خاصاً بالنتائج الاجتماعية والثقافية والسياسية لالتزامهم، مستمرين في التفكير بأن الإيمان هو مثل مسلَّم بديهي للعيش المشترك. بالفعل فان هذا المسلَّم لا فقط ليس كذلك، بل غالباً يُنكَر بينما كان من الممكن في الماضي التعّرف الى نسيج ثقافي وحدوي، مقبول قبولاً واسعاً في رجوعه الى مضامين الإيمان والى القيم التي يُلهمها. اما اليوم فيبدو ان الأمر ليس كذلك في قطاعات كبيرة من المجتمع بسبب أزمة ايمانية عميقة مسَّت اشخاصاً كثيرين.

3.  لا نستطيع ان نقبل بأن يفسد الملح وان يُخفى النور (متى 13:5-16). مثل المرأة السامرية، يمكن للانسان اليوم ان يشعر ايضاً من جديد بالحاجة الى الذهاب الى البئر ليسمع يسوع داعياً اياه الى الإيمان بهِ والى الاستقاء من نبعه المتدفق بالماء الحي (يو14:4). علينا ان نستعيد الذوق لنتغذى بكلمة الله التي تنقلها الكنيسة بأمانة، وبخبز الحياة وهما يُقدَّمان سنداً لجميع تلاميذه (يو15:6). ان تعليم يسوع ما يزال يرنّ اليوم ايضاً بالقوة نفسها : "لا تعملوا للطعام الذي يفنى، بل اعملوا للطعام الذي يبقى فيصير حياة ابدية" (يو27:6). والسؤال الذي طرحه السامعون هو السؤال نفسه الذي نطرحه اليوم : "ماذا نعمل لنقوم بأعمال الله؟" (يو28:6). ونعرف جواب يسوع : "عمل الله ان تؤمنوا بمن أرسل" (يو29:6). فالإيمان بيسوع هو اذاً الطريق للبلوغ الى الخلاص بنوع نهائي.

4.  على ضوء هذا كله، قررتُ ان اعلن "سنة الإيمان"، وستبدأ في 11 تشرين الاول 2012، في الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وستنتهي في الاحتفال بعيد الرب يسوع المسيح ملك الكون، في 24 تشرين الثاني 2013. وفي 11 تشرين الاول 2012 ستكون الذكرى العشرون لنشر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، وهو النص الذي اعلنه سلفي الطوباوي البابا  يوحنا بولس الثاني، متوخياً ان يعرض لجميع المؤمنين قوة الإيمان وجماله. ان هذه الوثيقة، وهي الثمرة الأصيلة للمجمع الفاتيكاني الثاني، كانت أمنية السينودس خارق العادة للاساقفة الذي عقد سنة 1985، مثل اداة في خدمة التعليم المسيحي، وقد تحققت بفضل تعاون اساقفة الكنيسة الكاثوليكية كلهم. ولقد استَدعيتُ المجلس العام لسينودس الاساقفة في شهر تشرين الاول 2012 في موضوع "التبشير الجديد لنقل الإيمان المسيحي". وستكون فرصة مؤاتية لادخال تركيبة الكنيسة كلها في زمان من التفكير الخاص ومن اكتشاف جديد للايمان. وليست المرة الاولى التي فيها تُدعى الكنيسة الى الاحتفال بسنة للايمان. فان سلفي المكرّم، خادم الله بولس السادس كان قد قرّر سنة مماثلة في 1967، بمناسبة ذكرى استشهاد الرسولين بطرس وبولس في الذكرى المئوية التاسعة عشرة لاستشهادهما، وفكر في ان يجعلها مثل وقت احتفالي ليكون في الكنيسة كلها " اقرار أصيل وخالص بالإيمان نفسه". وبالاضافة الى ذلك، اراد ان يكون هذا الإيمان مؤكداً بصورة "فردية وجماعية، حرة وواعية، باطنية وخارجية، متواضعة وصريحة". وكان يفكر ان الكنيسة كلها بهذه الطريقة كانت ستتمكن من ان تستعيد "وعياً أجلى عن ايمانها، لكي تنعشه وتنقيه، وتؤكده، وتعلنه". ان التغييرات الكبيرة التي ستحدث هذه السنة، اوضحت ضرورة هذا الاحتفال. وقد خُتم باقرار ايمان شعب الله، ليشهد كم ان المحتويات الاساسية التي تشكلّ منذ قرون تراث جميع المؤمنين تحتاج الى ان تثبت وتُفهم وتُعمَّق بطريقة جديدة دوماً، لإعطاء شهادة متناسقة في ظروف تاريخية مختلفة من الماضي.

5.  لاجل بعض الأوجُه، رأى سلفي المُبجَّل هذه السنة مثل " نتيجة ومتطلب لفترة ما بعد المجمع، وهو على وعي عميق بصعوبات الزمان الخطيرة، لاسيما فيما يتعلق باقرار الإيمان الحقيقي وبتفسيره الصحيح. فاعتبرت ان جعل بداية سنة الإيمان تتزامن مع الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني يمكن ان تكون فرصة مؤاتية لكي نفهم ان النصوص التي تركها آباء المجمع بمثابة تراث، حسب اقرال الطوباوي يوحنا بولس الثاني "لا تفقد شيئاً من قيمتها ومن بهائها". فمن الضروري ان تُقرأ قراءَة جيدة، وان تُعرف وتُستوعب، مثل نصوص مميزة ومعيارية للسلطة الكنسية داخل تقليد الكنيسة. واشعر اكثر من اي وقت آخر بواجب الاشارة الى المجمع مثل النعمة العظيمة التي حظيت بها الكنيسة في القرن العشرين : "فهو يقدّم لنا بوصلة أمينة لكي نتوجَّه على طريق القرن الذي يبدأ". وانا ايضاً اريد ان اعيد كل ما قلته في شأن المجمع بعد بضعة شهور من انتخابي خليفة لبطرس : "اذا نقرأه ونقبله على ضوء تفسير صحيح، فانه يمكن ان يكون وان يصبح اكثر دوماً قوة عظيمة لتجدد الكنيسة، الضروري كل حين".

6.  ان تجدّد الكنيسة يجتاز ايضاً خلال الشهادة التي تقدّمها حياة المؤمنين : فالمسيحيون بوجودهم ذاته في العالم، يُدعون الى إشعاع كلمة الحقيقة التي تركها لنا الرب يسوع. وكان المجمع، في الدستور العقائدي "نور الأمم" يؤكد : "بينما المسيح القدوس، زكي لاعيبَ فيه (عبر 26:7) لم يعرف الخطيئة (2 كور21:5)، آتٍ ليكفّر عن خطايا الشعب (راجع عبر17:2)، فان الكنيسة تحوي في حضنها الخطأة. اذاً هي قدوسة وعليها ان تتطهر دوماً جادة باستمرار الى التوبة والتجدّد. والكنيسة تتقدم في حجَّتها عبر اضطهاد العالم وتعزيات الله، مبشرة بصليب السيد وموته حتى مجيئه (1كور26:11)، متشددة بقوة الرب القائم من الموت، لتتغلب بالصبر والمحبة على الشدائد والضيقات التي تأتيها سواء من الداخل او الخارج، فتُظهر للملأ بأمانة سرَّ الرب وان بصورة ناقصة، الى اليوم الذي فيه يتجلى اخيراً في تمام نوره".

    في هذا المنظور، تكون "سنة الإيمان" دعوة الى اهتداء أصيل ومتجرد الى الرب، المخلص الوحيد للعالم. ففي سر موته وقيامته، كشف الله عن ملء المحبة التي تخلّص وتدعو البشر الى اهتداء حياتهم بمغفرة الخطايا (انظر أع 31:5). اما القديس بولس، فيرى ان هذه المحبة تُدخل الانسانَ الى حياة جديدة : "دُفنا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن ايضاً حياة جديدة، كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب" (روم4:6). بفضل الإيمان، تصوغ هذه الحياة الجديدة الوجودَ الانساني كله حسب الجِدّة الجذرية للقيامة. وفي مقياس تفرّغ الانسان الحر، تنقي افكاره ومشاعره، وذهنيته وتصرفه بهدوء وتتغير، على طريق لا ينتهي تماماً في هذه الحياة. ان "الإيمان العامل بالمحبة" (غلاطية6:5) يصبح معياراً جيداً للعقل والعمل ويغيّر حياة الانسان كلها (انظر روم 2:12، قولسي 9:3-10، أفسس 20:4-29، 2كور 17:5).

7.  "ان محبة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا" (2كور 14:5). انها محبة المسيح التي تملأ قلوبنا وتدفعنا الى التبشير. اليوم مثل السابق ترسلنا هذه المحبة في طرق العالم لاعلان انجيل المسيح لشعوب الأرض كلها (متى 19:28). فان يسوع المسيح، بمحبته، يجتذب اليه بشرَ جميع الاجيال : في كل الأزمنة، يجمع الكنيسة ويعهد اليها الاعلان بالانجيل، بتخويل جديد كل حين. لهذا فاليوم ايضاً تبرز ضرورة التزام كنائسي اكثر قناعة لتبشير (أنجلة) جديد في سبيل اعادة اكتشاف فرح الإيمان واستعادة حماس نقل الإيمان. ان التزام المؤمنين الإرسالي، الذي لا يمكن ان ينتهي ابداً يستمد القوة والشدة في الاكتشاف الجديد واليومي لمحبته. فان الإيمان ينمو حينما يُعاش كخبرة محبة تلقاها الانسان، وحينما يُعطى كخبرة النعمة والفرح. انه يُخصب، لانه يوسع القلب في الرجاء ويتيح تقديم شهادة قادرة على الانجاب. بالفعل، انه يفتح القلب والفكر عند جميع السامعين لكي يتلقوا دعوة الرب الى الانضمام الى كلمته ليصبحوا تلاميذه. يقول القديس اوغسطينس ان المؤمنين "يتقوون اذ يؤمنون". وكان لاسقف هيبون القديس اسباب جيدة للتعبير هكذا. فنحن نعلم ان حياته كانت بحثاً متواصلاً عن جمال الإيمان الى ان يجد قلبه راحة في الله (13). وكتاباته العديدة التي فيها تُشرَح أهمية الإيمان وحقيقة الإيمان، ما تزال الى ايامنا هذه تراثا لا يُضاهى غناه، وما تزال تتيح للعديد من الناس الذين يبحثون عن الله أن يجدوا المسيرة الصحيحة للوصول الى "باب الإيمان".

   فالإيمان اذاً ينمو ويتقوى اذ يؤمن الانسان. ولا امكانية اخرى لاكتساب تأكيد عن حياته الا حينما يستسلم المرءُ. بقوة متزايدة بين يدي محبة تُختَبر دوماً اكبر، لأن اصلها في الله.

8.  في هذه المناسبة السعيدة، اريد ان ادعو اخوتي اساقفة العالم كله الى الاتحاد بخليفة بطرس، في هذا زمان النعمة الروحية الذي يقدّمه لنا الرب، للاحتفال بذكرى هبة الإيمان النفيسة، نريد الاحتفال بهذه "السنة" احتفالاً لائقاً ومخصباً. فيجب ان يتكثف التفكير في الإيمان لمساعدة جميع المؤمنين بالمسيح ليجعلوا انضمامهم الى الانجيل اكثر وعياً وقوة لاسيما في وقت من التغيير العميق مثل هذا الذي تعيشه البشرية اليوم. سنُضطر الى الاقرار بالإيمان بالرب القائم من بين الأموات في كاتدرائياتنا وفي كنائس العالم كله، وفي بيوتنا وبالقرب من عائلاتنا، لكي يشعر كل واحد شعوراً قوياً بواجبه ان يعرف الإيمان الدائم معرفة فضلى وان ينقله الى الاجيال القادمة والجماعات الرهبانية مثل جماعات الرعايا (خورنات) وجميع المنظمات الكنائسية القديمة والجديدة، ستجد الطريقة التي بها، في هذه "السنة"، تؤدي اقراراً علنيا قانون الإيمان.

9.  اننا نرغب في ان تثير هذه "السنة" في كل مؤمن الشوق الى اعلان الإيمان بملئه وبقناعة متجددة، مع الثقة والرجاء. وستكون ايضاً مناسبة مؤاتية لتكثيف الاحتفال بالإيمان في الليتورجيا، ولاسيما في الافخارستيا، التي هي "القمة التي اليها يمتد عمل الكنيسة، وفي الوقت نفسه الينبوع الذي منه تجري قوتها كلها". وفي الوقت نفسه، تتمنى أن تنمو شهادة حياة المؤمنين في المصداقية. فان اعادة اكتشاف محتويات الإيمان المعلَن والمحتفَل به، والمعاش، والمصلَّى والتفكير في الفعل ذاته الذي به نؤمن، هو التزام يجب على كل مسيحي أن يتبّناه، لاسيما في هذه "السنة".

   ليس من قبيل المصادفة ان المسيحيين في القرون الاولى كانوا مضطرين ان يتعَلَّموا غيباً قانون الإيمان. فانه كان لهم بمثابة صلاة يومية لئلا ينسوا الالتزام الذي قطعوه على انفسهم بالعماد. وبكلمات ذات معنى مكثَّف يذكّر القديس اوغسطينس بذلك، حينما، في موعظة تسليم قانون الإيمان، يقول : "ان قانون الشهادة المقدسة الذي أُعطي لكم لجميعكم معاً او الذي نلتموه اليوم كل بمفرده، هو التعبير عن ايمان الكنيسة أمنا، الإيمان المؤسَّس بثبات على الاساس الذي لا يتزعزع، على يسوع المسيح ربنا... لقد أُعطيتم اذاً لتتعلموا وقد تلوتم ما يجب عليكم ان تحفظوه في نفسكم وفي قلبكم، وتكرروه على فمكم، وان تتأملوه في الساحات العامة، وألا تنسوه عند تناول طعامكم، وان تراجعوه في داخلكم طوال نومكم".

10.               أودّ، في هذا الشأن، ان ارسم مساراً يساعد بنوع اعمق ليس محتويات الإيمان فحسب، بل معها ايضاً الفعل الذي به نقرر ان نستسلم كلياً الى الله، بملء الحرية. فيوجد، بالفعل، وحدة عميقة بين الفعل الذي به نؤمن والمحتويات التي نقبل بها. والرسول بولس يتيح الولوج الى داخل هذه الحقيقة حينما يكتب : "الإيمان بالقلب يؤدي الى البر، والشهادة بالفم تؤدي الى الخلاص" (روم10:10). القلب يؤشر الى ان الفعل الأول الذي به نأتي الى الإيمان هبة من الله وعمل النعمة التي تعمل وتغيّر الشخص حتى الى اعمق ما فيه.

   ان مَثَل ليدية مثل بليغ في هذا الشأن.فيروي القديس لوقا ان بولس، اذ كان في فيلبي، ذهب في احد السبوت لكي يبشر بالانجيل لبضع نساء، وكانت بينهن ليدية "فتح الرب قلبها لتصغي إلى ما يقول بولس" (أع14:16) .ان المعنى الكامن في هذه العبارة مهم. ويعلم القديس لوقا أن معرفة المحتويات للإيمان ليست  كافية، إن لم يكن القلب، وهو المقدِس الاصيل للشخص، منفتحاً بالنعمة التي تتيح للانسان أن يكون له عينان لينظر بالعمق وأن يفهم ان ما أُعلن هو كلام الله.

   ان الاقرار بالفم، بدوره ، يشير الى ان الإيمان يقتضي شهادة والتزاماً علنيين. فلا يستطيع المسيحي ابداً ان ينكر ان الإيمان أمر خاص. الإيمان هو القرار بأن يكون الانسان مع الرب ليعيش معه. وهذا "الكون معه" يُدخل الى فهم الاسباب التي لأجلها نؤمن. والإيمان لكونه حقاً فعلاً للحرية، يقتضي ايضاً المسؤولية الاجتماعية عما نؤمن به. والكنيسة ، في يوم العنصرة تُظهر بكل جلاء هذا البُعد العلني للإيمان ولإعلان الإيمان الخاص لكل شخص بدون خوف. انها هبة الروح القدس التي تؤهل للإرسالية وتقوّي شهادتها وتجعلها صريحة وشجاعة.

   إن إقرار الإيمان ذاته هو فعل شخصي وفي الوقت نفسه جماعي. فإن الكنيسة هي الفاعل الاول للإيمان. وفي ايمان الجماعة المسيحية ، كلٌّ يتلقى العماد. وهي علاقة فعالة للدخول ضمن شعب المؤمنين للحصول على الخلاص. وكما يشهد "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية" : "أومن" هو ايمان الكنيسة الذي يعلنه كل مؤمن شخصياً، خاصة في العماد. "نؤمن". هو ايمان الكنيسة الذي يقرّه الاساقفة المجتمعون في المجمع او بنوع أعم، الذي يقرّه مجموع المؤمنين الليتورجية. "أومن" انها ايضاً الكنيسة امنا، هي التي تجيب الله بإيمانها وتعلمنا ان نقول : "أومن"، "نؤمن".

   كما يمكننا الملاحظة، فإن معرفة محتويات الإيمان اساسية لكي يعطي المرءُ رضاه الخاص، اعني لكي ينضمَّ تماماً، بالعقل والارادة، الى كل ما تعرضه الكنيسة. فإن معرفة الإيمان تُدخل الى كل السر الخلاصي الذي اوحاه الله. والرضى المعطى يقتضي، حينما نؤمن، أن نقبل بحرية سر الإيمان كله، لأن الله نفسه الذي يوحي بذاته ويسمح بمعرفة سر محبته، هو ضامن لحقيقته.

   ومن جهة اخرى، لا نستطيع ان ننسى، في سياقنا الثقافي، أن اشخاصاً عديدين، وإن لا يعرفون هبة الإيمان في ذاتها، هم مع ذلك في بحث نزيه عن المعنى الأخير والحقيقة النهائية عن وجودهم وعن العالم. وهذا البحث هو "مقدمة" أصيلة للإيمان، لأنه يحرّك الاشخاص على الطريق المؤدي إلى سر الله. وعقل الانسان نفسه يحمل في طبيعته مقتضى "ما له القيمة ويبقى دائماً". وهذا المقتضى يشكّلُ دعوة دائمة مكتوبة بنوع لا يُمحى في القلب الانساني إلى أن يسير على الطريق لكي يجد ذاك الذي ما كنا نبحث عنه لو لم يكن قد جاء إلى لقائنا. والإيمان يدعونا إلى هذا اللقاء ويفتحنا له تماماً.

11.للبلوغ إلى معرفة منهجية لمحتويات الإيمان، يستطيع الجميع ان يجدوا في "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" عوناً نفيساً وضرورياً. فهو يشكل احدى أهم ثمار المجمع الفاتيكاني الثاني. في الدستور الرسولي "وديعة الإيمان " الذي تم التوقيع عليه، ليس عن طريق المصادفة، في مناسبة الذكرى الثلاثين لإفتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني، كتب الطوباوي يوحنا بولس الثاني : "ان هذا التعليم المسيحي سيأتي بإسهام مهم جدا في عمل تجديد الحياة الكنسية كلها... اعترف به كأداة قيّمة وذات سلطة في خدمة الشركة الكنسية، ومثل قاعدة اكيدة لتعليم الإيمان".

    انما على هذا الافق بالضبط سينبغي لسنة الإيمان ان تعبّر عن التزام عام في سبيل اعادة اكتشاف ودراسة المحتويات الاساسية للإيمان التي تجد في "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" حصيلتها المنهجية والعضوية. وهنا، بالفعل، يظهر غنى التعليم الذي تلقته الكنيسة وحفظته وقدمته خلال تاريخها الممتد على ألفي سنة. فمن الكتاب المقدس إلى آباء الكنيسة، ومن اساتذة اللاهوت إلى القديسين الذين عاشوا عبر الاجيال ، يقدم "التعليم" تذكرة دائمة عن الطرق العديدة التي فيها تأملت الكنيسة في الإيمان واحدَثت تقدماً في التعليم لكي تولي يقيناً للمؤمنين في حياتهم الإيمانية.

   ان "تعليم الكنيسة الكاثوليكية " في تركيبته ذاتها، يُقدم نمو الإيمان حتى انه يمسُّ المواضيع الكبيرة للحياة اليومية. فصفحة بعد صفحة، نكتشف ان كل ما يُقدَّم ليس نظرية، بل لقاء مع شخص يحيا في الكنيسة. فإن الاقرار بالإيمان يتبعه شرح الحياة الاسرارية التي فيها المسيح حاضر وفاعل وهو يستمر في بناء كنيسته. وبدون الليتورجيا والاسرار، لما كان للاقرار بالإيمان مفعول ، لانه ستنقصه النعمة التي تدعم شهادة المسيحيين.وبالطريقة نفسها، يكتسب هذا "التعليم" في الحياة الادبية معناه كله اذا ما وُضع في علاقة مع الإيمان والليتورجيا والصلاة.

12.  في هذه السنة اذاً، سيستطيع "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" ان يكون اداة حقيقية لدعم الإيمان، لاسيما لجميع الذين يهمهم تثقيف المسيحيين، وهو امر مصيري في سياقنا الثقافي. بهذا الهدف دعوتُ، "مجمع العقيدة والإيمان" بالاتفاق مع المجامع المؤهلة للكرسي الرسولي، ان يكتبوا "مذكرة"، فيها يقدمون للكنيسة وللمؤمنين بعض توجيهات وتعليمات، لكي يعيشوا هذه "سنة الإيمان" بصورة اكثر فعالية وملائمة اكثر، في خدمة الإيمان والتبشير(الانجلة).

    فإن الإيمان يتعرض الآن اكثر من الماضي لسلسلة من التساؤلات الآتية من ذهنية متغيرة تقلِّص، اليوم بنوع خاص، مضمارَ التأكيدات العقلية في مضمار الفتوحات العلمية والتقنية. الا ان الكنيسة لم تخشَ ابداً ان تبيّن كيف ان بين الإيمان والعلم الاصيل لا يمكن ان يكون اي خلاف.لأن كليهما، وان كان في طرق مختلفة، يمتدان نحو الحقيقة.

13.  سيكون من الحاسم خلال هذه السنة ان نجوب من جديد تاريخ ايماننا الذي يرى السر الذي لا يُسبر للتشابك بين القداسة والخطيئة. فبينما الاولى (القداسة) تظهر جلياً المكسب الكبير الذي قدمه الرجال والنساء لنمو وتقدم الجماعة بشهادة حياتهم، على الثانية (الخطيئة) ان تثير في كل انسان عمل اهتداء ٍ نزيهاً ومستمراً ليختبر رحمة الآب الذي يمضي إلى لقاء الجميع.

    في هذا الوقت سنشخص نظرنا الى يسوع المسيح "مُبدئ ايماننا ومتمّمه" (عبر2:12). ففيه يجد كل عذاب وكل توق القلب البشري نهايته. فان فرح الحب، والجواب على مأساة الالم والعذاب، وقوة المغفرة امام الاهانة، وانتصار الحياة ازاء فراغ الموت، هذا كله يجد نهايته في سر تجسده، اذ تجد ملء نورها امثلة الإيمان التي وسمت الالفي سنة من تاريخنا الخلاصي.

   بالإيمان تلقت مريم كلمة الملاك وآمنت بالبشارة بانها ستصبح امَّ الله في طاعة تفانيها (لو38:1). واذ زارت اليصابات رفعت نشيد شكرها نحو العلي للعظائم التي يصنعها في كل الذين يستسلمون اليه ( انظر لو46:1-55). بفرح وقلق ولدت ابنها الوحيد الذي صان بتوليتها (لو6:2-7). ومعتمدة على زوجها يوسف حملت يسوع إلى مصر لتنقذه من اضطهاد هيرودس (متى 13:2-15). بالإيمان نفسه، تبعت الربَّ في كرازته وظلت معه حتى على الجلجلة ( انظر يو25:19-27). بالإيمان ذاقت مريم ثمار قيامة يسوع، وحفظت كل ذكرى في قلبها (انظر لو19:2، 51). ونقلتها إلى الرسل الاثني عشر المجتمعين معها في العلية لتلّقي الروح القدس ( انظر أع 14:1، 1:2-4).

    بالإيمان، ترك الرسل كل شئ ليتبعوا المعلم (مر28:10). لقد آمنوا بالكلمات التي بها كان يعلن ملكوت الله الحاضر والمحقَّق في شخصه ( لو20:11). وعاشوا في شركة الحياة مع يسوع الذي كان يثقفهم بتعليمه، تاركاً لهم قاعدة حياة جديدة بها كانوا سيُعرَفون مثل تلاميذه بعد موته (يو34:13-35). بالإيمان ذهبوا إلى العالم كله، حسب التخويل بحمل الانجيل الى الخليقة كلها ( مر15:16) وبدون اي خوف، اعلنوا للجميع فرح القيامة التي صاروا لها شهوداً أُمَناء.

   بالإيمان شكَّلَ التلاميذ الجماعة الاولى المجتمعة حول تعليم الرسل، في الصلاة، والاحتفال بالافخارستيا، واضعين في الشركة كل ما كانوا يملكون لسدّ احتياجات الإخوة (أع 42:2-47).

   بالإيمان بذل الشهداء حياتهم، للشهادة بحقيقة الانجيل الذي كان قد غيرهم وجعلهم قادرين ان يصلوا إلى اعظم هبة للمحبة بالغفران لمضطهديهم انفسهم.

   بالإيمان كرَّس رجال ونساء حياتهم للمسيح، تاركين كل شيء ليعيشوا الطاعة في البساطة الانجيلية والفقر والعفة، وهي علامة منظورة لانتظار الرب الذي لن يتأخر عن المجيء. بالإيمان قام مسيحيون عديدون بعمل في سبيل العدالة لكي يجعلوا واقعية كلمة الرب الذي جاء ليعلن التحرر من الظلم، وسنة نعمة للجميع ( انظر لو18:4-19).

   بالإيمان على مدى الاجيال، رجال ونساء من جميع الاعمار، واسمهم مكتوب في سفر الحياة ( انظر رؤيا9:7 ، 8:13)، اعترفوا بجمال اتّباع الرب يسوع حيثما كانوا مدعوين ليعطوا شهادة كونهم مسيحيين: في العائلة، وفي المهنة، وفي الحياة العامة، وفي ممارسة المواهب والخدم التي دُعوا اليها.

   بالإيمان ، نحيا نحن ايضاً: بالاعتراف الحي بالرب يسوع الحاضر في وجودنا وفي التاريخ.

14.  سنة الإيمان ستكون ايضاً فرصة مناسبة لتكثيف شهادة المحبة. ويذكّر القديس بولس: "الان تبقى هذه الامور الثلاثة : الإيمان والرجاء والمحبة، ولكن اعظمها المحبة" (1كور 13:13). وبكلمات اقوى - وهي دوماً تلزم المسيحيين-  كان يعقوب الرسول يؤكد: "ماذا ينفع، يا اخوتي، ان يقول احد انه يؤمن، إن لم يعمل؟ أبوسع الإيمان ان يخلّصه؟ فان كان فيكم اخ عريان او اخت عريانة ينقصهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم : "اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا" ولم يعطوهما ما يحتاج اليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟ وكذلك الإيمان، فان لم يقترن بالاعمال كان ميتاً في حد ذاته. وربَّ قائل يقول: "انت لك الإيمان وانا لي الاعمال". فأرني ايمانك من غير اعمال، أركَ أنا ايماني بأعمالي" (يعقوب 14:2-18).

    ان الإيمان بدون المحبة لا يأتي بثمر، والمحبة بدون الإيمان تكون شعوراً معرَّضاً للشك دوماً. فالإيمان والمحبة يتنادى احدهما الاخر، بحيث ان الواحد يتيح للآخر ان يحقق طريقه. بالفعل فان مسيحيين كثيرين يكرَسون حياتهم بمحبة لمن هو وحيد ومهمَّش ومنبوذ، كمثل من هو الاول الذي يجب الذهاب اليه، والأهمّ الذي يجب مساعدته، لأن فيه ينعكس وجه المسيح نفسه. وبفضل الإيمان نستطيع ان نتعرف في جميع الذين يلتمسون محبتنا إلى وجه الرب المنبعث. "كلما صنعتم شيئاً من ذلك لواحد من اخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه" (متى40:25) : واقوال يسوع هذه تنبيه يجب الا ننساه، ودعوة دائمة إلى اعطاء هذه المحبة التي بها يعتني بنا. والإيمان هو الذي يتيح التعرف إلى المسيح، ومحبته ذاتها هي التي تدفع الى مساعدته كل مرة فيها يجعل ذاته قريباً لنا على طريق الحياة. واذ يسندنا الإيمان، لننظر برجاء إلى التزامنا في العالم بانتظار "سموات جديدة يقيم فيها البر" (2بطرس 13:3، رؤيا 1:21).

15.   حينما بلغ الرسول بولس نهاية حياته، طلب الى تلميذه طيموثاوس "ان يطلب الإيمان" (2طيم 22:2) بالثبات نفسه كما في شبابه (انظر 2طيم15:3). لنفهم ان هذه الدعوة موجَّهة إلى كل منا، لئلا يصبح احد متكاسلاً في الإيمان. فالإيمان رفيق الحياة يتيح للمرء ان يرى بنظرة جديدة دوماً العظائم التي يحققها الله لنا. فالإيمان ملتزم بإستيعاب علامات الازمنة في "هذا اليوم" من التاريخ، وهو يحث كلاً منا على ان يضحي علامة حيّة لحضور المنبعث في العالم. وان ما يحتاج اليه العالم اليوم بنوع خاص، هي الشهادة ذات المصداقية لجميع الذين، مستنيرين بالفكر والقلب بكلمة الرب، هم قادرون ان يفتحوا قلب الكثيرين وفكرهم للشوق إلى الله والحياة الحقة، الحياة التي لا نهاية لها.

   "لتتابع كلمةُ الرب جريَها ويكون لها من الاكرام ما كان لها عندكم" (2تسا 1:3). عسى ان تستطيع هذه سنة الإيمان ان تجعل العلاقة مع المسيح الرب اكثر رسوخاً دوماً ، بما ان فيه وحده اليقين للنظر نحو المستقبل وضمان محبة أصيلة ومستمرة. وكلمات الرسول بطرس تسلط شعاعاً اخيراً من النور على الإيمان: "انكم تهتزّون له فرحاً، مع انه لابدَّ لكم من الاغتمام حيناً بما يصيبكم من مختَلف المِحن، فيمتحن بها ايمانكم وهو أثمن من الذهب الفاني الذي مع ذلك يُمتحن بالنار، فيؤول إلى الحمد والمجد والتكرمة عند ظهور يسوع المسيح، ذلك الذي لا ترونه وتحبونه، والى الان لم تروه وتؤمنون به، فيهزكم فرح لا يوصف ملؤه المجد، لبلوغكم غاية الإيمان، الا وهي خلاص نفوسكم" (1بطرس 6:1-9). ان حياة المسيحيين تعرف خبرة الفرح وخبرة الألم. ما اكثر القديسين الذين عاشوا العزلة! وما اكثر المسيحيين الذين حتى في ايامنا، يُمتَحنون بصمت الله، بينما كانوا يودّون ان يسمعوا صوته المعزّي! ان محن الحياة، في حين انها تتيح فهم سر الصليب والمشاركة في آلام المسيح(انظر قول 24:1)، هي مقدمة للفرح والرجاء اللذين يقود اليهما الإيمان : "عندما اكون ضعيفاً اكون قوياً" (2كور10:12). نؤمن بيقين ثابت بأن الرب يسوع غلب الشر والموت. بهذه الثقة الوطيدة نستسلم اليه : انه حاضر في وسطنا، وهو ينتصر على سلطة الشرير (انظر لو20:11) ، والكنيسة، جماعة رحمته المنظورة، تثبت فيه كعلامة المصالحة النهائية مع الآب.

   لنستودع أمَّ الله، التي أُعلنت "طوباوية لأنها آمنت" (لو45:1) زمان النعمة هذا.

 

أعطي في رومة، قرب القديس بطرس

                                                                   فـــــــــــــــي 11 تـشـــــــــريــــــــــــــــن الاول2011                                                                                 وهــــــــــــــــــي الســـــــــــنة الســــــابــعة لحــــــــــــبريتنا

                                                                الـــــــــــــــــبابا بندكتـــــــــــــــــــــــس الســـــــــادس عشر

Traduzione curata dal Rev. P. Albert Abouna, Iraq

 



Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana