الرسالة العامة
بالرجاء مخلَّصون
Spe salvi
للحبر الأعظم
بندكتس السادس عشر
للأساقفة والكهنة والشمامسة
للمكرسين وجميع العلمانيين المؤمنين
عن الرجاء المسيحي
مقدمة
1- “بالرجاء نحن مخلَّصون” - يقول القديس بولس للرومانيين ولنا أيضًا (روم 8، 24). حسب الإيمان المسيحي الخلاص ليس مجرّد فكرة. إن الفِداء قد وُهبَ لنا كرجاءٍ، رجاءٍ وثيق، به نستطيع أن نواجه الحياة الحاضرة التي بالرغم من كونها مُتعِبة يُمكنها أن تُقبَل وتُعاش إذا كانت تُفضي إلى غايةٍ ما، وإذا ما كنّا أكيدين من تلك الغاية، وإذا ما كانت تلك الغاية عظيمة لدرجة أنها تُبرِّرُ تعبَ المسيرة. أما الآن فهناك سؤالٌ يطرح نفسه: ما هو ذاك “الرجاء” الذي يُبرِّر لنا القول بأنه انطلاقًا منه ولمُجرَّد وجوده نحن مُخلَّصون؟ وما هو نوع الضمان الذي نقصده؟
الإيمان هو رجاء
2- قبل أن نهتمّ بالإجابة عن هذه الأسئلة التي تُقلق نفوس أناسِ عصرنا الحاضر، لنُصغِ بانتباهٍ أكبر لِما تقوله شهادة الكتاب المقدّس عن الرجاء. في الواقع إن تعبيرَ “الرجاء” لمحوريٌّ في الإيمان الكِتابيّ، لدرجة أن كلمتا “إيمان” و “رجاء” تظهران في مقاطع متعدّدة كعبارتين ذات معنى واحد. هكذا نجد أن الرسالة إلى العبرانيين تربُط بشكلٍ وثيق “الإيمان الكامل” (10، 22) بـ “شهادة الرجاء الثابت” (10، 23). ونجد الشيء ذاته في رسالة بطرس الأولى، إذ بينما تحثّ المسيحيين ليكونوا مستعدّين دائمًا ليَشهدوا عن اللوغوس – أي عن معنى ومنطق – رجاءهم (را. 3، 15)، نجد أن كلمة “رجاء” تعني أيضًا “إيمان”. إن مقارنة المسيحيّين الأوائل بين نمطِ حياتِهم المسيحيّة من جهةٍ وحياتِهم قبل الإيمانِ أو حالةِ اتباعِ الدياناتِ الأخرى من جهة ثانية، لتُظِهرُ الأهميةَ الحاسمةَ لوعيهم بأنهم نالوا الرجاء كهبةٍ جديرةٍ بالثقة. يُذكِّر بولس أهل أفسس كيف أنه قبل لقائهم بالمسيح كانوا “دون رجاءٍ ودون إلهٍ في العالم” (أف 2، 12). طبعًا هو يعرفُ أنه كانت لديهم آلهة، وكانت لديهم ديانة، لكن قد تبيَّن أن آلهتهم لم يكونوا أكيدين ولم ينتج أي رجاء عن أساطيرهم المتناقضة. بالرغم من الآلهة كانوا “دون إلهٍ” وبالنتيجة كانوا في ظلامٍ أمام مستقبلٍ ديجور. تقول إحدى الشاهدات الجنائزية في ذاك العصر “في العدم، من العدم سريعًا نعود ونسقط”[1]. كلماتٌ تُظهر بكلّ وضوحٍ ما كان يقصده بولس. بنفس المعنى يقول للتسالونيقيّين: عليكم ألّا “تحزنوا كسائر الذين لا رجاءَ لهم” (1 تس 4، 13). هنا أيضًا يبدو أن ما يميِّز المسيحيّين هو أن لهم مستقبلٌ: هذا لا يعني أنهم يعرفون تفاصيلَ ما ينتظرهم، لكنهم يعرفون بشكلٍ عام أن حياتهم لا تنتهي في العدم. فالحاضر لا يستحقّ أن يُعاش إلّا إذا كان المستقبلُ واقِعًا إيجابيًّا. هكذا نستطيع أن نقول: أن المسيحيّة لم تكن مجرَّد “بشرى سارة” - أي إعلانُ ما كانَ مجهولًا حتى ذاك الوقت. في لغتنا العصرية يمكننا أن نقول بأن الرسالة المسيحيّة لم تكن مجرّد “خبرٍ إعلاميّ”، بل “خبر تنفيذيّ”. هذا يعني أن الإنجيل ليس مجرّد معلومةٍ يمكن معرفتها، بل معلومة تثمرُ أحداثًا وتغيّر الحياة. هكذا قد شُرِّع باب الزمن المظلم. مَن له رجاءٌ يعيش بطريقة مختلفة؛ فقد أعطيَ حياة جديدة.
3- لكن هناك سؤالٌ يطرح نفسه: ما هو مضمون هذا الرجاء، هل باعتباره رجاء يكون أيضًا “فِداء”؟ إن لبَّ الإجابة قد أعطي في المقطع المذكور من الرسالة إلى أهل أفسس: فالأفسسيّين قبل لقائهم بالمسيح كانوا دون رجاءٍ، لأنهم كانوا “دون إله في العالم”. فمعرفةُ الله – الله الحقيقيّ يعني نيل الرجاء. إن امتلاك الرجاء الناتج عن اللقاء الحقيقي بهذا الإله، بالنسبة لنا نحن الذين قد عشنا دائمًا حسب الفكرة المسيحيّة عن الله واعتدنا عليها، قد اضحى غير محسوسٍ تقريبًا. هناك مثال لقدّيسٍة من عصرنا قادرٌ بعض الشيءِ على مساعدتنا لنفهم ما معنى أن يلتقي المرءُ واقعيًا وللمرّة الأولى بهذا الإله. أقصدُ هنا الإفريقية جوزيفين بَخيتة التي أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني قدّيسة. قد وُلدت نحو عام 1869 – هي نفسها لا تعرف التاريخ الصحيح – في دارفور، في السودان. وفي التاسعة من عمرها خطفها تجارُ العبيد، فَضُربَت حتى أدْمَت ثم بيعت خمسَ مرّات في أسواق السودان. في نهاية الأمر وَجدت نفسها عبدةً في خدمة والدتها وزوجةِ أحد الجنرالات، حيث كانت كلّ يومٍ تُجلَدُ حتى النزيف؛ وكنتيجةٍ لهذا حَملتْ آثارَ 144 جرحًا في جسدها. وأخيرًا، عام 1882 اشتراها أحد التجار الإيطاليين لأجل القنصل الإيطاليّ كاليستو لينياني الذي أمامَ انتشار المَهديّين عادَ إلى إيطاليا. هناك وبعد أن كانت حتى تلك اللحظة مُلكًا لـ “أسيادٍ رهيبين”، عرفت بخيتة “سيدًا” مختلفًا على الإطلاق – بلهجةِ أهل فينيسيا التي تعلَّمتها، كانت تدعو الله الحي “بارون” (أي “سيِّد”)، إلهَ يسوعَ المسيح. حتى ذاك الوقت كانت قد عرفت أسيادًا احتقروها وأساؤوا معاملتها أو على أحسن الأحوال اعتبروها عبدةً مفيدة. أما الآن، فقد سمعت عن وجودِ “بارون” فوق جميع الأسياد، ربُّ الأرباب، ربٌ صالحٌ، لا بل هو الصلاح في شخصٍ. علمت أيضًا أن هذا الربّ يعرفها هي أيضًا، قد خلقها هي أيضًا – لا بل يحبّها. هي أيضًا كانت محبوبة مِن قِبل أعظم “بارون”، الذي أمامه جميعُ الأسياد ليسوا إلّا خدمًا فقراء. كانت معروفة ومحبوبة ومُنتَظَرة. لا بل إن هذا السيِّد كان قد واجهُ هو بنفسه مصيرَ الضربِ والآن ينتظرها “عن يمين الله الآب”. الآن لها “رجاء” - ليس رجاءً متواضعًا بأن تجد أسيادًا أقل قساوةٍ، بل الرجاء الأعظم: أنا محبوبةٌ بلا رجوع ومهما يحصل فأنا مُنتَظرة مِن قِبل هذه المحبة[i]. هكذا فإن حياتي صالحة. من خلال معرفة هذا الرجاء كانت بخيتة “مفديّة”، لم تَعد تشعر نفسها عبدةً، بل ابنةً حرةً لله. كانت تفهم ما يُذكِّره بولس للأفسُسيين أنهم كانوا بدون رجاءٍ ودون إلهٍ في العالم – دون رجاءٍ لأنهم بدون إله. لهذا عندما أرادوا أن يُعيدوها للسودان رفضت بخيتة ذلك؛ لم تكن تُريد أن يفصلوها من جديد عن “بارونها”. في التاسع من كانون الثاني (يناير/كانون الثاني) 1890، نالت المعمودية والتثبيت والقربانة الأولى على يد بطريرك فينيسيا. وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر/كانون الأول) 1896، في فيرونا أبرزت نذورها الرهبانية في جمعيّة الراهبات الكانوسيات ومنذ ذلك الوقت – إلى جانب عملها في السكرستيا وبوابة رواق الدير – حاولت من خلال رحلاتٍ عديدةٍ في إيطاليا أن تدعم الرسالة: كانت تريد أن تعطي للآخرين أيضًا، لأكبر عددٍ ممكن من الأشخاص، التحريرَ الذي نالته من خلال اللقاء بإلهِ يسوعَ المسيح. الرجاء الذي وُلدَ لأجلها و”افتداها”، لم تكن لتقدر أن تحفظه لنفسها؛ كان على هذا الرجاء أن يصل الكثيرينَ، أن يصل الجميع.
فكرة الرجاء المؤسَّس على الإيمان في العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى
4- قبل أن نواجه السؤال عمّا إذا كانَ اللقاءُ بذاك الإله، الذي بالمسيح قد أظهر لنا وجهه وفتح لنا قلبه، يمكن أن يكون بالنسبة لنا أيضًا ليس مجرّد “خبرٍ إعلامي” إنما “خبر تنفيذيّ” أيضًا، أي إن كان بإمكانه تغيير حياتنا لدرجةِ أن يجعلنا نشعر بأنّنا مفديّون بفضل الرجاء الذي يحمله، لنعُد مجدّدًا إلى الكنيسة الأولى. ليس من الصعبِ أن نلحظ كيف أن خبرة العبدة الإفريقية الصغيرة بخيتة كانت أيضًا خبرةَ أشخاصٍ كثيرين قد ضُربوا وحُكمَ عليهم بالعبودية في عصر نشأة المسيحية. لم تكن المسيحية قد حَملت رسالةً اجتماعية-ثورية كتلك التي حملها سبارتاكو[ii] بواسطة صراعاتٍ ضارية والتي كُتب لها الفشل. يسوع لم يكن سبارتاكو، لم يكن محاربًا لأجل تحريرٍ سياسيّ، كبرنابا أو بار كوخبا[iii]. لقد جاءَ يسوعُ، هو نفسُه الذي مات على الصليب، بشيءٍ مختلفٍ على الإطلاق: اللقاءُ مع ربِّ جميع الأرباب، اللقاءُ مع الله الحيّ ومن ثمَّ اللقاءُ برجاءٍ أقوى بكثيرٍ من آلامِ العبوديةِ ولهذا كان يُغيِّر من الداخل الحياةَ والعالم. إنَّ ما قد حدث مِن أمرٍ جديد يَظهرُ بأقصى وضوحٍ في رسالة القديس بولس إلى فيلمون. هي رسالة شخصيّة جدًّا، كتبها بولس وهو في السجن وأودعها العبدَ الهاربَ أونسيموس ليُسلّمها لسيّده أي فيلمون. نعم، بولس يُرسل العبدَ الهاربَ إلى سيده، وهو يفعل ذلك دون أوامرٍ بل بتوسلاتٍ: “أَسأَلُكَ في أَمْرِ ابنِيَ الَّذي وَلَدتُه في القُيود [...] أَرُدُّهُ إِلَيكَ، وهو قَلْبي [...] ولَعَلَّه لم يُفصَلْ عَنكَ ساعةً إِلاَّ لِيُعادَ إِلَيكَ لِلأَبَد، لا لِيَكونَ عَبْدًا بَعدَ اليَوم، بل أَفْضَلَ مِن عَبْد، أَي أَخًا حَبيبًا [...] في الرَّبّ” (فيل 10- 16). إنَّ من كانت تسودُ بينهم العلاقات المدنية كأسيادٍ وعبيد، قد صاروا، لكونهم أعضاءً في كنيسةٍ واحدةٍ، أخوةً وأخوات – كما كان المسيحيون يُسمّون بعضهم بعضًا. كانوا قد وُلدوا ثانيةً بفضلِ المعمودية، كانوا قد ارتووا من الروحِ نفسِهِ وكانوا ينالون الواحدَ جانب الآخر جسدَ الرب. كان هذا الأمرُ يغيِّر المجتمعَ مِن الداخل حتى لو أن هيكليّته الخارجية بقيت إلى حينٍ دون تغيير. وإذا كانت الرسالة إلى العبرانيين تقول بأنه ليس للمسيحيينَ ههنا مسكنٌ باقٍ، بل هُم يطلبون ذاك الباقي (را. عب 11، 13- 16؛ فل 3، 20)، هذا لا يعني أنهم يؤجّلون ببساطةٍ الأمورَ إلى المستقبل: إنهم لا يعتبرون المجتمع الحاضر كمجتمع بكلّ معنى الكلمة؛ فهم ينتمون إلى مجتمعٍ جديد، يسيرون نحوه، ويستبقونه بحياتهم كحُجّاجٍ.
5- علينا أن نضيفَ أيضًا وجهة نظرٍ أخرى. تُظهر لنا الرسالة الأولى لأهل قورنتس (1، 18- 31) أن عددًا يسيرًا من المسيحيين الأوائل كان من الطبقة الفقيرة، ولهذا السبب كان جاهزًا لخبرةِ الرجاء الجديد، كما رأيناهُ في مَثَلِ بخيتة. مع ذلك ومنذ اللحظة الأولى كان بين المهتدين أناسًا من الطبقةِ الأرستقراطية والمثقفة. ذلك أنهم هم أيضًا كانوا يعيشون “دون رجاءٍ ودون إلهٍ في العالم”. كانت الأساطير قد فَقدت مصداقيّتها؛ وديانةُ الدولةِ الرومانيةِ قد تحجَّرت متحوّلةً إلى مُجرّدِ طقوسٍ تُقام بالتفصيل، لكنها لم تكن سوى “ديانة سياسية”. وكانت العقلانيةُ الفلسفيةُ قد وَضَعت الآلهةَ في حدودِ اللاواقع. كانت تتخيل الألوهةَ بأشكالٍ عديدةٍ في القوى الكونية، لكن لم يكن هناك إلهٌ يمكنُ اللجوءَ إليه. يُوضحُ بولس المشكلةَ الجوهريةَ لديانةِ ذلك العصر بشكلٍ مناسبٍ جدًا، إذ يُقارنُ بينَ الحياة “بحسب المسيح” والحياةُ تحتَ سيادة “عناصر الكون” (قول 2، 8). هنا يمكن لنصٍّ من نصوص غريغوريوس النازيانزي أن يوضّح لنا الأمور. فهو يقول بأنه منذ اللحظة التي سَجَدَ فيها المجوس، المُقادون مِن النجمة، للملك الجديدِ المسيح، جاءت نهايةُ علم النجوم، لأن الكواكبَ تدورُ من الآن وصاعدًا وفق الفلَكِ الذي حدَّدهُ المسيح[2]. في الواقع، من خلال هذا المشهد، تنقلب جذريًا فكرة العالم آنذاك، التي وإن بشكلٍ مختلفٍ، تروج من جديدٍ في أيامنا. فليست عناصرُ الكون، أو شرائعُ المادّةِ هي التي تقودُ في النهايةِ العالمَ والإنسان، بل إنه إلهٌ شخصيٌّ ذاك الذي يقودُ الكواكب أي الكون؛ ليست شرائع المادّةِ والتطوّرِ هي صاحبة كلمة الفصل، بل العقل، الإرادة، المحبة – أي شخص. وإذا ما عرفنا هذا الشخص وهو عَرَفنا فليس للقوى الحتمية لعناصر المادّة، في الحقيقة، أن تملك كلمة الفصل؛ وبالتالي لسنا عبيدًا للكون وشرائِعِهِ، إذًا نحنُ أحرار. لقد أرشدَ قديمًا هذا الوعيُ أولئك الباحثين المنفتحين. ليستِ السماء بخالية. وليست الحياةُ مجرَّدَ نتاجٍ لشرائعِ المادّة وصدفتها، بل في كلّ شيءٍ وأسمى من كلّ شيء، هناك إرادةٌ شخصيةٌ، هناك روحٌ قد ظهر بيسوعَ على أنه محبّة[3].
6- تُظهر نواويس[iv] المسيحيين الأوائل بشكلٍ مرئيّ هذه الفكرة – أمام الموت لا يمكننا أن نتحاشى السؤال عن معنى الحياة. على النواويس القديمة نجد صورة المسيح مُمثَّلة من خلال شكلين: الفيلسوف والراعي. لم تكن الفلسفة في آنذاك تعني عِلمًا أكاديميًّا صعبًا، كما هي اليوم. فقد كان الفيلسوف بالأحرى مُعلّمًا للفنّ الجوهري: أي كيف يعيشُ الإنسان ذاتَه بطريقةٍ صحيحة – إنه فنُّ الحياة والموت. من المؤكد أن الناسَ آنذاك قد انتبهوا كيف أن كثيرًا ممّن كانوا يجولون مدّعين الفلسفة وقائلين بأنهم معلّمين للحياة لم يكونوا سوى منافقين يبغون الربح بكلامهم، بينما لم يكن عندهم أيُّ شيء يفيدُ لأجل الحياة الحقيقية. مما كان يَدفع الناس للبحثِ عن الفيلسوف الحقّ الذي يعرفُ كيف يرشِدُ إلى طريقِ الحياة. على ناووس أحدِ الأطفال، العائد لنهاية القرن الثالث، وللمرة الأولى في روما نجد تصويرًا لمشهدِ إحياءِ لعازار فيه يظهرُ المسيح كالفيلسوف الحق، حاملًا الإنجيل في يدٍ وفي الأخرى عصا الرحّالة الخاصة بالفلاسفة. بعصاهُ هذه ينتصرُ على الموت؛ الإنجيلُ يُعلنُ حقيقةَ أنَّ جميعَ الفلاسفةِ الرحّالين قد بحثوا عَبثًا. في هذه الصورةِ، التي دامت لوقتٍ طويلٍ في فن النواويس، تظهر نظرةُ الأشخاصِ المثقّفين والبُسطاء للمسيح: هو يُخبرنا حقيقةَ الإنسان وما عليه أن يفعلَ ليكونَ بالحقيقةِ إنسانًا. هو يُرشدنا إلى الطريقِ وهذا الطريقُ هو الحقيقة. هو الطريق والحق ولذلك فهو الحياة التي نبحث عنها جميعًا. هو يُرشدنا أيضًا إلى طريق ما بعد الموت؛ وحده من يقدرُ أن يفعلَ هذا يمكن أن يُعتَبر معلّمَ حياةٍ حقيقيّ. ذات الشيء يَظهر في صورة الراعي. كما هي الحال بالنسبة لصورة الفيلسوف كذلك الأمر بالنسبة لصورةِ الراعي، كان المسيحيّون يستعيرونَ أنماطًا من الفن الروماني. في هذا الفن كانت صورة الراعي عمومًا تعبيرًا عن حلمِ أهلِ المدنِ الكبرى المليئةِ بالفوضى وحنينهم لحياةٍ هادئةٍ بسيطة. أما في المسيحيةِ فقد صار لهذه الصورةِ تأويلٌ آخرٌ في إطارٍ جديدٍ يمنحها محتوى أعمق: “الرَّبُّ راعِيَّ فما مِن شيَءٍ يُعوِزني... إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي...” (مز 23 [22]، 1. 4). إن الراعي الحقيقي هو ذاك الذي يعرفُ أيضًا الطريقَ التي تمرُّ عبر وادي الموت؛ ذاك الذي يمشي معي حتى في طريق الوحدةِ الأخيرة حيث لا أحد يستطيعُ أن يُرافقَني، هو معي يقودني لأجتازها: هو نفسُهُ اجتازَ هذه الطريق، لقد هبطَ إلى ملكوتِ الموت، فانتصر عليهِ وعاد الآن ليُرافقنا ويعطينا الضمانَ أننا معه يمكننا أن نجدَ طريقَ العبور. إن وعيَ حقيقةِ أنّ هناك من يُرافقنا حتى في الموت و “بِعصاهُ وعُكازه يُعزّيني” حتى “لا أخاف سُوءًا” (را. مز 23 [22]، 4) كان هو “الرجاءُ” الجديدُ الذي أشرقَ على حياة المؤمنين.
7- علينا أن نعودَ ثانية للعهد الجديد. في الفصل الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين وفي العدد الأول نجد نوعًا من تعريفٍ للإيمان يربط هذه الفضيلة بالرجاءِ بشكلٍ وثيق. لقد نشأ خلاف بين شُرّاح الكتاب المقدس منذُ أيام الإصلاح، حول الكلمة المحورية في هذه الجملة، خلافٌ يبدو أنه يفتحُ لنا اليومَ الطريقَ لتأويلٍ مشترَك. أترك حاليًا الكلمة المحورية دون ترجمة. فتكون الجملة إذًا كالآتي: “الإيمان هو هيبوستازيس (hypostasis) الأمور المَرجوّة؛ بُرهان الأشياء اللامرئيّة”. بالنسبة لآباء الكنيسة ولاهوتيي القرون الوسطى كان من الطبيعي ترجمة هذه الكلمة اليونانية (hypostasis) بالتعبير اللاتينيّ سوبستانسيا substantia[v]. تكون الترجمة اللاتينية للنص، أي تلك التي نشأت في الكنيسة القديمة كالتالي: “Est autem fides sperandarum substantia rerum, argumentum non apparentium” - الإيمان هو “جوهر” الأمور المرجوّة؛ برهان الأشياء اللامرئية. يشرحُ القديس توما الأكويني[4]هذه الجملة معتمدًا على التعبير السائد في التقليد الفلسفيّ آنذاك، فيقول: الإيمان هو “habitus” أي “جاهزية النفس الدائمة” التي بفضلها تبدأُ فينا الحياة الأبدية ويُحمَل العقل على قبول ما لا يراه. ففكرة “الجوهر” تغيَّرتْ هنا واتخذت مبدئيًا معنى “بذرة” الإيمان. لذا فالأمور التي نرجوها موجودة منذ الآن فينا حسب “الجوهر”: أي كلّ شيء، الحياة الحقيقية. فوجود هذه الأمور فينا حاليًا هو بمثابة تأكيدٍ لنا بشأن ما هو آتٍ: هذا “الشيء” الآتي ليسَ مرئيًا بَعدُ في العالم الخارجي (فهو غير “ظاهر”)، لكن بما أنه واقعٌ قد بدأ فينا ويحملُ في ذاته حيويةً، فإننا قادرون على تحسُّسه شيئًا ما. أما بالنسبة للوثر – الذي لم تكن الرسالة إلى العبرانيين بحد ذاتها تعجبه كثيرًا – ففكرة “الجوهر” لم تكن تعني شيئًا في إطار رؤيته للإيمان. لهذا لم يفهم التعبير هيبوستازيس / جوهر بالمعنى الموضوعيّ (أي كحقيقة حاضرة فينا)، بل بالمعنى الشخصيّ، أي كتعبير عن موقف داخليّ، وبالتالي كان عليه أن يفهم أيضًا تعبير “argumentum” (“برهان”) على أنه جاهزيَّة الشخص [بالنسبة للإيمان]. وقد ساد هذا التأويل أيضًا الشروح الكاثوليكية في القرن العشرين أقله في ألمانيا، فكانت ترجمة العهد الجديد المسكونية الألمانية التي وافق عليها الأساقفة تقول: “Glaube aber ist: Feststehen in dem, was man erhofft, Überzeugtsein von dem, was man nicht sieht” (“الإيمان هو: الرسوخ بما يُرجى. الاقتناع بما لا يُرى”) هذا ليس خاطئًا بحدّ ذاته؛ لكنه لا يُعبِّر عن معنى النصّ، لأن التعبير اليوناني المُستَعمَل (elenchos) لا يُشير إلى “قناعةٍ” شخصيّة، بل إلى “برهانٍ” موضوعيّ. من جهةٍ ثانية قد توصّلت الشروحات البروتستانتية الحديثة إلى قناعةٍ مختلفة: “لا يُمكن الشكّ بعد الآن بخطأ هذا التأويل البروتستانتي الذي قد أضحى معروفًا”[5]. فالإيمان ليس مجرّد سعيٍ شخصيٍّ نحو الأمور العتيدة أن تأتي والتي ما زالت غائبة كُليًّا؛ ذلك أن الإيمان يَمنحنا شيئًا. فهو يُعطينا منذ الآن شيئًا من الواقع المُنتَظَر، وهذا الواقع الحاضر هو لنا بمثابة “برهان” للأمور التي لا تُرى بعد. يشملُ الإيمان في ذاتِهِ الحاضرَ والمستقبل، بحيثُ أن المُستقبَل لا يعودُ مجرّد “ما لم يحدث بعد”. فوجود هذا المُستَقبل يُغيّر الحاضر؛ والواقع المستقبلي يلمُس الحاضر فِتَنْسَكِبَ الأمور الآتية في تلك الحاضرة والحاضرة في الآتية.
8- يَنالُ هذا التفسيرُ تأكيدًا آخر ويُربَطُ بالحياة الواقعية إذا ما اعتبرنا العدد 34 من الفصل العاشر من الرسالة إلى العبرانيين، التي ترتبط بتعابيرها ومحتواها بتعريف الإيمان المليء بالرجاء والمُحضِّر له. في هذا المقطع يتوجّه الكاتب إلى المؤمنين الذين عانوا خبرةَ الاضطهاد فيقول لهم: “شاركتم السُجناء في آلامهم وصبرتُم فرحين على سلبِ خيراتكم (hyparchonton – Vg: bonorum)، عارفين أنَّ لكم خيراتٍ أفضل (hyparxin – Vg: substantiam) لا تزول” “hyparchonta”. هي الأملاك أي ما يَسند حياة الإنسان الأرضيّة، إنها الأساس، أي “جوهر” الحياة الذي يُعتمَد عليه. هذا “الجوهر” الذي يُشكّل ضمانةً طبيعيةً للحياةِ قد سُلبَ من المسيحيين خلال الاضطهاد. وهم قد احتملوا ذلك لأنهم يعتقدون بأن هذا الجوهر الماديّ هو أمرٌ ثانوي. كان بإمكانهم تركه بسبب عثورهم على “أساسٍ” أفضل لحياتهم – ذاك الأساسُ الباقي الذي لا يمكنُ لأحدٍ أن ينزعه منهم. لا يمكننا هنا ألّا نلاحظَ العلاقة القائمة بين هذان “الجوهران” أي بينَ ما هو ضروريٌ للحياة، أي الأساس المادّي، والإيمان الذي يُعتَبَرُ “أساسًا”، كونه “الجوهر” الذي لا يفنى. فالإيمانُ يمنحُ الحياةَ أساسًا جديدًا، قاعدةً يمكن للإنسانِ أن يستند عليها، بهذا الشكل نجدُ أن الأساس الماديّ والوثوقُ بما تقدّمه المادّة يغدوان نسبيَين. ويُصبح المؤمنون أحرارًا تجاهَ أساسِ الحياة هذا الذي لا يقدرُ أن يسندَ الإنسان إلّا بشكلٍ ظاهريّ، وبهذا لا نودُّ طبعًا أن ننكرَ معناهُ الطبيعي. ولم يظهر واقع هذه الحرية الجديدة وهذا الوعي للـ “جوهر” الجديد المُعطى لنا من خلال الاستشهاد وحسب. نعم فبالاستشهاد قد واجهَ الأشخاصُ الايدولوجيات العظيمة وتجهيزاتها السياسية ومن خلال موتهم قد جدَّدوا العالم. إلّا أنه (أي واقع الحرّية والوعي للجوهر الجديد) قد ظهرَ أيضًا من خلال التضحيات الكبيرة بَدءًا من المتوحّدين القدماء حتى فرنسيس الأسّيزي وصولًا إلى عصرنا الحاضر، حيث أن أشخاصًا قد دفعهم حبُّ المسيح لترك كلّ شيء والتحقوا بالجمعيات والحركات الرهبانية، كي يحملوا للناس الإيمانَ ومحبّةَ المسيح، وليُساعدوا الأشخاصَ المتألمين في أجسادِهم ونفوسِهم. بهذا لنا بُرهانٌ عن أن “الجوهرَ” الجديدَ هو في الحقيقة “جوهرٌ”، ومن خلال رجاءِ أولئكَ الأشخاص الذين لمسهم المسيح ينبعُ رجاءُ الآخرين، رجاءُ أشخاصٍ يعيشون في الظلام ودون رجاء. بهذا قد تبيَّن أن هذه الحياة الجديدة تملك حقًّا “جوهرًا” قادرًا على إعطاء الحياة للآخرين. إنَّ عَمَلَ هذه الشخصّيات وحياتها لـ “برهانٌ” حقيقيٌّ، لنا نحن الذين نشاهدُها، بأن الأمور الآتية أي وَعدُ المسيحِ ليسَ مجرَّد واقعٍ مُنتَظر، بل هو حاضرٌ حقيقيّ: المسيحُ هو بالحقيقة “الفيلسوف” و “الراعي” الذي يُرشدنا إلى ماهيّة الحياةِ ومكان وجودها.
9- كي نفهم بشكلٍ أعمق هذه التأمّلات عن “الجوهرين” أي hypostasis (جوهر) وhyparchonta (خيرات) وعن نمطيّ الحياة التابعين لهما، علينا أن نتأمّل قليلًا في كلمتين متعلّقتين بالموضوع، نجدهما في الفصل العاشر من الرسالة إلى العبرانيين. الكلمتان هما “hypomone” في (10، 36) و “hypostole” في (10، 39). تُترجم عادة كلمة “hypomone” بـ “صبر” - ثبات ومثابرة. أن يعرفَ المؤمنُ كيف ينتظرُ متحملًا التجارب بصبرٍ لأمرٌ ضروريٌّ بالنسبة له كيما “ينال الوعد” (را. 10، 36). كانت تُستعمل هذه الكلمة في الديانة اليهودية القديمة لتُعبِّرَ عن انتظار إسرائيل لله، عن تلك المثابرة في الأمانة لله بحسبِ ضمانةِ العهد، في عالمٍ قد نصَّب ذاته ضدَّ الله. هكذا تُعبّر هذه الكلمة عن رجاءٍ مُعاش، عن حياةٍ مؤسَّسةٍ على ضمانِ الرجاء. أمّا في العهد الجديد فيكتسبُ انتظار الله هذا، أي الحياة معه معنى جديدًا: لقد كشف الله عن ذاتِهِ في المسيح. لقد منحنا “جوهر” الأمور الآتية، بهذا يكتسبُ انتظارُ الله ضمانًا جديدًا. فهو انتظار للأمورِ الآتيةِ على أساسِ الحاضرِ المُعطى لنا منذ الآن. هو انتظارٌ نحياه في حضور المسيح، انتظارُ اكتمال جسدِ المسيح بينما هو حاضرٌ وذلك بالنظر إلى مجيئه النهائيّ. أما كلمةُ “hypostole” فتُعبِّر عن ارتدادِ من لا يجرؤ أن ينطقَ بالحقيقةِ علنًا وصراحةً، ربّما لأنّها خطيرة. تعبِّر الكلمةُ عن التخفّي عن وجه البشر بروحِ الخوف منهم، تَخفٍّ يؤدّي إلى “الهلاك” (عب 10، 39). “ما أعطانا الله روحَ الخوفِ، بل روحَ القوّة والمحبّة والفطنة” - هكذا تعبر الرسالة الثانية لتيموثاوس، بعبارةٍ جميلة، عمّا يُميّز موقف المسيحي النابع من القلب.
ما هي الحياة الأبدية؟
10- تحدّثنا حتى الآن عن الإيمان والرجاء في العهد الجديد وفي بدايات المسيحيّة؛ لكن كان واضحًا كيف أن حديثنا لا يخصّ الماضي فقط؛ فمجملُ التأمّل يختصُّ بشؤون حياةِ وموتِ الإنسان بشكلٍ عام ولذا فهو يختصّ بنا نحن أيضًا هنا والآن. علينا أن نطرحَ على ذواتنا السؤال الصريح: هل الإيمانُ المسيحيّ هو لنا أيضًا اليوم رجاءٌ يُغيِّرُ حياتنا ويسندها؟ هل هو لنا “خبرٌ تنفيذيّ” - رسالةٌ تُعيد تشكيلَ الحياةِ نفسها، أم أنه قد أضحى مع مرورِ الوقت مجرّدَ “خبرٍ إعلاميّ” قد همَّشناهُ لأنه بدا لنا كشيءٍ عفا عليهِ الزمن أمامَ المعلومات الأحدث؟ في بحثي عن جوابٍ أودُّ أن أستهلَّ حديثي بذكرِ الحوارِ التقليديّ الموجود في رتبة المعمودية والذي يُعبِّر عن ترحيب جماعةِ المؤمنين بالمولود الجديد وعن ولادتِهِ الثانية في المسيح. فالكاهن يسأل قبل كلّ شيء الأهلَ عن الاسم الذي اختاروه لطفلهم، ثم يتابع بسؤالِهِ: “ماذا تطلبُ من الكنيسة؟” فيكون الجواب: “الإيمان”. “وماذا يمنحكَ الإيمان؟” “الحياة الأبدية”. حسب هذا الحوار فإن الأهل يطلبونَ لابنهم الدخولَ في الإيمان والشركة مع المؤمنين، لأنهم يرون في الإيمان مُفتاحَ “الحياة الأبدية”. في الواقع هذا هو شأن المعمودية اليوم كما كان في السابق، عندما يُصبح المرءُ مسيحيًّا: فهي ليسَت مجرّد فعلٍ به ينضمُّ إلى الجماعة، وليست مجرّد قبولٍ في الكنيسة. فالأهلُ يرجونَ ما هو أكثر لابنهم: يرجونَ أن يُمنحَ الإيمانُ – الذي يشملُ في ذاته أيضًا الكنيسةَ كجسدٍ مع أسرارها – يرجونَ الحياةَ، أي الحياة الأبدية. الإيمان هو جوهرُ الرجاء. هنا ينشأ السؤال: هل نريد نحن حقًّا هذا؟ هل نريد أن نعيشَ للأبد؟ ربما اليوم هناك كثيرٌ من الأشخاصِ الذين يرفضون الإيمان ببساطة لأنهم لا يعتقدون بأن الحياة الأبدية أمرٌ مرغوبٌ فيه. هم لا يريدون أبدًا الحياةَ الأبدية، بل الحياة الحاضرة، ولتحقيقِ هدفهم هذا يبدو أن الإيمان بالحياة الأبديةِ ليس إلّا عائقًا يقف في وجههم. أن يستمرّ الإنسان في العيش إلى الأبد – دون نهاية – يبدو لهم حُكمًا قاسيًا أكثر من كونه عطيّة. طبعًا هم يُريدون تأجيل الموت قدر المستطاع، لكن أن يعيشوا على الدوام، دون نهاية لا يبدو لهم إلّا أمرًا مُملًا وفي النهاية حِملًا لا يُطاق. هذا بالضبط ما يقوله، على سبيل المثال، أمبروسيوس أحد آباء الكنيسة، في حديثهِ عند وفاةِ أخيهِ ساتيروس: “صحيحٌ أن الموتَ لم يكن جزءًا من الطبيعة [البشرية]، لكنه قد صارَ واقعًا فيها؛ فالله لم يؤسِّس الموتَ منذُ البدء، بل منحهُ كدواءٍ [...] بسبب العصيان قد أخَذَتْ حياةُ البشرِ تتحوّلُ إلى شقاءٍ في تعبٍ يوميِّ وبكاءِ لا يُحتَمل. كان يجب أن يُوضَعَ نهايةً للشرِّ، كيما يُرجِع الموتُ ما كانت الحياة قد فقدتهُ. فالخلودُ أكثرَ من كونه امتياز هو همٌّ، إن لم تُنِرْهُ النعمةُ”[6]. قبل ذلك كان أمبروسيوس قد قال: “علينا ألّا نبكيَ الميتةَ، لأنها سببُ خلاصٍ...”[7].
11- مهما كان يقصد القديس أمبروسيوس بكلامه – فصحيحٌ أن إزالةَ الموتِ أو حتى تأجيله المستمرّ تضعُ الأرضَ والبشريةَ في حالةٍ فظيعة كما أنه لا يفيد الفرد نفسه. من الواضح أن هناك تناقضًا في موقفنا يُعبِّرُ عن تناقضٍ أعمق يخصُّ وجودَنا نفسه. من جهةٍ، نحن لا نريد أن نموتَ؛ وفوق كلّ شيء مَن يُحبّنا لا يُريدُ أن نموتَ. ومن جهةٍ أخرى، لا نرغب في أن نستمرَّ في الحياة على الدوام، ولا حتى الأرض قد صُنِعت لهذا الهدف. فإذًا، ماذا نريدُ في الحقيقة؟ يَطرحُ هذا التناقضُ الظاهريُّ في موقفنا سؤالًا أعمق: ما هي حقيقةُ “الحياة”؟ وماذا يعني في الحقيقةِ كلمة “أبدية”؟ هناك لحظاتٌ نستشعرُها بشكلٍ مفاجئ ونهتف: نعم، تلك هي “الحياةُ” الحقيقية، هكذا يجب أن تكون. وإذا ما قارنا ما ندعوه “حياةً” بشكلٍ معتاد مع هذا الاستشعار نجد أن ما ندعوه حياةً ليس في الحقيقة بحياة. في رسالته المُطوَّلة عن الصلاة، الموجَّهة إلى بروبا – أرملة رومانية ثرية وأم لثلاثة قناصل – كتب أغسطينوس ذات مرّة: “في الواقع نحن نريدُ شيئًا واحدًا – “الحياة السعيدة”، الحياة التي هي ببساطة “حياة”، ببساطة “سعادة”. في نهاية الأمر لا يوجد شيءٌ آخر نطلبُهُ في الصلاة. هذا هو الأمر الوحيد الذي نسعى إليه، هذا هو فقط”. بعد ذلك يقول أيضًا أغسطينوس: إذا أمعنّا النظر نجد أنّنا لا نعرف أبدًا ماذا نرغبُ، ماذا نودُّ في الواقع. نحن لا نعرف أبدًا واقع ما نرغب؛ حتى في تلك اللحظات التي نظنُّ أننا لمسناهُ، في الحقيقة نحنُ لا نَصلُ إليه. “نحن لا نعرف ما نطلب”، يعترف مستخدمًا كلمة بولس (روم 8، 26). ما نعرفه فقط هو أنّه ليس هذا. مع ذلك، ومع أننا لا نعرف هذا الواقع، نعرف أنه موجودٌ. “فينا إذًا نوعٌ من الجهلِ المُثقَّف (docta ignorantia)” يكتب أغسطينوس. لا نعلمُ ما نريدُ في الحقيقة؛ لا نعرفُ هذه “الحياة الحقيقية”؛ ومع ذلك نعلمُ أنه لا بدَّ من وجودِ شيءٍ ما نجهلهُ لكننا نشعر باندفاعنا إليه[8].
12- أعتقد أن أغسطينوس، بهذه الكلمات، يصفُ بشكلٍ دقيقٍ جدًا وصالحٍ لكلِّ زمن حالةَ الإنسانِ الجوهرية، الحالة التي عنها تنتج كلّ تناقضاته وآماله. نحن نرغبُ بشكلٍ من الأشكال الحياةَ نفسها، تلك الحقيقية، تلك التي لا تصلُ إليها يدُ الموتِ؛ وفي نفس الوقت لا نعرفُ ما هو الشيء الذي نشعرُ بأننا مندفعين نحوَه. نحن لا نستطيع إيقافَ هذا الاندفاع ومع ذلك نعرف بأنَّ كلّ ما نقدرُ أن نختبرَ ونحقِّق ليس هو الشيء الذي إليهِ نصبو. هذا “الشيء” المجهول هو “الرجاء” الحقيقيّ الذي يدفعنا، وكونه مجهولًا يجعلُهُ، في نفس الوقت، سببَ كلِّ اليأس وكلّ الاندفاع الإيجابيّ أو المُحطِّم نحو العالَم الأصيل والإنسان الأصيل. إن تعبير “الحياة الأبدية” هو عبارة عن تسمية تشير إلى ذلك الواقع المجهول المعلوم. وهي طبعًا عبارة غير كافية وتُسبّب تشويشًا. فكلمة “أبدية” توقظُ فينا فكرة اللانهاية، وهذا يخيفنا؛ أمّا كلمةَ “حياة” تجعلنا نفكّر بالحياة التي نعرفها ونحبّها ولا نريد أن نخسرها، والتي هي في نفس الوقت تعبٌ أكثر من كونها إشباعًا، هكذا بينما نحن نرغبُ فيها من جهةٍ لا نريدها من جهةٍ أخرى. نحن لا نستطيع إلّا أن نُحاولَ الخروجَ بأفكارنا من حدودِ الزمن الذي نحن سُجناء فيهِ، فنستبقُ بشكلٍ من الأشكال الأبديّة التي ليست عبارةً عن أيامِ رزنامةٍ تتابعُ يومًا تلو الآخر، بل شيئًا ما كلحظةٍ يملأها الإشباع، فيها يُعانقنا الكلُّ ونحن نعانق الكلّ. ستكون لحظةُ انغمارنا في محيطِ المحبّة اللامتناهي، حيث الزمنُ – ما قبلُ وما بعدُ – يكفُّ عن الوجود. نحن لا نستطيعُ إلّا أن نفكّر أن تلك اللحظة هي الحياةُ بالمعنى الكامل، انغمارٌ مستمرٌّ في فساحةِ الكيان، يُرافقه فرحٌ يغلبُ كياننا. هكذا يُعبّر عنهُ يسوعُ في إنجيل يوحنا: “سأعودُ فأراكم، فتفرحُ قلوبُكم فرحًا لا ينتَزعهُ منكم أحدٌ” (16، 22). إذا أردنا أن نفهم غايةَ الرجاء المسيحيّ وما ننتظره من الإيمان ومن كوننا في المسيح، علينا أن نفكّر بهذا الشكل[9].
هل الرجاء المسيحي ذو نزعة فردية؟
13- على مرّ العصور، حاول المسيحيّون أن يُترجموا معرفتهم لهذا الشيء المجهول بأشكال يمكن تخيّلها، وقد طوَّروا صورًا للـ “سماء” تبقى بعيدة عن الحقيقة التي يمكننا معرفتها فقط بطريقة سلبيّة، أي عن طريق اللامعرفة. جميع هذه التصوّرات عن الرجاء قد أعطَت الكثيرينَ عبر التاريخ الدافع ليعيشوا حسب الإيمان وليتخلّوا أيضًا عمّا يملكوه من “hyporchonta” أي الخيرات الماديّة اللازمة لحياتهم. لقد سردَ كاتب الرسالة إلى العبرانيين في الفصل الحادي عشر منها نوعًا من تاريخِ أولئك الذين عاشوا في الرجاء، واصفًا مسيرتهم، منذ هابيل حتى عصره. إلّا أنّه في عصرنا الحديث قد ظهر نقدٌ شديدٌ لهذا النوع من الرجاء وما زال متصاعدًا في حدَّته: فهو يتّهمُ هذا الرجاء بأنه ذو نزعة فرديّة صافية، لأنه يتخلّى عن العالم تاركًا إياه في شقائه بينما يلجأُ إلى خلاصٍ أبديّ فرديّ. لقد جمع هنري دو لوباك (Henri de Lubac) في مقدّمة كتابه الأكثر شهرةً “الكاثوليكية. مظاهر العقيدة الإجتماعية” “Catholicisme. Aspects sociaux du dogme” . بعض هذه الانتقادات، منها واحدة تستحقّ الذكر: “هل وجدتُ الفرح؟ لا ... لقد وجدتُ فرحي أنا. إنه لأمرٌ مختلفٌ بشكلٍ رهيب ... إنَّ فرحَ يسوعَ يمكن أن يكون فرديًا. يمكنه أن يعودَ لشخصٍ واحدٍ، وبالتالي فذاك الشخصُ يَخلُص. هو يعيشُ بسلامٍ...، الآن وللأبد، لكنّه يعيشه هو وحده. لا يقلقه أن يعيشَ الفرحَ وحيدًا. لا بل على العكس: فهو المُختار! في سعادته يجتازُ الصراعات حاملًا وردةً في يده”[10].
14- إلّا أن دو لوباك قد استطاع، بالاعتماد على غنى لاهوت الآباء، أن يبرهن كيف أنَّ الخلاصَ قد اعتُبرَ دائمًا واقعًا جماعيًا. حتى الرسالة إلى العبرانيين تتكلّم عن “مدينة” (را 11، 10. 16؛ 12، 22؛ 13، 14) وبالتالي فهي تقصد الخلاص الجماعيّ. على نفس المنوال قد اعتبر آباء الكنيسة الخطيئة كواقعٍ يُقوِّض وحدة الجنس البشريّ، مشرذمًا ومُقسِّمًا إياهُ. هكذا فإن بابل، حيث تشتَّتَتِ الألسنةُ وانقسمت، تعبِّر عن أصولِ الخطيئة. فيكون “الفداءُ” إعادةً للوحدة، فنعود ونلتقي معًا في وحدةٍ تتجلّى في جماعةِ المؤمنين حول العالم. ليس من الضروري أن نعرضَ هنا جميع النصوصِ التي تُظهر طابعَ الرجاء الجماعيّ. لنبقى مع الرسالة إلى بروبا التي يحاول فيها أغسطينوس أن يوضّح قليلًا معالِمَ ذاك الواقع المجهول المعلوم الذي نَجِدُّ في البحثِ عنه. العِبارةُ التي ينطلق منها هي ببساطة “حياة طوباوية [سعيدة]”. بعد ذلك يذكر المزمور 144 [143]، 15: “طوبى للشعب الذي إلهُهُ الربُّ”. ويكمِلُ قائلًا: "لنتمكن من الانتماء لهذا الشعب والوصول [...] للحياة الدائمة مع الله، “غاية الوصية هي المحبّة الصادرة عن قلبٍ طاهر وضميرٍ صالح وإيمانٍ صادق” (1 طيم 1، 5)"[11]. إن هذه الحياة الحقيقية التي نسعى دائمًا إليها لمرتبطةٌ بالضرورةِ مع “شعبٍ” ما في وحدةٍ وجوديّةٍ، وهي لا يمكن أن تتحقّق على الصعيد الفرديّ إلّا ضمن إطار “الجماعة”. فهي تفترض الخروجَ من سجن “الأنا”، لأنه فقط بواسطة انفتاح هذا الأنا الكونيّ يستطيع أن ينفتح على نبع الفرح، نبع المحبة نفسه – أي الله.
15- صحيحٌ أنَّ هذه النظرة الجماعية للـ “الحياة السعيدة” تهدفُ لغايةٍ تتجاوزُ العالمَ الحاضر، لكن لهذا السبب بالذات نجدها مرتبطةً ببناءِ العالم أيضًا، من خلال وسائلَ عديدةٍ مختلفةٍ، وبحسبِ الإمكانيات التي يوفّرها أو يَمنعها الواقع التاريخيّ. في عصر أغسطينوس، عندما شرعَ غزوُ شعوبٍ جديدةٍ يُهدِّدُ تماسُكَ العالم الذي كان يضمنُ نوعًا ما الحقوق والحياة ضمن جماعةٍ خاضعةٍ للقانون، كان من الواجب الحفاظُ على أسسِ تلك الجماعة قويةً، أسسِ الحياةِ والسلام، لأجل إمكانية الاستمرار في العيش بالرغم من التغييرات الواقعة في العالم. لنحاولُ الآن أن نلقي نظرةً خاطفةً على إحدى لحظات القرون الوُسطى المهمّة. كانت الأديرةُ آنذاك تُعتَبرُ أماكنَ الهروب من العالم، أماكنَ التخلّي عن المسؤولية تجاهه من أجل البحث عن خلاص الفرد. أما برناردو دي كيارافالي (Bernardo di Chiaravalle)، الذي حملَ الكثيرين على دخولِ الأديرة بواسطةِ رهبنيَّته المُصلَحة، فقد كانت لديه نظرةً مختلفةً تمامًا. كان يعتقدُ بأن على المتوحّدينَ واجبٌ تجاهَ الكنيسةِ جمعاء وبالنتيجة تجاهَ العالم أيضًا. كان يشرحُ بصُوَرٍ متعدّدةٍ مسؤوليةَ المتوحّدين تجاه جسدِ الكنيسةِ بأكملهِ، لا بل تجاهَ الإنسانية؛ كان يُطبِّق عليهم الكلمة المنسوبة لِروفينو (Pseudo-Rufino): “يعيشُ الجنسُ البشريّ بفضلِ قليلين؛ إن لم يُوجَدوا هؤلاء يهلكُ العالم...”[12]. كان يقول بأن النُسّاك المتأمِّلين عليهم أن يتحوّلوا إلى عَمَلةٍ في الأرض. وبالفعل فإن قيمةَ العملِ النبيلة، التي ورثتها المسيحيةُ عن اليهودية، كانت واضحةً في قوانين أغسطينوس وبندكتس الرهبانية. يعودُ ويتبنّى برناردو هذه الفكرة، فقد كان على الشبان المُقبِلين إلى أديرتِهِ أن يُشمّروا سواعدهم للعملِ اليدوي. في الحقيقة، يقولُ برناردو صراحةً أن الديرَ لا يمكنه أن يستعيدَ الفردوس؛ لكن بما أنه مكانٌ تُمارسُ فيهِ فِلاحةُ الأرضِ والروحِ فهو يُحضِّرُ الفردوس الجديد. هناك تتحوّل قطعةٌ من غابةٍ بريّة إلى أرضٍ خصبةٍ، في نفس الوقت الذي تُلقى فيهِ أشجارُ الكبرياءِ أرضًا، وتُقتلعُ الأشواكُ البريةُ من النفوس فتغدو الأرضُ قادرةً على إعطاءِ الخبزِ للجسدِ والنفس[13]. ألا نلاحظُ مجدّدًا في تاريخنا الحاضر، كيف أنّه لا يمكنُ لأيّ تنظيم حقيقيٍّ للعالمِ أن ينجح، إن لَمْ يرافقه تهذيبٌ للنفوس؟
تحوُّل الإيمان-الرجاء المسيحيّ في عصرنا الحديث
16- كيف تطوَّرت إذًا الفكرةُ القائلةُ بأن رسالةَ يسوع هي ذاتُ نزعةٍ فرديّةٍ بحتة ويبقى الفردُ هدفها الوحيد؟ كيف توصَّل بعضُهم إلى تأويلِ “خلاص النفس” كهروبٍ من المسؤوليةِ تجاه الجماعة، فاعتبروا بالتالي أن برنامجَ المسيحية يُختَصرُ في بحثٍ أنانيٍّ عن خلاصٍ يرفضُ خدمةَ الآخرين؟ كي نجدَ إجابةً لهذا السؤال علينا أن نلقي نظرةً على العناصر الأساسية المُكوِّنة لعصرنا الحاضر. فهي تَظهر بوضوحٍ في فرنسيس باكون (Francis Bacon) [vi]. كان بديهيًا أن اكتشاف القارة الأمريكية والاختراعات التقنيةِ الجديدةِ قد أدخلَ البشريةَ في عصرٍ جديد. لكن على أيّ أساسٍ يَستندُ هذا التحوُّل التاريخي؟ في الواقع إنَّ العلاقة الجديدة بين “التجارب” و ”المنهج” قد جعلت الإنسان قادرًا على تفسير الطبيعةِ بحسب قوانينها الخاصة، وبهذا قد وَصل أخيرًا إلى تحقيق “انتصار التقنية على الطبيعة”[14]. فالشيء الجديد – من وجهة نظر باكون – هو العلاقةُ الجديدةُ بين العلم وتطبيقاته. لهذه النظرةِ تطبيقاتها اللاهوتية أيضًا: فالعلاقةُ الجديدةُ بين العلم وتطبيقاتِهِ تعني أنَّ السيطرةَ التي مَنَحها الله للإنسان على الطبيعة، والتي فُقدت بالخطيئة الأصلية، يجب أن تُقام من جديد[15].
17- مَن يقرأ هذه التصريحات ويتأمّلها بتمعُّن يرى فيها تحوُّلًا يقلب الموازين: إلى حين تلك اللحظة، كانت استعادةُ الإنسانِ لما فَقَدَه بعد طَرده من الفردوس تتمّ بواسطةِ الإيمان بيسوع المسيح، هذا كان معنى “الفداء”. أما الآن فهذا “الفداء”، أي استعادة “الفردوس” المفقود لم يَعد يُعتَبر ثمرةً للإيمانِ بل ثمرةَ العلاقةِ المُكتشفةِ بين العلم وتطبيقاته العملية. هذا لا يعني ببساطة أن الإنسانَ قد أنكرَ الإيمان؛ لكنه قد حوَّله إلى مجالٍ آخر – أي المجال الفرديّ البحت ومجال الحياة الأبدية – وهكذا أصبح الإيمان دون أهميةٍ بالنسبة للعالم. لقد رَسَمَتْ هذه النظرةُ للإيمان برنامجًا يسيرُ عليهِ عصرُنا الحاضر وما زال لها دورٌ في أزمةِ الإيمانِ الحالية، والتي هي قبْلَ كلّ شيءٍ أزمةَ رجاءٍ مسيحيّ. هكذا قد اكتسب الرجاءُ في مفهوم باكون شكلًا جديدًا. فأصبح اسمه: الإيمان بالتطور. كان واضحًا بالنسبة لباكون أن اكتشافات واختراعات عصره لم تكن سوى البداية؛ وأنه بفضلِ التناغمِ بين العلمِ وتطبيقاتِهِ العملية ستكون هناك اكتشافاتٌ جديدةٌ جذريةٌ، وبهذا سيظهرُ عالمٌ جديدٌ تمامًا، إنه ملكوتُ الإنسان[16]. هكذا قد سَبق وتحدَّث باكون عن الاختراعات المستقبلية – حتى وصل إلى الطائرةِ والغواصة. وهكذا بينما تابعت أيدولوجية التطوّر هذه ازدهارها لاحقًا، تعَزَّزَ إيمانُ الإنسانِ بها لأنه كان يفرحُ إذ يرى قِواهُ تتقدّم بشكلٍ ملموس بواسطتها.
18- في نفس الوقت ازدادت باستمرار مِحوريةُ نقطتين في فكرةِ التطوّر: العقلُ والحرية. فالتطوّر كان يعني قبل كلّ شيء ازدياد سيطرةِ العقلِ باعتباره قدرةً على الخير ولأجل الخير. فالتطورُ يعني إذًا مسيرةً نحو الاستقلالية، تطورٌ نحوَ الحرّيةِ الكاملة. والحرّيةُ اعتُبرَت بدورها وعدٌ بهِ يُحقّق الإنسانُ ذاتَهُ في مسيرتِهِ نحو الملء. فكانَ لكلتا النقطتين – الحرّية والعقل – بُعدٌ سياسيّ. فالإنسانيةُ صارت تنتظرُ ملكوتَ العقلِ كحالةٍ جديدةٍ فيها تجدُ حريّتها التامة. أمّا الشروطُ السياسيةُ اللازمةُ لملكوتِ العقلِ والحرّيةِ هذا فيبدو أنها لمْ تكن ذاتَ معالمٍ واضحةٍ بشكلٍ فوريّ. فكانَ يُعتَقد أن العقلَ والحريةَ – بفضلِ صلاحِهِم الجوهريّ – قادرَين على ضمانِ جماعةٍ إنسانيّةٍ جديدةٍ وكاملة. لكن في نفسِ الوقت ومن خلالِ هذين المفهومَين الأساسيَين أي “العقل” و”الحرّية” كانَ الفكرُ ينحلُّ بصمتٍ من روابطِ الإيمانِ والكنيسةِ، متضاربًا معهما تمامًا كتضاربِه مع أنظمةِ الدول آنذاك. فقد كانت هاتانِ النقطتانِ تحملانِ في ذاتِهِما مكنونًا ثوريًا مُفجِّرًا ذو قدرةٍ هائلة.
19- علينا أن نلقي نظرةً سريعةً على المرحلتَين الأساسيّتَين اللتين تشكّلان مسيرةَ تحقيقِ هذا الرجاء بطريقةٍ سياسيةٍ، بسببِ أهميتهما الكبرى في مسيرةِ الرجاءِ المسيحي، في فهمهِ ودَيمومته. فقد أتَتْ أوّلًا الثورةُ الفرنسيةُ التي حاولت أن تفرضَ سيطرةَ العقلِ والحريةِ بشكلٍ سياسيّ واقعيّ. في البداية نَظرتْ أوروبا عصرِ التنوير بإعجابٍ إلى هذهِ الأحداث، لكن فيما بَعد وأمامَ تطوّراتِها جَعَلَت تفكّرُ من جديدٍ في مَعنى العقلِ والحرّية هناكَ كتابان لعمانوئيل كانط، يُظهران جليًّا ردّةَ الفعلِ المزدوجةِ أمامَ هذه الأحداثِ في فرنسا. ففي عام 1792 ألَّف كتاب “انتصار المبدأ الصالح على الطالح، وبناء ملكوت الله على الأرض”، فيه يقول: “إنَّ ما يُشكّلُ اقترابَ ملكوتِ الله هو التحوّلُ التدريجيُّ من الإيمانِ الكنسيّ إلى السيطرةِ الكاملةِ للإيمانِ التديُّنيّ”[17] ويُخبرنا أيضًا بأنه من شأنِ الثورات تسريعُ هذا التحوّل من الإيمانِ الكنسيّ إلى الإيمان العقلانيّ. بهذا اكتسبَ “ملكوت الله” الذي تحدَّث عنه يسوع تعريفًا جديدًا وحضورًا مختلفًا؛ فقد نشأَ ما يُمكنُ تسميتُهُ “انتظارًا فوريًا”: فـ “ملكوت الله” يسودُ حيثُ يزولُ “الإيمانُ الكنسيّ” ليحلَّ مكانه “الإيمان التديُّنيّ” أي الإيمان العقلانيّ. في عام 1795 في كتابه “نهايةُ كل الأشياء” تظهرُ صورةٌ مختلفةٌ، ففيه يعتقدُ كانط أنه إلى جانب النهايةِ الطبيعيةِ لكلِّ الأشياء هناك إمكانيةُ حدوثِ نهايةٍ لاطبيعيةٍ، نهايةٍ فاسدة. فيكتب قائلًا: “إذا أتى يومٌ من الأيامِ لمْ تَعُد فيه المسيحيةُ تستحقُّ المحبّةَ [...] عندها سيكونُ على فكرِ الناسِ السائد أن يتحوَّلَ إلى رفضِها ومجابهتِها؛ هكذا يبدأُ عصرٌ – ولو أنه قصير – هو عصرُ حكمِ المسيحِ الدجّال (يُفتَرضُ أنه حكمٌ مؤسَّسٌ على الترهيب والأنانية). كنتيجةٍ لذلك، وبما أن القَدَرَ لَمْ يُساعدِ المسيحيةُ أن تصبحَ ديانةَ العالمِ – بالرغمِ من أنّ هذا كانَ هدفها – تكونُ هذه هي النهايةُ (المنحرفة) لجميعِ الأشياءِ من وجهةِ النظر الأخلاقية”[18].
20- استمرَّ القرنُ التاسعُ عشر في إيمانِهِ بالتطوُّرِ كشكلٍ جديدٍ من أشكال الرجاءِ للبشر، واستمرَّ في اعتبارِ العقلِ والحرّيةِ كدليلَينِ يجب اتباعهما في مسيرةِ الرجاء. لكن ما لبثَ أن خَلَقَ تسارُعُ التطوّرِ التقنيِّ وما تبعهُ من تحوّلٍ إلى الصناعةِ وضعًا اجتماعيًّا جديدًا: فقد تشكّلت طبقةُ عمّالِ المصانع وما يُدعى بـ “مأجوري المعامل”، أولئكَ الذين وصف فريدريك انجِلز عام 1845 حالتَهم المزرية. كانَ واضحًا لقرّائه أنه لا يُمكنُ لهذا الوضعِ أن يستمرّ؛ كان من الضروريّ اجراءُ تغييرٍ ما. لكن هذا التغيير كان يُهدِّدُ بهزّةٍ تُهدِّمُ بنيةَ المجتمعِ البرجوازيّ بأكملها. بعد ثورةِ البرجوازيين عام 1789 كان الوقتُ قد حانَ لثورةٍ أخرى، ثورةُ العُمّال: فلم يكن للتطوُّرِ أن يتقدَّمَ ببساطةٍ من خلالِ خطواتٍ صغيرة. كان من الضروري أن يكونَ هناكَ تحوّلٌ ثوريّ. قَبِلَ كارل ماركس هذا التحدّي وبعزمِ تعابيرهِ وفكره حاولَ أن يبدأ الخطوةَ الجديدةَ الكبرى، والتي كان يعتبرُها حاسمةً في تاريخِ الخلاص، نحوَ الواقع الذي كان كانط يدعوه “ملكوت الله”. هكذا وبعدَ أن قُوِّضَتْ حقيقةُ الواقعِ الروحيّ لم يعد هناك سوى الاهتمام بحقيقة الواقع الماديّ. فتحوَّلَ النَقدُ من السماءِ إلى الأرض، من اللاهوتِ إلى السياسة. فلم يَعُد التقدّمُ في سبيلِ الازدهار نحوَ عالمٍ صالحٍ نهائيٍّ يأتي بفضلِ العِلمِ بل بفضلِ السياسة – بفضلِ سياسةٍ مدروسةٍ قادرةٍ على التعرُّفِ على بينةِ التاريخِ والمجتمعِ لتُرشده إلى طريق الثورةِ لتغيير كلّ الأشياء. لقد وصفَ ماركس، بدقّةٍ بارعةٍ لم تَخلُ على كلّ الأحوال من الجزئيّةِ والتحيُّزِ، حالةَ عصرِه كما بيَّنَ بقدرةٍ تحليليّةٍ كبيرةٍ الطرقَ نحوَ الثورةِ بشكلٍ عمليّ وذلك من خلال الحزب الشيوعيّ الذي نشأ عام 1848 مع “الإعلان الشيوعي”. إنَّ الوعودَ التي قَطَعَها كانت وما تزالُ جذّابةً، هذا بفضلِ حدَّةِ تحليلهِ وإرشاداتهِ الواضحةِ للوسائلِ التي كانت بإمكانها أن تُحدثَ التغييرَ الجذريّ. وقد تحقّقَتْ هذه الثورةُ بأكثر أشكالها جذريةً في روسيا.
21- لكن بانتصار هذه الثورة ظَهر خطأُ ماركس الأساسيّ. كان قد بيَّنَ بالتفصيل كيفيةَ تحقيقِ الانقلاب، لكنه لَم يُخبرنا كيف كان على الأمور أن تسيرَ بعد ذلك. فقد كانَ يعتقدُ ببساطةٍ أن تجريد الطبقةِ المُسيطرة من أملاكِها وما يتبعُها من سقوطِ الحكم السياسيّ وامتلاكِ الجميعِ لوسائلِ الإنتاج سيؤدّي لا محال إلى تحقيقِ أورشليمِ الجديدة. حيثُ تُلغى جميعُ التناقضات والإنسانُ والعالمُ يعيشان في تناغمٍ وسلام. حيثُ تجري كلُّ الأمورِ في مسارِها الصحيحِ لأن كلَّ شيءٍ هو مِلكُ الجميع وكلُّ فردٍ يُريدُ الخيرَ للآخر. هكذا وبعدَ نجاحِ الثورةِ انتَبَهَ لينين إلى أنه ليست في مؤَلَّفاتِ معلِّمه أيّةُ إشارةٍ تُبيِّنُ ما يجب فعله. نعم، بالرغم من أنَّ ماركس كان قد تكلَّمَ عن “المرحلة المتوسطة” المُتمّيزةِ بدكتاتوريةِ الطبقةِ العاملةِ، كضرورةٍ لا بديلَ عنها، إلى أن تأتي مرحلةُ زوالها. نحنُ نعرفُ جيّدًا هذه “المرحلة المتوسّطة” ونعلمُ كيفَ تطوَّرَت لاحقًا بشكلٍ لم ينشأ عنهُ العالمُ السليمُ بل تَرَكَ خلفهُ الخرابَ والدمار. لَم يكن خطأ ماركس الوحيد عدمَ تخطيطهِ للنُظمِ الضروريةِ للعالم الجديد، تلك التي من المُفترَض ألّا تلزَمَ بعد تحقيقه، فعدمُ حديثهِ عنها هو نتيجةٌ منطقيةٌ لفكره. لكن خطأَهُ كانَ أعمقُ من ذلك: لقد نسيَ أن الإنسانَ يبقى إنسانًا. لقد نسيَ الإنسانَ وحُريتَهُ، نسيَ أن الحرّيةَ تبقى دائمًا حرّيةً حتى في ارتكاب الشرّ. لقد اعتقدَ بأن إصلاحَ الاقتصاد يعني بالضرورة إصلاحَ كلّ شيء. إن خطأَهُ الحقيقيّ هو الماديّة: فالإنسانُ ليسَ مجرّدِ نتاجِ الأحوالِ الاقتصادية ومن غيرِ الممكنِ إصلاحُهُ فقط من الخارجِ بخلقِ أحوالٍ اقتصادية مؤاتية.
22- هكذا نجدُ أنفسنا من جديدٍ أمامَ السؤال: ماذا نستطيعُ أن نرجو؟ من الضروريّ على عصرِنا الحديثِ أن يُمارسَ نقدَ الذاتِ بالحوارِ مع المسيحيّةِ ومع فكرتِها عن الرجاء. وعلى المسيحيينَ في هذا الحوارِ انطلاقًا من معارفهم وخبراتهم أن يتعلّموا من جديد ماهيّةَ رجائِهم الحقيقيّ، وما بإمكانهم أن يُعطوا للعالمِ وما ليس بإمكانهم أن يُعطوه. يجب على العصرِ الحديثِ في نقدِهِ لذاتِهِ أن يلتقي مع المسيحيةِ المُعاصرةِ في نقدها لذاتها، وعلى المسيحيةِ بدورها أن تفهمَ ذاتَها من جديدٍ انطلاقًا من جذورِها. عن هذا يمكنُنا أن نلمِّحَ بكلماتٍ موجزة. قبل كلِّ شيءٍ علينا أنْ نسألَ أنفسَنا: ما هو المعنى الحقيقي لكلمةِ “تطوّر”؛ ما الذي يَعِدُ بِهِ وما الذي لا يَعِدُ به؟ فمنذ القرنِ التاسع عشر كان هناكَ نقدٌ تجاهَ الإيمانِ بالتطوّر. في القرن العشرين عبَّر تيودور ف. أدورنو عن مشكلةِ الإيمانِ بالتطوّر بطريقةٍ حاسمةٍ: التطوّرُ، إذا ما نَظَرنا إليهِ عن قُربٍ، هو تطوُّر المِقلاع ليصيرَ قنبلة. في الواقع، هذا ليس إلّا وجهًا من وجوهِ التطوُّر، وجهٌ لا يجبُ علينا إخفائُهُ وإلّا أصبحَ التطوُّرُ أمرًا يكتنفه الغموض. يخلقُ التطوّرُ، دون شكٍّ، فُرصًا جديدةً للخيرِ، لكنهُ يخلق أيضًا فرصًا هائلةً للشرِّ – فرصًا لم تكن موجودةً من قَبل. نحنُ جميعًا قد صِرنا شهودًا كيف أنَّ وقوعَ التطوّرِ في أيدٍ خاطئةٍ يمكن أن يتحوَّل وقد تحوَّل بالفعل إلى تطوّرٍ للشرِّ رهيب. إن لم يكن إلى جانب التطورِ التقنيّ تطورٌ في تنشئة الإنسانِ الأخلاقية، تطورٌ في نموِّ الإنسان الداخليّ (را. أف 3، 16؛ 2 قور 4، 16) عندها لا يكونُ التطورُ تطورًا بل تهديدًا للإنسانِ والعالم.
23- فيما يتعلّق بالأسئلةِ الخاصةِ بالموضوعَين الكبيرَين أي “العقل” و ”الحرية”، نستطيعُ هنا فقط أن نتكلّمَ عنها بإيجاز. نعم، فالعقل هو عطيةُ الله الكبرى للإنسان، وانتصارُ العقلِ على اللامنطق لهدفٌ من أهدافِ الإيمانِ المسيحي أيضًا. لكن متى يملكُ العقلُ حقًّا؟ هل يملكُ عندما ينفصلُ عن الله؟ عندما يتعامى عن الله؟ وهل عقليَّةُ القدرةِ والعملِ تختصرُ العقلَ بكامله؟ إن كان التطوّرُ يحتاجُ – كي يكونَ تطوّرًا حقيقيًا – لنموِّ الإنسانيةِ أخلاقيًّا، فعلى عقليّةُ القدرةِ والعملِ أن تبلغَ الكمالَ سريعًا من خلال انفتاح العقلِ على قوى الإيمانِ المُخلِّصَةِ، على التمييز بين الخيرِ والشرّ. هكذا فقط يمكن للعقلِ أن يُصبحَ عقلًا إنسانيًا. فهو إنسانيٌّ عندما يكونُ قادرًا على إرشادِ الإرادةِ نحو الطريقِ الصحيح، وهو قادرٌ على هذا فقط إذا نظرَ إلى أبعدِ مِن ذاتِه. وإن لمْ يفعل الإنسانُ هذا فسيختلُّ التوازنُ بين قدراتِهِ العقليّةِ وغيابِ دورِ القلبِ في الحُكم، فيغدو تهديدًا لنفسِهِ وللخليقةِ بأسرِها. هكذا في موضوعِ الحرّيةِ، حيثُ علينا أن نتذكّرَ بأنّ الحريةَ الإنسانيةَ تتطلَّبُ دائمًا توافقَ حرّياتٍ متعدّدة. ولنجاحِ هذا التوافقِ يجبُ أنْ يُبنى على أساسِ معيارٍ للحُكمِ جوهريٍّ ومشترَكٍ كأساسِ وغايةِ حريّتنا. أي بتعبيرٍ بسيطٍ جدًا: الإنسانُ بحاجةٍ إلى الله، فبدونِهِ يبقى دونَ رجاء. فبالنظرِ إلى تطوّراتِ العصرِ الحديثِ تبدو عبارة القدّيس بولس التي أوردناها سابقًا (را. أف 2، 12) واقعيةً جدًّا وببساطةٍ، هي حقيقيّة. فلا شكّ إذًا أنَّ تحقيقَ “ملكوت الله” دون الله – وبالتالي هو ليس إلّا ملكوت الإنسان – سينتهي لا محال بما وصفَهُ كانط “النهاية المنحرفة”: لقد رأينا هذا وما زلنا نراهُ بشكلٍ دائم. وليس من شكٍّ أيضًا أن الله يدخلُ الأمورَ البشريةَ ليس فقط إذا فكّرنا نحنُ فيهِ، بل إذا جاءَ هو نفسُهُ ليقابلنا ويُكلّمنا. لهذا فإن العقلَ، كي يكونَ عقلًا، هو بحاجةٍ للإيمان. العقلُ والإيمانُ أمرانِ يحتاجُ كلُّ واحدٍ منهما الآخر في سبيلِ تحقيقِ طبيعتِهِ الحقيقيةِ ورسالته.
حقيقة صورة الرجاء المسيحي
24- لنسأل أنفسنا من جديد: ماذا نستطيع أن نرجو؟ وماذا لا نستطيع أن نرجو؟ قبل كلّ شيء علينا أن نتحقّق كيف أن التطوّر التراكميّ، هو أمرٌ ممكنٌ فقط في المجال المادي. فَعن طريق معرفةٍ متزايدةٍ لبُنى المادّة وبفضلِ الاختراعات المتقدّمة بشكلٍ دائم، نحنُ أمام استمراريةٍ في التطوّرِ نحو سيادةٍ أعظم على الطبيعة. أما في مجالِ الوعيِ الأدبيّ والقرار الأخلاقيّ فلا توجد نفسُ الإمكانية التراكميّة، وذلك لسببٍ بسيط وهو أن حرية الإنسان هي دائمًا جديدة وعليها دائمًا اتخاذ قراراتها من جديد. هذه القرارات لا يمكن لآخرين أن يتّخذوها عنّا بشكلٍ مسبَق، وإلّا فنحن لسنا أحرارًا. الحرية تفترضُ أن يشكِّلَ كلُّ إنسانٍ، كلُّ جيل بدايةً جديدةً فيما يخصّ القرارات الأساسية. تستطيعُ الأجيال الجديدة، بكلّ تأكيد، أن تبني على أساسِ معارفِ وخبراتِ الأجيال السابقة، كما أنها تستطيع أن تعود لترتوي من الكنز الأخلاقيَ للجماعة البشرية بأكملها. لكنهم يستطيعون أيضًا رفضه، لأنه لا يملك نفس الأدلة الواضحة التي تتميز بها الاختراعات الماديّة. إن كنز البشرية الأخلاقي ليس في حوزتنا كالأدوات التي نستعملها؛ هو في حوزتنا كدعوة إلى الحرية وكإمكانية لعيشها. ذلك يعني أنّ:
أ) الحالة الصحيحة للأمور الإنسانية، أي ازدهار العالم الأخلاقي لا يمكن أبدًا أن يُضمَنَ ببساطة عن طريق تنظيماتٍ مهما كانت قيمتها. هذه التنظيمات هي ليست فقط هامّة لكنها ضروريّة أيضًا؛ لكن بالرغم من ذلك لا يمكنها، بل عليها ألّا تستبعد حرّية الإنسان. حتى أفضل التنظيمات لا تسير بشكلٍ جيد إلّا إذا كانت في جماعاتها تسري قناعاتٌ قادرة على دفع الناس ليتبعوا بحرّيةٍ التنظيم الجماعيّ. الحرّية تحتاج لقناعة؛ والقناعة لا توجد من ذاتها، بل على الجماعة دائمًا أن تبحث عنها وتتملّكها من جديد.
ب) لأن الإنسان يبقى حرًّا دائمًا ولأن حرّيتهُ هي دائمًا هشّة، لن يوجد أبدًا في هذا العالم ملكوت الخير بشكلٍ متماسكٍ ونهائيّ. مَن يَعد بعالمٍ أفضل يدوم دون نهاية، يقطعُ وعدًا مزيّفًا؛ هو يتجاهل الحرّية البشرية. على الحرّية أن تُمتَلك دائمًا من جديد لأجلِ الخير. ومُولاةُ الإنسانِ للخيرِ بشكلٍ حرٍّ لا توجدُ أبدًا ببساطةٍ أوتوماتيكية. لو كانت هناك تنظيماتٌ قادرةٌ على تثبيتِ وضعٍ صالحٍ للعالمِ بشكلٍ نهائيّ، لأنكرت هذه التنظيماتُ حرّيةَ الإنسان، ولهذا السبب بالذات لن تكون أبدًا تنظيمات صالحة.
25- عما سبق ينتج أن البحث المتجدّد والدائم والمُتعِب عن قواعد صالحة لتنظيم الأمور البشرية هو واجب كلّ جيل من الأجيال؛ ولن يكون أبدًا واجبًا متَمَّمًا ومنتهيًا. مع ذلك، على كلّ جيل أن يُساهم في تثبيتِ نُظُمِ حرّيةٍ وخيرٍ مُقنِعة، تساعد الجيل اللاحق كدليل لاستعمال الحرّية البشرية، فتعطي هكذا – ضمن حدود القدرة البشرية – ضمانًا للمستقبل. بكلماتٍ أخرى: التنظيمات الصالحة تُساعد، لكنها لا تكفي وحدها. لا يُمكن للإنسان ببساطة أن يُفتدى من الخارج. لقد أخطأ فرنسيس باكون وأخطأ مثله مَن تبنّى الفكر الحديث المُستوحى منهُ، في اعتقادهم أن العلم يمكن أن يفدي الإنسان. بهذا هم يطلبون من العلم أكثر من طاقته؛ هذا النوع من الرجاء هو رجاءٌ فاشل. يمكن للعلم أن يساهمَ كثيرًا في أنْسنَةِ العالم والبشرية. لكنّه قادرٌ أيضًا أن يهدمَ الإنسانَ والعالم، إن لم توجِّهْهُ قوىً خارجة عنه. من جهة أخرى علينا أن ننتبه كيف أن المسيحية الحديثة، أمام نجاحات العلم في تنظيم العالم تدريجيًا، قد ركَّزَت معظم جهودها على مستوى خلاص الفرد فقط. بهذا قد ضيَّقت أفقَ رجاءها ولم تتعرَّف بشكلٍ كافٍ على عظمةِ واجبها – بالرغم من عظمةِ ما فعلته في سبيل تنشئة الإنسان والعناية بالضعفاء والمتألّمين.
26- ليسَ للعلمِ أن يفديَ الإنسان. بل المحبّة هي التي تفديه. هذا صحيحٌ قبل كلّ شيء في مجال الأمور الأرضية. عندما يختبر أحدهم في حياته حبًّا عظيمًا، ذاكَ يكونُ بالنسبةِ له لحظةَ “فداء” تمنحُ معنى جديدًا لحياته. لكنه سينتبه سريعًا إلى أن هذه المحبّة التي مُنحت له غير قادرة لوحدها على حلّ مشكلة حياته. هي محبة تظلّ تتميزُّ بالهشاشة. ويمكنُ للموتِ أن يهدمها. فالإنسانُ بحاجةٍ إلى حبٍّ غير مشروط. هو بحاجةٍ لتأكيدٍ يجعله يقول: “لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا” (روم 8، 38- 39). عندما يوجدُ هذا الحبُّ المُطلَقُ بتأكيده المُطلَق، حينئذٍ فقط يكونُ الإنسان “مفديًا”، مهما حصل معه في وضعه الخاص. هذا ما نعنيه عندما نقول: يسوع المسيح قد “فدانا”. بواسطتهِ قد صرنا متأكّدين مِنَ الله – من إلهٍ لا يُشكّلُ “مبدًا مُسبِّبًا” للعالمِ، بعيدًا. ذلك أن ابنهُ الوحيد قد صارَ إنسانًا وعنه يستطيع كلُّ واحدٍ منا أن يقول: “فإِنِّي أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن ًاجْلي” (غل 2، 20).
27- هكذا وفي الحقيقة مَن لا يعرف الله هو دون رجاء، حتى ولو كانت عنده آمال كثيرة، هو دون الرجاء الأعظم الذي عليه تقوم الحياة بأكملها (را. أف 2، 12). إن الرجاءَ الحقيقيَّ للإنسانِ، ذاك الرجاءِ الذي يثبُتُ بالرغم من كلّ خيبات الأمل، هو الله وحدهُ – اللهُ الذي أحبّنا ومازال يُحبّنا “إلى المنتهى”، “حتى يتمَّ كلُّ شيء” (را. يو 13، 1؛ 19، 30). إن مَن لمَستهُ المحبّة يبدأُ بفهمِ معنى “الحياة” الحقيقيّ. يبدأ بفهم ما تعنيه كلمة رجاء التي رأيناها في رتبة المعمودية: من الإيمان أنتظرُ “الحياة الأبدية” - الحياةُ التي هي ببساطة، بالكامل، ودون تهديداتٍ، وبتمامِ ملئها، حياةٌ. لقد قال يسوعُ عن نفسه بأنه جاءَ لتكونَ لنا الحياة في ملئها (را. يو 10، 10)، وهو الذي فسَّرَ لنا معنى “حياة”: “الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح” (يو 17، 3). إن الحياة بمعناها الحقيقيّ لا يمكن أن تكونَ لنا مِن ذواتنا ولا حتى من ذاتها: هي علاقة. والحياة في ملئها هي علاقة مع ذاك الذي هو ينبوعُ الحياة. إن كنّا في علاقةٍ مع ذاك الذي لا يموت، الذي هو الحياةُ بذاتها والمحبةُ بذاتها، عندها فقط نكونُ في الحياة. عندها فقط “نحيا”.
28- الآن يعودُ السؤالُ: بهذه الطريقة ألا نعودُ ونقعُ من جديدٍ في فخِّ النزعةِ الفردية بالنسبةِ للخلاص؟ ألا نعودُ ونقع في فخِّ “رجائي أنا فقط”، الذي هو ليسَ برجاءٍ حقيقيّ بما أنه يتناسى الآخرين ويتغاضى عنهم؟ لا. إن العلاقة مع الله تنشأ عن طريقِ الشركة مع يسوع – نحنُ لا نستطيع أن نحقّقها لوحدنا وبإمكانيّاتنا فقط. لكن العلاقة مع يسوع هي علاقة مع ذاكَ الذي جادَ بنفسه لأجل فدائنا جميعًا (را. 1 طيم 2، 6). إن كوننا في شركة مع يسوع المسيح يجعلنا ندخل في كيانه، كيانٌ “لأجل الجميع”، وهكذا يُصبِحُ كيانُهُ نمطًا لكياننا. هو يجعلنا ننشغلُ بالآخرين، لكن وحدها العلاقة معه تجعلنا قادرين حقًّا أن نكونَ لأجلِ الآخرينَ، لأجل الجماعة. في هذا السياق أودُّ أن أذكرَ أحد معلّمي الكنيسة اليونانية العظماء، القديس مكسيموس المُعتَرف († 662)، الذي يحثّنا في البداية على ألّا نقدِّمَ شيئًا على معرفةِ الله ومحبّتهِ، ومن ثمّ يصلُ إلى تطبيقاتٍ عمليةٍ: “مَن يحبُّ الله لا يمكن أن يحتفظَ بأموالهِ لذاتِهِ. فهو يوزّعه بطريقةٍ “إلهية” [...] بنفس الطريقة على ما يوافقُ البرَّ”[19]. إن محبّتنا لله تعني مشاركتنا في برِّهِ وصلاحه نحوَ الآخرين؛ محبّة الله تتطلَّب الحرية الداخلية أمامَ كلّ نوعٍ من أنواع التملُّك والأمور المادّية. محبتُنا لله تظهر في مسؤوليتنا نحوَ الآخرين[20]. نستطيع أن نلاحظ نفس العلاقة بين محبّة الله والمسؤولية تجاه البشر بشكلٍ مؤثِّرٍ في حياة القديس أغسطينوس. بعد اهتدائه إلى الإيمان المسيحيّ كان يُريدُ، مع جماعةٍ من أصدقائه الذين كانوا يفكّرون بطريقة مشابهة، أن يعيشَ حياةً مكرَّسةً بشكلٍ كاملٍ لكلمة الله وللأمور الأبدية. كانَ ينوي تحقيق مثال الحياة التأمّلية، الذي كانت قد تحدّثت عنه الفلسفة اليونانية العظيمة، متّبعًا القِيَمَ المسيحيةَ ومُختارًا “النصيب الأفضل” (را. لو 10، 42). لكن الأمور لم تسر بهذا الشكل. فبينما كان يشاركُ في قدّاس الأحد في مدينة هيبون الساحلية، دُعِيَ مِن قِبل الأسقف ليتنحّى خارجَ الجماعة وأُجبِرَ على أن يُرسَمَ كاهنًا للخدمة في تلك المدينة. عن هذا الحدث تحدَّثَ فيما بعد في كتاب الإعترافات: “بما أني كنتُ خائفًا من كثرةِ خطايايَ ومن ثِقَلِ شقائي، تفكَّرتُ في قلبي وقرَّرتُ الهروبَ نحو الخلوةِ. لكنَّكَ منعتني من ذلك وعزَّيتَني بكلمتكَ: “المسيحُ قد ماتَ لأجلِ الجميع، حتى لا يحيا الأحياءُ من بعدُ لأنفسهم، بل للذي ماتَ وقام من أجلهم” (را. 2 قور 5، 15)[21]. لقد ماتَ المسيحُ من أجلِ الجميع. أن نحيا لأجله يعني أن نتركَ ذواتَنا تنجرفُ في كيانِهِ الذي هو “كيانٌ لأجل الآخر”.
29- في نظر أغسطينوس هذا يعني حياةً جديدةً بالكامل. هكذا وصفَ إحدى المرّات حياته اليومية: “إصلاحُ غير المنضبطين، رفعُ معنوياتِ الضعفاء، تثبيتُ الواهنين، دَحضُ المُعارضين، الاحتراس من الأشرار، تعليمُ الجاهلين، حثُّ الكسولين، كبحُ العِدائيين، تعديلُ المتكبّرين، تشجيعُ اليائسين، إحلالُ السلامِ بينَ المتخاصمين، تقوية الصالحين، احتمالُ الأشرار و [آهٍ!] محبّةُ الجميع”[22]. “الإنجيلُ يُرهبُني”[23] هي الرهبة السليمة التي تمنعنا من العيشِ لذواتنا وتدفعنا على نشرِ رجاءنا المشترك. في الواقع، كانت هذه نيةُ أغسطينوس: نشرُ الرجاء وقتَ كان وضعُ الإمبراطورية الرومانية الصعبِ يُهدِّدُ إفريقيا التي كانت تحت الحكم الروماني أيضًا، والذي في نهاية حياةِ أغسطينوس وصل الحدُّ لتدميرها – إنَّ الرجاءَ، الآتي من الإيمانِ والمتضارب مع طبيعةِ أغسطينوس المنغَلقة، قد جعلَه قادرًا على الاشتراك بطريقةٍ حاسمةٍ وبجميعِ قواهُ في بناءِ المدينة. يقول أغسطينوس، في نفس الفصل من كتاب الاعترافات الذي رأينا فيهِ سببَ اجتهادهِ الحاسمَ “لأجل الجميع”: إن المسيحَ “يشفعُ لنا، ولولا ذلكَ لأصابني اليأسُ. كثيرةٌ وثقيلة هي نقاط الضعف، كثيرةٌ وثقيلة، لكن علاجَكَ فياضٌ. لولا أن كلمتكَ صارت جسدًا وسكنت بيننا، لكُنّا اعتقدنا أنها بعيدة عن نطاق البشر ولكُنّا قد يئسنا من أنفسنا”[24]. بقوّةِ رجائِهِ، وهبَ أغسطينوس نفسَهُ في سبيلِ البسطاءِ من الناسِ وفي سبيلِ مدينته – لقد ضحّى بروحانية النبلاء ليكرُزَ ويعملَ ببساطةٍ لأجلِ البسطاء.
30- لنلخِّص ما توصّلنا إليهِ في تأمّلاتنا حتى الآن. للإنسانِ في تعاقبِ أيامهِ آمالٌ كثيرة – صغيرة أو كبيرة – تختلفُ باختلافِ فتراتِ الحياة. وأحيانًا يمكن لواحدٍ من هذه الآمال أن يبدوَ وكأنهُ كافٍ ليُشبعَ صاحبه تمامًا فلا يحتاجُ بذلكَ إلى آمالٍ أخرى. ففي فترة الشباب يمكنُ أن يكونَ الأملُ أملَ الحبِّ الكبير والمُشبِع؛ أملَ مرتبةٍ في العملِ، أملَ نجاحٍ ما يضمنُ لبقيّةِ الحياة اتجاهًا حاسمًا. لكن عندما تتحقّق هذه الآمال، يظهرُ جليًّا أنها لم تكن في الواقع كلُّ شيء. ويتبيَّن بوضوحٍ أن الإنسانَ بحاجةٍ لرجاءٍ أبعدَ من ذلك. يتبيَّنُ بوضوحٍ أنه لن يكتفي إلّا باللامحدود، بالشيء الذي يبقى أعظم من كلِّ ما يمكن الوصولُ إليه. بهذا المعنى قد توصَّلَ عصرُنا الحاضرُ إلى التفكير في رجاءِ إقامةِ عالمٍ كاملٍ، يبدو أنه قابلٌ للتحقيقِ بفضلِ معارف العلمِ والسياسةِ المؤسَّسةِ عليهِ. هكذا استُبدِلَ رجاءُ الكتاب المقدّس في ملكوتِ اللهِ برجاءِ ملكوت الإنسان، برجاءِ عالمٍ أفضل قد اعتُبِرَ “ملكوتُ الله” الحقيقيّ. لقد بدا هذا في آخر الأمر وكأنه الرجاءُ الكبيرُ والواقعيّ الذي كان الإنسانُ بحاجةٍ إليه. كان هذا الرجاءُ قادرًا على تحريك جميع قوى البشرية لوقتٍ معيَّنٍ؛ فالهدف العظيم يستحقُّ كلَّ جهدٍ. لكن مع مرور الوقت ظهرَ واضحًا أن هذا الرجاء كان يهرب بعيدًا بشكلٍ دائم. لقد غدا جليًّا – قبل كل شيء – أن رجاءً كهذا هو لأناسِ ما بعد الغدِ وليس لي. وبالرغم من أن فكرة “لأجل الجميع” هي جزءٌ من هذا الرجاء – ذاكَ أنه لا يمكنني أن أصبح سعيدًا ضدَّ الآخرينَ أو بدونهم – يبقى صحيحًا أن الرجاءَ إنْ لَمْ يخصّني أنا شخصيًا هو ليسَ رجاءً حقيقيًا. وأصبحَ واضحًا أن هذا كانَ رجاءٌ ضدّ الحرية، لأن وضعَ الأمورِ البشريّةِ يعتمد في كلِّ جيلٍ من جديد على قرار أبنائِهِ الحرِّ. فلو حُرموا من حرّيتهم هذه، بسببِ الأحوالِ والتنظيماتِ، لن يكونَ العالمُ صالحًا، لأن العالمَ دونَ الحرية هو ليس عالمًا صالحًا. لهذا، وبالرغمِ من ضرورةِ الاجتهادِ المتواصل في سبيل تحسين العالم، لا يمكن لعالمِ الغدِ الأفضل أن يُصبحَ موضوعَ رجائنا الحقيقيّ والكافي. لهذا يطرحُ السؤال دائمًا في هذا الشأنِ: متى يكون العالمُ “أفضلَ”؟ ما هو الشيء الذي يجعله صالحًا؟ ما هو المعيارُ الذي يُحدِّدُ مقدارَ صلاحِهِ؟ وما هي الطرقٌ التي تودي بنا إلى هذا “الصلاح”؟
31- وماذا بعد؟: نحنُ بحاجةٍ للآمال – صغيرة كانت أم كبيرة – لأنها تدفُعنا لمواصلةِ السير يومًا بعد الآخر. لكنها لا تكفي وحدها إن لم يكن هناكَ الرجاءُ الأعظمُ الذي يفوقها جميعًا. هذا الرجاءُ الأعظَم هو الله وحده، هو الذي يُعانِقُ الكون بأسره وهو القادرُ أن يقترحَ علينا ويهبنا ما لا نستطيعُ نحنُ بمفردنا أن نصلَ إليه. والواقع أن هبَتَهُ التي تشبعنا هي جزءٌ من الرجاء. الله هو أساسُ الرجاء، وهنا لا نتكلّم عن إلهٍ مجهولٍ، بل عن ذاكَ الإلهُ ذو الوجهِ الإنسانيِّ، ذاك الذي أحبّنا إلى المنتهي: أحبَّ كلَّ فردٍ كما أحبَّ البشريةَ جمعاء. ملكوتُه ليس بعيدًا وليس هو بخيالاتٍ في مستقبلٍ لن يتحقّق أبدًا؛ ملكوته حاضرٌ حيثُ هو محبوبٌ وحيثُ تصِلُنا محبّته. وحدها محبّتهُ تجعلنا قادرينَ على أن نثابرَ بجديّةٍ يومًا بعدَ يوم، دونَ أن نخسَرَ سببَ رجائنا، في عالمٍ غير كامل بطبيعته. في نفس الوقت محبته لنا هي ضمانٌ لوجودُ ذاكَ الشيء الذي نتحسَّسُهُ بغموضٍ ومع ذلكَ ننتظره في أعماق نفوسنا: الحياة التي هي “حقًا” حياة. سنحاول أن نشرحَ هذه الفكرة بشكلٍ عمليٍّ في القسم الأخير، وذلك بالحديث عن بعض “الأماكن” التي تساعدنا على فهم الرجاءِ وممارسته عمليًا.
“أماكن” فهم الرجاء وممارسته عمليًا
أولًا: الصلاة كمدرسةِ رجاء
32- المكان الأوّل والجوهريّ لفهم الرجاء هو الصلاة. حتى ولو أن الجميعَ رفضوا أن يُصغوا لي، يبقى الله يصغي لي. وإن لم أعُدْ قادرًا على التحدُّثِ مع أحد أو اللجوء لأحدٍ ما، أستطيعُ التحدُّثَ مع الله دائمًا. إن لَم يَعُدْ هناك مَن يُساعدني – حين احتاجُ أمرًا ما أو آملُ بما يفوقُ القدرات البشرية – هو يستطيعُ مساعدتي[25]. إن كنتُ متروكًا في أقصى درجاتِ الوحدة...؛ لكن من يُصلّي لا يكون أبدًا وحيدًا. لقد تركَ لنا الكاردينال إنغوين فان توان، كثمرةِ ثلاثةَ عشرَ عامًا من السجنِ، قضى منها تسعة أعوامٍ في زنزانةٍ فردية، كُتيِّبًا ثمينًا عنوانه صلواتُ رجاء. خلالَ ثلاثة عشر عامًا من السجنِ في حالةٍ كانت تبدو وكأنها داعيةً لليأس الكامل، كانَ يُشكِّلُ إصغاءُ الله لهُ، وقدرتُهُ على التحدُّثِ مع الله، قوّةَ رجاءٍ متواصلٍ، وبعدَ إطلاقِ سراحهِ جَعَلَ منهُ شاهدَ رجاءٍ للبشر في كلّ أنحاءِ العالم – شاهدًا لذاك الرجاء العظيم الذي لا يغرب نوره حتى في عتمةِ ليالي الوحدة.
33- في عظته عن رسالة يوحنا الأولى، أوضح القديس أغسطينوس بطريقةٍ رائعةٍ العلاقة الوثيقةَ بين الصلاةِ والرجاء. فقد وصفَ الصلاة على أنها تمرينٌ للرغبةِ. لقد خُلِقَ الإنسانُ لأجلِ غايةٍ عظيمةٍ – لأجل الله نفسه، كي يمتلئ به. لكنَّ قلبَه صغيرٌ جدًا بالمقارنةِ مع هذه الغايةِ العظيمةِ التي صُنعَ لأجلها. لهذا يجب على قلبه هذا أن يتوسَّعَ. “بإرساله عطيَّته، يوسِّعُ اللهُ رغبَتَنا؛ وعن طريقِ الرغبةِ يوسِّعُ النفسَ، وبهذا يجعلها أكثرَ قدرةً على قبوله هو [أي الله]”. يذكرُ أغسطينوس هنا القديس بولس الذي يقولُ عن نفسهِ بأنه يحيا مشدودًا نحو الأمورِ الآتيةِ (را. فل 3، 13). ثم يستعملُ صورةً رائعةً ليَصِفَ عمليَّةَ توسيعِ القلب البشريّ وتحضيره. “افترض أن الله يريدُ أن يملأكَ عسلًا [رمزَ حنانه وصلاحه]. لكن إن كنتَ مليئًا بالخلِّ فأينَ يضعُ العسل؟”. على الإنسانِ أولًا أن يوسِّعَ قلبه ومن ثمَّ عليهِ أنْ يُطهّرَهُ: عليهِ أن يُحَرَّرَ مِن الخلِّ ومِن طعمِهِ. هذا يتطلَّبُ جهدًا ويُكلِّفُ ألمًا، لكن هكذا فقط يُصبح ملائمًا للغاية التي خُلقَ من أجلها[26]. وبالرغم من أن أغسطينوس يتكلّمُ بشكلٍ مباشرٍ عن قبولنا لله، إلّا أنه يَظهرُ واضحًا أنَّ الإنسانَ في جهدهِ هذا للتحرُّرِ مِن الخلِّ ومن طعمه، لا يُصبحُ حرًّا فقط لأجل الله، لكنه ينفتحُ على الآخرينَ أيضًا. فقط في صيرورتنا أبناءً لله نستطيعُ أن نبقى مع أبينا المُشتَرك. الصلاةُ الصحيحةُ هي عمليةُ تطهيرٍ داخليٍّ تجعلنا منفتحين على الله وبالتالي على البشرِ أيضًا. على الإنسان أن يتعلّمَ من خلالِ الصلاة ما الذي يستطيعُ حقًا أن يطلبه من الله – ما هو الشيءُ اللائقُ بالله. عليه أن يتعلَّمَ أنه لا يستطيعُ أن يُصلّي ضدَّ الآخر. عليه أن يتعلَّمَ أنه لا يستطيعُ أن يطلبَ الأشياءَ السطحيةَ والمُريحةَ التي يرغبها في لحظته الحاضرة، لا يستطيعُ أن يطلبَ تحقيقَ أملٍ صغيرٍ خاطئٍ يُبعده عن الله. عليهِ أن يُطهِّرَ رغباتِهِ وآمالَه. عليه أن يتحرَّرَ من الكذب المستَتِر الذي يخدع به نفسه: الله يعرفه، واللقاءُ مع الله يقودُ الإنسانَ حتمًا إلى الاعترافِ به هو أيضًا. “مَنِ الَّذي يَتَبينُ زَلاَّتِه؟ مِنَ الخَفايا طَهِّرْني” يُصلّي صاحبُ المزمورِ (مز 19 [18]، 13). إن عدمَ الاعترافِ بالذنْبِ ووهمِ البراءةِ لا يمكنهما أن يُبرِّراني أو أن يُخلِّصاني، لأنَّ غفوةَ الضميرِ وعدم قدرتي على الاعترافِ بالشرِّ الذي فيَّ على أنه شرٌّ، هو ذَنبي أنا. إنْ لَم يكن اللهُ موجودًا، ربما كانَ عليَّ أن ألتجئ إلى أكاذيبٍ كهذه، لأنني لم أكن لأجدَ مَن يغفر لي، مَن يُشكِّلُ مِقياسًا للحقيقةِ بالنسبة لي. أمّا اللقاءُ مع الله فيوقِظُ ضميري، كي لا يعودَ ويبرِّرني ولا يكن انعكاسًا لذاتي ولمن هم حولي ممَّن يؤثّرون عليَّ، بل يغدو قدرةً على الإصغاءِ لمَن هو الصلاحُ في ذاته.
34- كيما تُنتِجُ الصلاةُ هذه القوّةَ المُطهِّرة، عليها أن تكونَ من جهةٍ، صلاةً شخصية، لقاءً يجمعني مع الله، مع الله الحي. من جهةٍ أخرى عليها أن تسيرَ دائمًا على هُدى صلواتِ الكنيسةِ والقدّيسين الكبرى وتستنيرَ بها بالإضافةِ للصلاةِ الليتورجيةِ التي بها يُعلّمنا الربُّ باستمرار كيف نصلّي بطريقةٍ صحيحة. لقد سَرَدَ الكارينال إنغوين فان توان في كتابه “التمارين الروحية” كيفَ أنه مرَّ أثناءَ حياتِهِ بفتراتٍ طويلةٍ عَجِزَ فيها عن الصلاة وكيفَ أنه تعلَّقَ بكلماتِ صلاةِ الكنيسةِ: صلاة الأبانا والسلام والصلوات الليتورجية[27]. في الصلاة يجب أن تتضافر دائمًا صلاةُ الجماعةِ مع الصلاةِ الشخصيّة، هكذا نستطيعُ أن نتحدَّثَ إلى الله، هكذا يتحدَّثُ اللهُ معنا. هكذا نتطهَّرُ ونصبحُ منفتحينَ على الله ومُؤَهَّلينَ لخدمة البشر. هكذا نصبحُ منفتحينَ على الرجاء الأعظم ونغدو خُدّامَ الرجاء في سبيل الآخرين: الرجاءُ في المفهوم المسيحيّ هو دائمًا رجاءٌ في سبيلِ الآخرين. وهو رجاءٌ فاعلٌ، به نجاهدُ كي لا تسيرَ الأمورُ نحو “نهايةٍ فاسدة”. هو رجاءٌ فاعلٌ لأنه يجعلُ من العالمِ عالمًا منفتحًا على الله. هكذا فقط يكونُ الرجاءُ رجاءً إنسانيًا بكلّ معنى الكلمة.
ثانيًا: العمل والألم كأماكن لتعلُّمِ الرجاء:
35- كلُّ عملٍ إنسانيٍّ جديٍّ وقويم هو رجاءٌ في طريقهِ للتحقيق. هو كذلك قبل كلّ شيءٍ لأننا بواسطتهِ نحاولُ تحقيقَ آمالنا الصغيرةَ منها والكبيرة: أداءَ هذا أو ذاكَ الواجب الهامَّ في مسيرةِ حياتنا؛ ومن خلالِ جهودنا نساهمُ في جَعْلِ العالمِ أكثرَ نورًا وإنسانيةً وهكذا تُفتَحُ لنا أبوابُ المستقبل. لكن جهودنا اليوميةَ في سبيلِ حياتنا ولأجلِ مستقبلِ الجماعةِ إما أن تسبّبَ لنا التعبَ أو تتحوَّلُ إلى تطرُّفٍ إن لمْ يُنرنا نورُ ذاك الرجاء الأعظم، ذاك الذي لا يمكن أن يحطّمه الفشلُ في الأمورِ الصغيرةِ أو الإخفاقُ في الأحداثِ التاريخية. إن كنّا لا نستطيعُ أن نرجو أكثرَ مما يمكن تحقيقه عمليًا مرةً تلوَ الأخرى، أو أكثر مما نأملُ أن تقدّمه لنا السُلطاتُ السياسيةُ والاقتصادية، لتحوَّلَتْ حياتُنا عاجلًا إلى حياةٍ بلا رجاء. إنه لأمرٌ هامٌ أن نرجو: حتى لو كانتِ أمورُ حياتي أو شؤونُ اللحظةِ التاريخية التي أعيشها تبدو وكأنها لا تحملُ أيّ رجاء، لا يزالُ بإمكاني أن أرجو دائمًا. وحده الرجاءُ – الضمانُ الأعظمُ من أن حياتي الشخصية والتاريخ بأكمله، بالرغم من كلِّ الفشلِ، يظلان محروسَينِ في قدرةِ المحبةِ الخالدة والتي بفضلها يكتسبانِ معنى وأهميةً – وحدهُ ذاكَ الرجاءُ قادرٌ أن يمنحَ في لحظاتِ الفشلِ الشجاعةَ للاستمرار في العمل. بالطبع، نحنُ لا نستطيعُ أن “نبنيَ” ملكوتَ الله بقوانا الذاتية – فما نستطيعُ أن نبنيه لا يتعدّى كونه ملكوت الإنسانِ المطبوعِ بمحدودية الطبيعة البشرية. إن ملكوتَ الله هو عطيةٌ، ولهذا فهو عظيمٌ وجميلٌ وجوابٌ للرجاء. نحن لا نستطيعُ - وهنا استخدمُ تعبيرًا كلاسيكيًا - أن “نستحقّ” السماء بأعمالنا. فهي دائمًا أعظم مما نستحق، تمامًا كما أن كوننا محبوبينَ هو أمرٌ لا يمكنُ “استحقاقه”، بل يبقى دائمًا عطية. لكن بالرغم من وعينا لقيمة السماء اللامحدودة، يبقى صحيحًا أن الله لا ينظرُ إلى ما نعملُ نظرةً لا مبالية، وبالتالي فإن عملنا هو ذو أهمية بالنسبة لأحداث التاريخ. فنحنُ قادرون على أن نفتحَ ذواتِنا والعالمَ لمجيء الله: لمجيء الحقيقة، والمحبة، والخير. هذا ما فعله القديسون كـ “مُعاونين لله” فساهموا في خلاصِ العالم (را. 1 قور 3، 9؛ 1 تس 3، 2). نحنُ قادرونَ على تطهيرِ أنفسنا والعالمَ من السمومِ والمُلوّثات القادرة على هدمِ الحاضرِ والمستقبل. نحنُ قادرونَ على اكتشافِ مصادرَ الطبيعةِ والحفاظِ عليها، وبالتالي قادرون على صنعِ ما هو صالحٌ مع الخليقةِ التي تسبقنا كعطيةٍ، وبشكلٍ يُطابقُ متطلّباتها الجوهرية وغاياتها. لهذه الحقيقةِ قيمتها ومعناها حتى عندما يبدو لنا بأننا نُخفِقُ أو أننا دونَ حيلةٍ أمامَ انتصارِ القوى المُعادية. هكذا ومن جهةٍ، يُصبحُ عملنا مصدرَ رجاءٍ لنا وللآخرين؛ من جهةٍ أخرى يستندُ هذا الرجاءُ العظيمُ على وعودِ الله التي تزوّدنا بالشجاعةِ وتوجّهُ عملنا في الأزمنةِ الصالحة والطالحة على السواء.
36- الألمُ أيضًا شأنه شأنَ العملِ هو جزءٌ من حياةِ الإنسان. من جهةٍ هو يتأتّى من محدوديّتنا، ومن جهةٍ أخرى من مجموعةِ الخطايا التي تكدَّسَتْ خلالَ التاريخ وما زالت تتكدَّسُ في الوقت الحاضر دون توقُّف. علينا بالطبع أن نعمل كلّ ما نستطيع كي نخفِّف من وطأةِ الألم: أن نمنعَ، على قدر ما نستطيع، آلامَ الأبرياءِ؛ أن نهدّئ الأوجاع؛ أن نساعدَ الناسَ في اجتياز الآلام النفسية. هذه كلّها واجباتٌ يُمليانها علينا العدلُ والمحبةُ كمَطلبانِ أساسياّنِ من متطلّباتِ الحياة المسيحية وكلّ حياة تحملُ حقًّا صفةَ الإنسانية. لقد تمكّنا من تحقيقِ تطورٍ كبير في صراعِنا ضدَّ الألمِ الجسديّ؛ بينما ازدادت في السنوات الأخيرة آلامُ الأبرياء والآلامُ النفسية. نعم، علينا أن نعمل كلّ ما في وسعنا لتجاوزِ الألم، لكنه ليس في مقدورنا أن نزيله نهائيًا من على وجهِ الأرض – وهذا ببساطة لأننا لا نستطيعُ أن نلقيَ عنّا محدوديَّتنا ولأنه لا أحدَ منّا قادرٌ على إزالةِ قوّةِ الشرِّ والخطيئة التي كما نرى لا تزالُ مصدرًا للألم. وحدهُ الله قادرٌ على فعلِ هذا: وحده الإلهُ الذي يدخلُ التاريخَ شخصيًّا ويتأنَّسُ ويتألمُ فيه. نحن نعرف أن هذا الإله موجودٌ ولهذا فإن القوَّةَ التي “ترفع خطيئةَ العالم” (يو 1، 29) حاضرةٌ في العالم. بفضلِ الإيمان بوجودِ هذه القوّةِ، قد برزَ في التاريخِ الرجاءُ بشفاءِ هذا العالم. لكنهُ رجاءٌ وليس اتمامٌ بعدُ؛ رجاءٌ يمنحُنا الشجاعةَ لنكونَ مع الخيرِ حتى عندما يبدو وكأنه ليس مِن رجاء، ونحنُ نعي أن قوّةِ الخطيئةِ، التي هي جزء من مسار التاريخِ، كما يبدو خارجيًّا، لا تزال حتى في المستقبلِ حضورًا رهيبًا.
37- ولنعدْ الآن إلى موضوعنا. نحنُ قادرونَ على الحدِّ من الألمِ، قادرونَ على الصراعِ ضدّهُ، لكننا غيرُ قادرين على إزالته. فحيثُ يحاولُ البشرُ أن يتحاشوا أي ألمٍ، وأن يهربوا من كلِّ ما يمكن أن يدعى مُعاناةً، هناكَ حيثُ يُريدُ البشرُ أن يُوفّروا تعبَ وألمَ الحقيقة والمحبةِ والخيرِ، ينزلقونَ في حياةٍ فارغةٍ، حياةٍ ربما تخلو من الألمِ لكنها تمتلئُ أكثرَ وأكثر بشعورٍ مظلمٍ، حيثُ ليس للحياةِ معنى، وحيث الشعورُ بالوحدة. ليس إبعادُ الألمِ والهروب من الأوجاعِ هو ما يشفي الإنسان، لكن ما يشفيه هو قدرتُهُ على قبول الشدّة والنضوجِ فيها، قدرته على إيجادٍ معنى عن طريق الاتحادِ بالمسيح، الذي تألّمَ بمحبةٍ لا محدودة. في هذا السياق أودُّ أن أستشهدَ ببعضِ الجُمَل الواردةِ في رسالةٍ كتبها الشهيدُ الفييتناميّ باولو لي باو ثين († 1857)، فيها يظهرُ بوضوحٍ تحوُّلَ الألمِ بفضلِ قوةِ الرجاءِ الآتي من الإيمان. “أنا باولو، السجين لأجل اسم المسيح، أريدُ أن أعلمَكم بالشدائد التي أعيشها كل يومٍ، كيما تضطرموا بمحبة الله وترفعوا لهُ معي تسابيحكم: للأبد رحمته (را. مز 136 [135]). هذا السجنُ هو حقًا صورةٌ للجحيمِ الأبدية: فبالإضافةِ لكل أنواع العذابات الوحشية، كالقيود وسلاسل الحديد والسوط هناكَ الكراهية والانتقامُ والافتراء والكلمات البذيئة والاتهامات الكاذبة والشرور والحلفان بالزور واللعنات وأخيرًا ضيقة وكآبة. اللهُ الذي حرَّرَ الفتية الثلاثة من الفرن المشتعل دائمًا بقربي؛ وقد حررني أنا أيضًا من هذه الشدائد، محولًا إياها إلى عذوبةٍ: للأبدِ رحمته. في وسطِ هذه العذابات التي من شأنها أن تُثني وتُحطّم الآخرين، بنعمة الله أنا ممتلئٌ فرحًا وسعادةً، لأنني لستُ وحدي بل المسيحُ معي [...] كيف يمكنُ احتمالُ هذه المشاهد الرهيبة، عندما نرى كل يومٍ سلاطينَ، مسؤولين وحواشيهم يُجدّفونَ اسمكَ القدّوس، أيها الربُّ يا مَن تجلسُ على الكروبيم (را. مز 80 [79]، 2) والسرافيم؟ ها هو صليبُكَ يُداسُ بأرجلِ الوثنيين! أين هو مجدُكَ؟ عندما أرى كل هذا أفضلُ في وهج محبتكَ أن تُقطَّعَ أوصالي وأن أموتَ شهادةً لحبِّكَ. أرني يا ربُّ قوَّتَكَ، أعنّي وخلّصني، كيما تظهرَ في ضعفي قوَّتَكَ وتتمجّد أمامَ الأمم [...] أخوتي الأحباء، افرحوا لدى سماعكم هذه الأمور وأنشدوا نشيدَ شكرٍ أبديٍّ لله، ينبوعَ كل صلاح، وباركوه معي: فللأبدِ رحمته. [...] أكتب لكم كل هذه الأمور كيما يتحدَ إيماني بإيمانِكم. وبينما تشتدُّ العاصفةُ، أُلقي بمرساتي نحو عرشِ الله: هو الرجاءُ الحيُّ في قلبي..."[28]. هذه رسالةٌ من “الجحيم”. فيها يبدو بوضوحٍ شديد كلَّ إرهابِ معسكرِ الاعتقال، الذي ليسَ فيه عذاباتُ الطُغاةِ وحسب بل الشرُّ الصادرُ عن الضحايا نفسها الذين يتحوّلونَ بدورهم أداةً لوحشيّةِ المُضطهدين. هي رسالةٌ من الجحيم، لكن فيها تتحقق كلمة المزمور: "إِن صَعِدتُ إِلى السَّماءِ فأَنتَ هُناكَ وإِنِ اْضَّجَعتُ في مَثْوى الأَمواتِ فأَنتَ حاضِر. [...] وإِن قُلتُ: "لِتُغَطِّني الظلمَة وليَكُنِ اللَّيٌل نَّارًا حَولي" حَتَّى الظُّلمَةُ لَيسَت ظُلمَةً عِندَكَ واللَّيلُ يُضيءُ كالنَّهار" (مز 139 [138]، 8- 12؛ را. مز 23 [22]، 4). لقد نزلَ المسيحُ إلى “الجحيمِ” وهكذا فهو قريبٌ ممَّن يُلقى فيهِ، محولًا من أجله الظلمةَ إلى نورٍ. يبقى الألمُ والعذاب أمرًا رهيبًا وغير محتملٍ تقريبًا. مع ذلكَ قد أشرق نجمُ الرجاء –ومَرساةُ القلبِ تصلُ إلى عرشِ الله. فلا يصدرُ الشرُّ عن الإنسان بل ينتصرُ النورُ: الألمُ – مع بقائه ألمًا – يتحوَّلُ إلى نشيدِ تسبيح.
38- إنَّ مقياس الإنسانية يتحدَّدُ قبل كل شيء في ارتباطهِ بالألم والمتألِّم. هذا صحيح بالنسبة للفرد والمجتمع. فالمجتمع الذي لا ينجحُ في قبول المتألّمين ولا يُساهمُ بشفقته في تقاسم آلامهم ومشاركتهم بها في أعماقِ قلبه، هو مجتمع قاسي وغير إنسانيّ. لكن المجتمع لا يكونُ قادرًا على قبول المتألمين ومساندتهم في آلامهم إن لَمْ يكن أفراده أنفسهم قادرين على ذلك، ومن جهة ثانية لا يستطيعُ الفردُ أن يقبل ألمَ الآخرين إن لَمْ يتمكَّن هو شخصيًّا مِن إيجاد معنى في الألم واعتباره مسيرةَ تطهيرٍ ونضجٍ، مسيرةَ رجاء. فقبولي الآخر المتألم يعني أن أتخذَ بشكلٍ من الأشكال ألمه على عاتقي، فيصبحَ ألمه ألمي أنا أيضًا. ولأنه يتحول هكذا إلى ألمٍ متقاسمٍ بوجودِ شخصٍ آخر، يغدو الألمُ مضيئًا بنورِ المحبة. إن الكلمة اللاتينية (con-solatio) والتي تعني “تعزية” تُعبِّرُ عن هذه الحقيقة بطريقةٍ رائعة إذ تتحدث عن الوجود مع الآخرين في وحدتهم بشكلٍ يجعلها تكف عن كونها وحدة. لكنّ القدرة أيضًا على قبول الألم في سبيل الخير والحقيقة والعدل هو مقياسٌ أساسيٌّ من مقاييس الإنسانيّة، لأنّه إن جعلتُ راحتي وسلامتي الشخصيّة أهمُّ مِن الحقيقة والعدل، يسودُ حينئذٍ سلطانُ الأقوى؛ فيعمُّ العنفُ والكذب. فعليَّ أن أعتبرَ الحقيقةَ والعدلَ أهمُّ من راحتي وسلامتي الجسديّة، وإن لَم أفعل ذلك فتتحوّل حياتي كلّها إلى كذبة. وفي النهاية، إن قولي “نَعَمْ” للمحبّة هو أيضًا سببُ ألمٍ، لأن المحبّة تتطلّب دائمًا التخلّي عن ذاتي، وهو أمرٌ لا بدَّ أن أستسلمَ له حتى لو كلَّفني جراحًا. لا يمكن للحبّ أن يوجدَ دون هذه التضحية حتى لو كانت تؤلمني، لأنه بدونها يتحوّلُ إلى إنانيةٍ لا غير، وبهذا يُلغي نفسه فلا يعودُ حبًّا.
39- التألُّم مع الآخر ومن أجلِهِ؛ التألُّم في سبيلِ الحقيقة والعدلِ؛ التألُّم بسبب المحبّة وكي نتحوَّلَ إلى أشخاصٍ يحبّونَ فعلًا – هذه هي العناصر الأساسيّة للإنسانيّة، التي لو هجرناها نقضي على الإنسان نفسه. وهنا يبرزُ السؤالُ من جديد: هل نحنُ قادرونَ على ذلك؟ وهل الآخر هو هامٌّ لدرجةِ أن أتحوّل من أجلهِ إلى شخصٍ متألّم؟ هل الحقيقةُ هي أمرٌ مهمٌّ بالنسبةِ لي لدرجةِ أن أتألّم في سبيلها؟ هل ما يَعِدُ به الحبُّ هو عظيمٌ لدرجةِ أنه يُبرِّرُ تضحيتي بذاتي؟
كان فضلُ الإيمان المسيحيّ في تاريخ البشريّة أنّهُ أثارَ في الإنسانِ بشكلٍ جديدٍ وبعمقٍ جديدٍ القدرةَ على التألُّمِ لأجلِ هذه الأمور الحاسمة تجاهَ إنسانيّته. لقد أظهر لنا الإيمانُ المسيحيّ أنَّ الحقيقةَ والعدلَ والمحبّةَ ليست مجرَّد مثاليّات بل واقع ذو أهمّية عظيمة. لقد أظهر لنا أن الله – وهو الحقيقة والمحبّة في شخص – قد أرادَ أن يتألّم لأجلنا ومعنا. لقد ابتكر القدّيس برناردو دي كيارافالي العبارة الرائعة: (Impassibilis est Deus, sed non incompassibilis) "لا يُمكن لله في ذاته أن يتألّم لكن يمكنه أن يتألّم معنا"[29]. إن قيمةَ الإنسان لدى الله كبيرةٌ لدرجةِ أنه قد صار هو نفسه إنسانًا ليتمكَّنَ من التألُّمِ مع الإنسان، بشكلٍ في غاية الواقعيّة، في لحمٍ ودمٍ، كما تشهدُ بذلك رواية آلام يسوع. منذ ذلكَ الحدث هناكَ مَن شاركنا كلَّ آلامنا البشريّة وهو الذي اختبرَ واحتملَ الألمَ معنا؛ مِن هذا الحدث تفيض التعزيةُ (con-solatio) على كلِّ ألمٍ، تعزية محبّةِ اللهِ ومشاركتهُ لنا، وهكذا يُشرقُ نجمُ الرجاء. طبعًا، في آلامنا العديدة ومِحنَنا، نحنُ بحاجة دائمة أيضًا للآمال الصغيرة والكبيرة – أن يزورنا شخصٌ عزيز، أن نُشفى من جراحٍ داخليّة وخارجيّة، لحلٍّ إيجابيٍّ لإحدى الأزمات، وهكذا. في المِحَن الصغيرة يمكنُ لهذه الآمالِ أن تكفينا. لكن في المِحَن الخطيرة، هناكَ حيثُ عليَّ أن أقرِّرَ أنا بنفسي تفضيلَ الحقيقةِ على راحتي، على مهنتي وأملاكي، هناكَ يغدو ضروريًا ضمانُ الرجاءِ الحقيقي والعظيم الذي تحدّثنا عنه سابقًا. لهذا أيضًا نحنُ بحاجةٍ للشهودٍ وللشهداء الذينَ ضحّوا بأنفسهم كاملةً، كي يُرشدونا إلى الطريق يومًا بعد يوم. نحنُ بحاجةٍ إليهم كي نُفضِّلَ الخيرَ على الراحة، حتى في أصغر أمورِ حياتنا اليومية، عارفينَ أننا هكذا نعيشُ الحياةَ الحقيقية. لنردِّدها مرّةً أخرى: إن القدرة على التألّم في سبيل الحقيقة هي إحدى مقاييس الإنسانية. هذه القدرة على التألّم تعتمد على نوع ومقدار الرجاء الذي نحمله في داخلنا وعلى أساسه نبني. لقد استطاع القدّيسون أن يسلكوا طريق إنسانيّتهم العظيم بنفس الطريقة التي سلكها يسوع قبلنا، لأنهم كانوا ممتلئين من الرجاء العظيم.
40- أودُ أن أضيفَ ملاحظةً صغيرةً لا أعتقدُ بأنها ليست ذات أهمية بالنسبة لأحداث زمننا الحاضر. هو أمرٌ كان يُشكِّلُ جزءًا مِن أحد أنماط التقوى المنتشرةِ قبل زمنٍ، وربما اليوم هي أقل ممارسةً، أقصدُ الفكرةَ القائمة على “تقدمةِ” الأتعاب الصغيرة اليومية التي تعترضنا دائمًا كمضايقات تزعجنا بدرجاتٍ متفاوتة، لكي تكتسبَ معنى. لقد وُجِدَت في هذه التقوى مبالغاتٌ وربما أيضًا أمورٌ بعيدة عن المنطق السليم، لكن علينا أن نسألَ أنفسنا إذا ما كان هناكَ عنصرٌ جوهريٌّ بإمكانه مساعدتنا. ما معنى “تقدمة”؟ أولئكَ الأشخاص كانوا مقتنعين بأنهم يضعونَ أتعابهم الصغيرة في نِطاقِ آلامِ[vii] المسيحِ الكبيرة، وبذلك يُصبحون بشكلٍ أو بآخر جزءًا من كنز آلامِ المسيح، التي تحتاجها البشرية. بهذه الطريقة، حتى الإزعاجات الصغيرة اليومية يمكنها أن تكتسبَ معنى وتساهمَ في تدبيرِ الخيرِ والمحبّة بينَ البشر. ربما علينا حقًّا أن نسألَ أنفسنا إن كان بإمكان هذه التقوى أن تعودَ لتُشكِّلَ أفقًا ذا معنى بالنسبة لنا أيضًا.
ثالثًا: الدينونة الأخيرة، كمكان لفهم وممارسة الرجاء
41- يتحدَّث قانون إيمان الكنيسة في جزئه المحوري عن سرّ المسيح منذ ولادته الأزلية من الآب إلى ولادته الزمنية من العذراء مريم ليَصلَ مرورًا بالصليب إلى القيامة حتى عودته، ويختم بالعبارة: “... سيأتي من جديد ليدين الأحياءَ والأموات”. لقد أثَّرت فكرة الدينونة الأخيرة، منذ الأزمنة الأولى، على المسيحيين حتى في حياتهم اليومية، فكانت لهم بمثابةِ مقياسٍ لتنظيم حياتهم الحاضرة، ونداءٍ لإتباعِ الضمير وفي نفس الوقت كانت لهم رجاءً في عدل الله. إنَّ الإيمانَ بالمسيح لَمْ ينظر أبدًا إلى الوراء فحَسْب، ولا إلى العَلاء فحَسْب، بل هو ينظرُ على الدوام إلى الأمامِ أيضًا، إلى ساعةِ العدلِ التي كان الربُّ قد سبقَ وأعلنها مرارًا. هذه النظرة إلى الأمام قد أضفَتْ على المسيحيةِ أهميتها الخاصة بالنسبة للحاضر. أرادَ المسيحيون عن طريق تنسيقِ دور العبادة، أن يُظهِروا البُعد التاريخي والكونيّ للإيمان بالمسيح، فاعتادوا على تصوير الربّ على الجدار الشرقيّ في مجيئه الثاني كملكٍ – صورةً ترمُز للرجاء، أما على الجدار الغربيّ فاعتادوا تصوير الدينونة الأخيرة كرمزِ مسؤوليتنا عن حياتنا، فكانت هذه اللوحة تنظُرُ إلى المؤمنين وتُرافقهم في مسيرتهم نحو الحياة اليومية. لكن خلال تطوُّر فن الأيقونات نجد أن الجانب التهديديّ والترهيبيّ للدينونة قد طغى، وقد كانَ واضحًا أنه يُعجِبُ الرسّامين أكثر من ضياء الرجاء الذي غالبًا ما أخفته تلك التهديدات.
42- في عصرنا الحاضر قد عفا الناسُ عن التفكيرِ في الدينونةِ الأخيرة: لقد تحوَّلَ الإيمانُ المسيحي إلى واقعٍ فرديّ يهدُفُ قبل كلِّ شيء إلى خلاص النفس الشخصيّ؛ أما التأمل حول تاريخ العالم فقد سيطرَ عليهِ فكرُ التطوُّر بشكلٍ كبير. لكن محتوى انتظار الدينونة الأخيرة الأساسيّ لم يختفِ، بل اتّخذَ شكلًا مختلفًا تمامًا. بحسبِ جذوره وأهدافهِ يقومُ الإلحادَ في القرنين التاسع عشر والعشرين على مبدأ أخلاقيّ: فهو عبارة عن احتجاج ضدّ مظالم العالم والتاريخ. إنَّ عالمًا كهذا بما فيه من مظالمٍ وآلامِ الأبرياء ووحشيّة السُلُطات، لا يُمكن أن يكونَ عملَ إلهٍ صالح. إن إلهًا مسؤولًا عن عالمٍ كهذا لن يكونَ إلهًا عادلًا ولا حتى صالحًا. فباسم الأخلاق يجب معارضة هذا الإله. وبما أنه ليسَ من إلهٍ يحققُ العدلَ، يبدو الآن أن الإنسان نفسَه مدعوٌّ ليحققه. أمامَ آلامِ هذا العالم حتى وإنْ كنّا نتفهَّمُ احتجاجًا ضدَّ الله كهذا الاحتجاج، يبقى الادعاءُ بأنَّ قدرةَ الجماعةِ البشريةِ وواجبها في أن تعمل ما لا يعمله أيُّ إلهٍ ولا يستطيعُ عملُهُ، ادعاءً متغطرسًا وبعيدًا في جوهره عن الحقيقة. إن أعظَمَ الأعمالِ الوحشيةِ والمَظالمِ التي نتجتْ عن هذه الفرضية ليستْ مجرَّدَ صدفة، بل هي مؤَسَّسةٌ على الزيفِ الجوهريِّ لهذا الادعاءِ. إن عالمًا يريدُ أنْ يُحقِّقَ العدلَ بنفسِهِ هو عالمٌ بدونِ رجاء. لا أحد ولا شيء يُمكنه أن يُعوِّضَ عن آلام الماضي. لا أحد ولا شيء يمكنه أن يضمنَ بأن ضراوةَ السُلطات – مهما يكن قناعها الإيديولوجي المغري – لن تستمرَّ في التجبُّرِ على العالم. هكذا انتقدَ كبار مفكري مدرسة فرانكفورت ماكس هورخايمر وتيودور ف. أدورنو الإلحادَ كنقدهم للتأليه الوحائيّ[viii] لقد نفى هورخايمر جذريًا إمكانيةَ وجود أي بديلٍ لله في العالم، لكنه رفضَ أيضًا صورة الله الصالحِ والعادل. وفي موقفه المتطرِّف مِن تحريم العهد القديم للصوَر، تحدّثَ عن “الحنين للإله المختلف جذريًا” ذاك الذي يبقى غريبًا – كانت هذه صرخةُ رغبةٍ موجَّهةٍ لتاريخ البشرية. أدورنو أيضًا كان موافقًا بحزمٍ على التخلّي عن أيةِ صورةٍ لله، لدرجةِ أنهُ نفى أيضًا “صورةَ” الإلهِ المُحب. لكنه كان يؤكّد دائمًا هذه الجدليّة “السلبية” ويجزُمُ بأن العدلَ، أي العدلَ الحقيقيّ لا يتطلَّبُ “عالمًا يُلغى فيه ألمُ الزمنِ الحاضر فحسب، بل أن يُسترجَع الماضي ليخضعَ للحُكمِ كلُّ ما لا يمكن استرجاعه”[30]. وبتعبيرٍ إيجابيٍّ – يرفضه أدورنو – هذا يعني أن العدلَ لا يُمكنُ أن يتحقّقَ دونَ قيامةِ الأموات. إنَّ أملًا كهذا يؤدي إلى “قيامة الجسد، وهو أمرٌ غريبٌ تمامًا عن المثالية وعن ملكوت الروح المُطلَق"[31].
43- يستطيعُ المسيحي لا بل عليهِ أن يتعلَّمَ دائمًا مِن أمرِ التخلّي الكامل عن أي صورة، الوارد في وصية الله الأولى (را. خر 20، 4). لقد أكّد المجمع اللاتيراني الرابع أهميةَ حقيقةِ اللاهوتِ السلبيّ، فقد صرَّحَ بوضوحٍ أنه مهما كانَ الشبهُ بين الخالقِ والمخلوقِ كبيرٌ فإنَّ الاختلافَ بينهما هو دائمًا أكبر[32]. مع ذلك، فلا يمكنُ للمؤمِن بدعوى التخلّي عن أيةِ صورةٍ أن يكتفيَ برفضِ نظريتيّ التأليه الوحائيّ والإلحاد، كما اعتقد كلٌّ مِن هورخايمِر وأدورنو. فالله نفسه في المسيح الذي صارَ إنسانًا قد أعطانا “صورةً” لذاته. ففي المسيحِ المصلوب قد أُلغيَت بقوةٍ جميعُ الصوَرِ الخاطئةِ عن الله. الآن يكشِفُ اللهُ وجهَهُ في هيئةِ المُتألِّمِ الذي يَتقاسَمُ حالةَ الإنسانَ المتروكَ مِن اللهِ، آخذًا إياها على عاتقه. لقد صارَ هذا المتألِّمُ البريء رجاءً وضمانًا: الله موجودٌ، وهوَ يعرفُ كيفَ يُحقِّقُ العدلَ بطريقةٍ لا نقدرُ أن نتخيَّلها، ولكننا نستطيعُ أن نتوقَّعها بالإيمان. نعم، هناكَ قيامةُ الجسد[33]. هناكَ عدلٌ[34]. هناكَ “استرجاعٌ” للألمِ الذي مضى، وتعويضٌ يُعيدُ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه. لذلك فإن الإيمانَ بالدينونةِ الأخيرة هي قبل كلِّ شيءٍ رجاءٌ – إنه ذلك الرجاء الذي بَدَتْ ضرورتهُ جليةً في ثوراتِ القرونِ الأخيرةِ. أنا مقتنعٌ بأن مسألةَ العدلِ هي الحجّةُ الجوهرية، وفي أي الأحوال هي الحجّةُ الأقوى في صالحِ الإيمانِ بالحياةِ الأبدية. طبعًا إن مجرَّدَ الحاجةِ الفرديةِ لرغبةٍ في الخلودِ وفي المحبةِ التي ننتظرُ، والتي لم ننلها في هذه الحياة تشكِّلُ بحدِّ ذاتها دافعًا مهمًا للإيمانِ بأن الإنسانَ قد صُنع للخلود؛ لكن فقط إذا ما ربطنا هذه الحاجة بفكرة أنه لا يمكن لظُلمِ التاريخِ في النهايةِ أن ينتصرَ، تصبحُ ضرورةَ عودةِ المسيح والحياة الجديدةِ مقنِعةً بالكامل.
44- إن الاحتجاجَ على الله باسمِ العدلِ لا يُفيدُ شيئًا. فالعالمُ بدون الله هو عالمٌ بدونِ رجاء (را. أف 2، 12). وحدهُ الله قادرٌ على إحقاقِ العدل والإيمانُ يمنحنا الضمانَ بأنه يفعل ذلك. إن صورةَ الدينونةِ الأخيرة هي قبل كلّ شيءٍ ليست صورةَ ترهيبٍ، بل صورةَ رجاءٍ؛ لا بل هي بالنسبة لنا على الأغلبِ صورةَ الرجاءِ الحاسم. لكن أليسَتْ أيضًا صورةً مخيفة؟ أنا أقول بأنها صورةٌ تستدعي المسؤولية. هي إذًا صورةُ ذلكَ الخوف الذي يقولُ عنه القديس هيلاريوس بأن كلّ خوفنا ينبع من المحبّة[35]. الله عدلٌ وهو يُحقّقُ العدلَ. هذا هو عزاؤنا ورجاؤنا. لكنه في عدلِهِ هو أيضًا نعمة. نحنُ نعرفُ هذا إذا ما نظرنا إلى المسيحِ المصلوبِ والقائم. علينا أن نرى العدلَ والنعمةَ في علاقتهما الجوهرية. النعمة لا تُلغي العدلَ. لا تجعلُ الخطأ صوابًا. هي ليستْ بممحاةٍ تمسحُ كلّ شيءٍ بحيثُ أن كلَّ ما حدثَ على وجهِ الأرضِ يُعتَبَرُ ذا قيمةٍ متساوية. لقد احتجَّ بحقٍ ضدَّ هذا الشكل من السماء ومن النعمة دوستويفسكي في روايته “الإخوة كارمازوف”. في النهاية، في الوليمة الأبدية، لن يجلِسَ الأشرارُ على المائدةِ جانبَ ضحاياهم كما لو أن شيئًا لمْ يحصل. أودُّ هنا أن أستشهدَ بنصٍّ لأفلاطون فيه يُعبِّرُ عن إحساسه بالدينونة العادلة، وهو نصٌّ يبقى في جزئه الأكبر حقيقيًا ومفيدًا للمسيحيّ أيضًا. هو يستعملُ صورًا أسطورية، إلّا أنه يعبِّرُ بوضوحٍ، ليس فيه أي التباس عن الحقيقة، فيقولُ بأن النفوسَ في النهاية ستقفُ عاريةً أمامَ الديّان. عندئذٍ لا يهمّ من كانوا في تاريخهم الماضي، بل المهمُّ هو فقط حقيقتهم. وقتئذٍ “تقف في محضر الديّانِ نفسُ [...] ملكٍ أو والٍ فلا يرى فيها أي شيءٍ صالحٍ، بل يراها مضروبةً مملوءةً بالقروحِ بسببِ الحنث والظلمِ [...] كل ما فيها مشوهٌ ومليءٌ بالزيف والكبرياء، لا شيء فيها مستقيم لأنها كَبرتْ بدون حقيقة. وهو يرى كيف أن النفسَ موسومةً بالوحشيةِ والذُلِّ بسببِ مزاجيَّتها وعنفها وتهورها وعدم تقدير أفعالها. أمامَ هذا المشهد يُرسلها فورًا إلى السجنِ، حيثُ عليها أن تتحمَّلَ العقوبات المستحَقّة [...] لكنه أحيانًا يجدُ أمامهُ نفسًا مختلفةً، قد عاشتْ حياةً تقيّةً وصادقة [...]، فيُسرُّ بها ويرسلُها بالتأكيدِ إلى جُزُرِ الطوباويّين"[36]. بهدفِ تحذيرنا قدَّمَ لنا يسوعُ في مَثلِ الغني النهم والفقير لعازار (را. لو 16، 19- 31) صورةً لنفسٍ هالكةٍ بسببِ غرورها وغِناها، لقد حَفَرت هي نفسها واديًا عميقًا بينها وبين الفقير: واديَ الانغلاق في حدودِ اللذّات الماديّة، واديَ نسيانِ الآخر وعدم قدرتها على المحبّة، فتحوَّلَ إلى عطشٍ حارقٍ لم يَعد بالإمكانِ شفاؤه بعد الآن. علينا أن نوضح هنا أن يسوعَ لا يتحدَّثُ في هذا المثلِ عن المصير النهائيّ بعدَ الدينونةِ الشاملة، بل يتّخذُ فكرةً كانت سائدةً كغيرها في الديانة اليهوديّة القديمة، والقائلةِ بوجودِ حالةٍ مؤقتةٍ بينَ الموتِ والقيامةِ، حالةٍ لم يُنطَق فيها الحكمَ النهائي بَعد.
45- لا تَعتَبرُ هذه الفكرةُ الخاصةُ بالديانة اليهودية القديمة القائلةُ بوجودِ حالةٍ مؤقّتة أنَّ النفوسَ توجدُ تحتَ الحراسةِ المؤقتة فقط، بل أنها تُعاقَبُ أيضًا، كما نرى في مثل الغني النهِم، أو أنها تتمتّعُ بشكلٍ من أشكالِ السعادةِ إلى حين. وفي النهاية لم تكن تغيبُ تمامًا إمكانيةُ وجودِ تطهيرٍ وشفاءٍ يجعلُ النفسَ تنضجُ في سبيلِ الشركةِ مع الله. وقد اتَّخذَتْ الكنيسة الأولى هذه الأفكار التي تطوَّرتْ منها فيما بعد في الكنيسة الغربية عقيدة المطهر. لسنا بحاجة هنا لنفحصَ طرق هذا التطور التاريخية المُعقَّدة؛ لنسأل أنفسنا بالأحرى ما معناهُ الحقيقيّ. بالموت يصبحُ خيارُ الحياةِ الذي اتخذه الإنسانُ حاسمًا وتغدو حياته هذه أمامَ الديّان. ويتّخذُ خيارُه الذي تُرجِمَ في سيرةِ الحياةِ أشكالًا متعدّدة. هناكَ أشخاصٌ قد هدموا نهائيًا في ذواتهم الرغبةَ في الحقيقةِ والجاهزيةَ للمحبّة. أشخاصٌ كلّ ما فيهم قد صارَ مزيّفًا؛ أشخاصٌ قد عاشوا في سبيلِ الكراهيةِ فداسوا في ذواتهم المحبّة. هذه صورةٌ رهيبةٌ، لكن بعض شخصيّات تاريخنا تجعلنا نرى فيها بصورةٍ مرعبةٍ هذه الهيئة. في أفرادٍ كهؤلاءِ لم يعدْ هناكَ شيءٌ يمكنُ استرجاعه فهلاكُ الخيرِ فيهم نهائيّ: هذا ما نقصده بكلمة جهنم[37]. من ناحيةٍ أخرى هناكَ أشخاصٌ شديدي النقاوة، قد سمحوا لله أن يدخل فيهم بشكلٍ كاملٍ وبالنتيجةِ هم منفتحون تمامًا على الآخرين – هم أشخاصٌ قد وجَّهَتْ منذُ الآنَ الشركةُ مع اللهِ كيانَهم بالكامل، ورحيلهم نحو الله ما هو إلا إتمامٌ لما هم عليه منذُ الآن[38].
46- حسب خبرتنا لا تمثِّلُ الحالةُ الأولى ولا الثانية الوضعَ الطبيعيَّ للوجودِ الإنسانيّ. أكثرُ الناس – هذا ما نعتقده – يبقى حاضرًا في أعماقِ جوهرهم انفتاحٌ أخيرٌ داخليٌّ على الحقيقةِ والمحبةِ والله. لكنه انفتاحٌ تغطّيه في خيارات الحياة تنازلاتٌ نحو الشرِّ تتجدَّدُ دائمًا. فتتخفّى الطهارةُ تحتَ القذارةِ الكثيرة، لكن مع ذلك يبقى العطشُ لها موجودًا ويعودُ فيظهرُ من جديد، بالرغم من كلّ شيء، مِن الأسافلِ ليبقى حاضرًا في النفس. ما الذي يحصل لهؤلاء عندما يظهرونَ أمامَ الديّان؟ كلّ الأشياء القذرة التي كوَّموها طوال حياتهم أتصبحُ فجأةً دون أهمية؟ أو ما الذي يمكن أن يحصل لها؟ يعطينا القديس بولس في الرسالة الأولى إلى قورنتس فكرةً عن تأثيرِ حُكمِ اللهِ المختلفِ على الإنسانِ حسبَ حالته. وهو يفعلُ ذلكَ عن طريق صورٍ يريدُ بها أن يُعبِّرَ عن اللامرئيّ، ونحنُ لا نستطيعُ أن نحوِّلَ هذه الصور إلى أفكارٍ، وذلك لأننا ببساطة لا نستطيعُ أن ننظرَ إلى عالمِ ما بعدَ الموت وليستْ لدينا أيّةُ خبرةٍ له. يصفُ بولس الحياةَ المسيحيّةَ بأنها – قبل كلّ شيء – مبنيةٌ على أساسٍ مشترك: يسوع المسيح. هذا الأساسُ لا يزول. إذا ما بقينا ثابتينَ في هذا الأساسِ وبنينا عليه حياتَنا، نعرفُ أنهُ أساسٌ لا يمكنُ لأحدٍ أن يسلبه منّا ولا حتى عند الموت. ثم يتابعُ بولس قائلًا: "إِن بَنى أَحَدٌ على هذا الأَساسِ بِناءً مِن ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ أَو حِجارةٍ كَريمة أَو خَشَبٍ أَو هَشيمٍ أَو تِبْن، سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد. فمَن بَقِيَ عَمَلُه الَّذي بَناه على الأَساسِ نالَ أَجْرَه، ومَنِ احتَرَقَ عَمَلُه كانَ مِنَ الخاسِرين، أَمَّا هو فسيَخلُص، ولكِن كمَن يَخلُصُ مِن خِلالِ النَّار" (1 قور 3، 12- 15). من الواضحِ في هذا النصّ أن خلاصَ البشرِ سيتّخذُ أشكالًا مختلفة؛ أن بعضَ الأشياءِ المبنيّةِ يمكنها أن تحترقَ نهائيًا؛ وأنه لأجلِ الخلاص على كلِّ واحدٍ أن يَعبرَ “النار” كي يصبحَ قابلًا للهِ بشكلٍ نهائيّ، ويستطيعَ أن يجلسَ إلى مائدةِ العرس الأبدية.
47- يعتقدُ بعضُ اللاهوتيين الحديثين أن النارَ التي تحرق وتخلِّصُ في آنٍ واحدٍ هي المسيحُ بالذات، الديّانُ والمخلِّص. اللقاءُ به هو الدينونةُ الحاسمةُ. أمامَ عينيهِ يتلاشى كلُّ زيفٍ. فاللقاءُ به يحرقنا ويحوّلُنا ويحرّرنا لنصبح بالحقيقةِ ذواتَنا. فالأشياءُ المبنيّةُ خلالَ الحياةِ يمكنها أن تظهرَ كالقشِّ اليابسِ، وتتهدَّمُ كافتخارٍ دون سبب. لكن في ألمِ هذا اللقاءِ الذي فيهِ يصبحُ رجسُ كياننا ومرضه واضحًا، يكمنُ خلاصُنا. نظرتُهُ ولمسةُ قلبِهِ تشفينا من خلالٍ تحوُّلٍ مؤلمٍ بكلِّ تأكيد “كما بنار”. مع ذلك فهوَ ألمٌ طوباويٌّ، فيه تدخلُ فينا قوّةُ محبّتهِ القدّوسة كشعلةٍ، فتجعلنا أخيرًا أن نكونَ ذواتَنا بشكلٍ كاملٍ وبذلكَ نكونُ تمامًا لله. هكذا يظهرُ أيضًا ترابطُ العدلِ والنعمةِ: فالطريقة التي نحيا بها ليست دون أهمية، لكن قذارتنا لا تسمّنا إلى الأبد، أقلّه إن بقينا مشدودين نحو المسيح، نحو الحقيقةِ والمحبّة. وفي الواقع لقد سبقَ وأُحرِقتْ هذه القذارة في آلام المسيح. سوف نختبرُ ونقتبلُ في لحظةِ الدينونة انتصارَ محبّته على كلِّ الشرِّ في العالمِ وفينا. فيغدو ألمَ المحبةِ خلاصَنا وفرحَنا. من البديهي أننا لا نستطيعُ قياسَ “المدّةَ” التي فيها نختبرُ النارَ المُحوِّلةَ بمقاييسنا الزمنيّة في هذا العالم. لا يُمكنُ لقياسِ الزمَن الأرضيّ أن يحكمَ قبضته على “لحظةِ” ذاكَ اللقاءِ الذي سيُحوِّلنا – إنّه زَمَنُ القلب، زمَنُ “العبور” إلى الشركةِ مع الله في جسدِ المسيح[39]. إن دينونةَ الله هي رجاءٌ لأنها عدلٌ ونعمة. إن كانت مجرَّدَ نعمةٍ تُلغي قيمةَ كلَّ ما هو أرضيّ، يبقى اللهُ مدينًا لنا بالجوابِ عن سؤالنا بشأنِ العدلِ – وهو يبقى سؤالًا حاسمًا أمامَ التاريخِ وأمامَ الله. وإن كانت مجرّدَ عدلٍ لن تكون بالنسبةِ لنا إلا دافعًا للخوفِ. لقد ربطَ تجسُّدُ الله في المسيحِ الأمران معًا – العدلَ والنعمةَ – بشكلٍ يتحقّقُ فيه العدلُ بحزمٍ: فكلّنا نعمل لأجلِ خلاصنا “بخوفٍ ورعدةٍ” (فيل 2، 12). مع ذلك تسمحُ النعمةُ لنا بأن نرجوَ وأن نسيرَ مملوئينَ ثقةً نحو الديّان الذي نعرفه كـ “محامينا” ومعزّينا (را. 1 يو 2، 1).
48- علينا أن نذكرَ هنا دافعًا آخرَ لأنّهُ هامٌّ لممارسةِ الرجاء المسيحيّ. ففي الديانة اليهودية القديمة كانت توجدُ فكرةٌ تقولُ بأنه يمكنُ مساعدةَ الراقدينَ في حالتهم المؤقتة بواسطةِ الصلاة (را. مثلًا 2 مك 12، 38- 45: في القرن الأول قبل المسيح). لقد تبنَّى المسيحيّونَ بعفويّة بالغة هذه الممارسة التي أضحت مشتركةً بين كنيسة الشرقِ والغرب. وبينما لا يعترف الشرق بألمٍ مُطهّرٍ ومُكفِّرٍ للنفوسِ في الحياة الآتية، يعترفُ بدرجات متفاوتة من السعادة أو الألم في المرحلة المؤقّتة. ويقولُ بأنه يمكننا أن نمنحَ النفوسَ “راحةً وانتعاشًا” من خلال الافخارستيا والصلاة والصدقة. بأن المحبّة يمكنها أن تصل إلى حيّزَ الأبديّة، ومن الممكنِ تبادلُ الخيراتِ فنبقى متّحدين بعضنا البعضَ بروابطِ المَعَزَّةِ حتى بعدَ الموت – كانت هذه قناعةً أساسيةً في العالمِ المسيحيّ خلالَ العصورِ وتبقى اليومَ أيضًا خبرةً مُعزّية. مَن منّا لا يشعرُ بالحاجةِ لإيصالِ إشارةِ صلاحٍ وشكرٍ أو حتى طلبَ صفحٍ مِن أعزّائه الذين رحلوا إلى الأبدية؟ هنا يمكن أن يُطرحَ السؤال: إن كانَ “المَطهر” مجرَّدَ تطهيرٍ للإنسان من خلالِ لقائِهِ مع الرب، الديّانُ والمخلِّص، كيف يمكن لشخصٍ ثالثٍ أن يتدخَّلَ حتى لو كان قريبًا جدًّا من المُتوفّى؟ عندما نطرحُ سؤالًا كهذا علينا أن نتذكّر بأن ليس من إنسانٍ منغلقٍ على ذاته كجزيرةٍ معزولة. فوجودنا هو في شركة عميقة مع وجودِ الآخرين، وبفضلِ تفاعلاتٍ عديدةٍ يرتبطُ كلُّ واحدٍ بالآخر. لا أحد يحيا منعزلًا. لا أحد يرتكبُ الخطيئةَ منعزلًا. لا أحد ينالُ الخلاصَ منعزلًا. ففي حياتي تدخلُ باستمرارٍ حياةَ الآخرين: في ما أفكّر، أقولُ، أعملُ، أحقّقُ. والعكسُ صحيح، فحياتي تدخلُ في حياةِ الآخرينَ: في الشرّ وفي الخير. هكذا لا تكون شفاعتي من أجل الآخر غريبةً عنه، كأمرٍ خارجيّ، ولا حتى بعدَ الموت. ففي ترابط الكيان، يمكنُ لشكري لهُ وصلاتي من أجلِهِ أن يشكّلانِ مرحلةً صغيرةً من عمليةِ تطهيرِهِ. وبهذا ليس هناكَ حاجةٌ لتحويلِ الزمنِ الأرضيّ إلى زمن الله: فشَرِكةُ النفوسِ تتجاوزُ الزمنَ الأرضيّ المجرّد. فلا نعتقد أننا نتأخّرُ أبدًا في لمسِ قلبِ الآخر، ولن يكون هذا أبدًا أمرًا غير مجدي. هكذا يتوضّحُ أكثر أحدُ العناصرِ الهامة لفكرة الرجاء المسيحي. فرجاؤنا هو دائمًا في جوهره رجاءٌ لأجلِ الآخرين؛ هكذا فقط يكون رجاءً لي أنا أيضًا[40]. فنحنُ كمسيحيين يجب علينا ألّا نسألَ أنفسنا فقط: كيف يمكنني أن أخلص؟ علينا أن نسألَ أنفسنا أيضًا: ماذا يمكنني أن أفعلَ كيما يخلُصَ آخرونَ وتشرقَ لهم نجمةُ الرجاء؟ عندها فقط سأكون قد عملتُ كلّ ما يجبُ عليّ عمله لخلاصي الشخصيّ.
مريم، نجمةُ الرجاء
49- تُحَيِّي الكنيسةُ مريمَ أمَّ الله بواسطةِ نشيدٍ يعود للقرن الثامن / التاسع، أي لأكثر من ألف سنةٍ، على أنها “نجمةُ البحر”: السلامُ عليكِ يا نجمةَ البحر(Ave maris stella) حياةُ الإنسانِ هي مسيرة. نحوَ أيةِ غايةٍ؟ كيف نجدُ الطريق؟ الحياةُ هي كسفرٍ في بحر التاريخ، غالبًا ما يكونُ مظلمًا وهائجًا، سفرةٌ نراقبُ فيها النجومَ التي ترشدنا الدربَ. النجومُ الحقيقيةُ لحياتنا همُ الأشخاصُ الذين عرفوا أن يحيوا بطريقة صحيحة. هم لنا أنوارُ الرجاء. طبعًا يسوع المسيح هو النورُ النموذجيّ، هو الشمسُ الساطعةُ في ظلامِ التاريخ. لكن كي نصلَ إليهِ نحنُ بحاجةٍ أيضًا لأنوارٍ قريبةٍ – لأشخاصٍ يشعّونَ نورًا متّخذينه من نوره، وهكذا يكونون لنا دليلًا في رحلتنا. وأيُّ شخصٍ يمكنه أن يكون لنا نجمةَ رجاءٍ أكثر من مريم – هي التي بقولها “نعم” قد فتحت للهِ باب عالمِنا؛ هي التي أضحَت تابوتَ العهدِ الحيّ، الذي صار الله فيهِ بشرًا، صارَ واحدًا منّا، نَصَبَ خيمتَهُ بيننا (را. يو 1، 14)؟
50- لها إذًا نتوجّه قائلين: يا قدّيسة مريم، أنتِ كنتِ واحدةً من تلكَ النفوسِ المتواضعةِ والعظيمةِ في إسرائيلَ، تلكَ التي كسمعانَ كانت تنتظرُ “عزاءَ إسرائيل” (لو 2، 25) وتتطلَّعُ كحنة إلى “فداءِ أورشليم” (لو 2، 38). كنتِ تحيينَ بعلاقةٍ حميمةٍ مع كتبَ إسرائيلَ المقدّسة، تلك التي كانت تتكلّمُ عن الرجاء – عن وعدِ الله لإبراهيم ونسلِهِ (را. لو 1، 55). لهذا نفهمُ الرهبةَ المقدّسةَ التي شعرتِ بها عندما دخلَ ملاكُ الربِّ مخدعَكِ وقال لكِ بأنكِ ستلدين رجاءَ إسرائيلَ ومُنتَظَرَ العالم. بواسطتكِ وبفضلِ الـ “نَعَم” التي قلتيها، كان على الرجاء المنتَظَرِ منذُ آلافِ السنين أن يَغدوَ واقعًا، أن يدخُلَ في هذا العالم وفي تاريخه. لقد انحنيتِ أمامَ عظَمَةِ هذه المُهمّة وقلتِ “نَعَم”: “أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ” (لو 1، 38). وعندما كنتِ مملوءةً بالفرحِ وعَبَرتِ بسرعةٍ جبالَ اليهوديةِ لتصلي عندَ نسيبتِكِ اليصابات، قد صرتِ الكنيسةِ المستقبليّة التي تحملُ في داخلها رجاءَ العالمِ عَبرَ جبالِ التاريخ. مع الفرحِ الذي نشرتيهِ عَبرَ السنين من خلالِ ترديدنا وترتيلنا نشيدَكِ “تعظِّمُ نفسيّ الربَّ”، كنتِ على علمٍ أيضًا بأقوالِ الأنبياء الغامضة، التي تحدّثوا فيها عن ألَمِ عبدِ الله في هذا العالم. عند الميلادِ في مذود بيتِ لحم أشرَقَ ضياءُ الملائكةِ الذين حَمَلوا الخبرَ السارَّ للرعاة، لكن في نفس الوقت صار فقرُ الله في هذا العالم ملموسًا إلى أقصى الحدود. لقد كلّمكِ الشيخُ سمعان عن السيفِ الذي كان سينفذُ في قلبك (را. لو 2، 35)، عن كون ابنكِ آيةً معرَّضةً للرفضِ في العالم. وعندما بدأ يسوعُ نشاطه العلنيّ كان عليكِ أن تتنحّي جانبًا، في سبيل نموّ العائلة الجديدة التي أتى لأجلِ تأسيسها وهي تتطوّرُ بفضلِ مساهمةِ أولئكَ الذين سمعوا كلمته وحفظوها (را. لو 11، 27 وما يليه). وبالرغم من كل الفرح الذي رافقَ انطلاقةَ نشاطِ يسوع، كانَ عليكِ أن تختبري في مَجمَع الناصرة حقيقةَ “الآية المعرّضةِ للرفض” (را. لو 4، 28 وما يليه). هكذا قد رأيتِ سلطانَ الحقدِ المتزايدِ والرفضِ المتصاعِدِ تجاه يسوع حتى ساعةِ الصليب، حيث كان عليكِ أن تري مُخلِّصَ العالم، وريثَ داود، ابن الله يموت بين الأشرار، كفاشلٍ يسخرون منه. فقبلت عندئذٍ الكلمة: “يا امرأة، هذا ابنك!” (يو 19، 26). ومن على الصليب أعطيتِ مُهمَّةً جديدة. فمن الصليب أصبحتِ أمًا بطريقةٍ جديدة: أمًا لكل الذين يريدون الإيمانَ بإبنكِ يسوع واتباعه. لقد نَفَذَ سيفُ الآلامِ قلبَكِ. فهل مات الرجاءُ؟ هل بقيَ العالمُ دونَ نورٍ نهائيًا، وهل بقيتِ الحياةُ دون هدفٍ؟ في تلكَ الساعةِ قد سمعتِ، على الأغلب، في قلبكِ كلمةُ الملاكِ تتردَّدُ من جديد، تلك التي بها أجاب عن خوفكِ في لحظةِ البشارة: “لا تخافي، مريم!” (لو 1، 30). كم مرةً كان قد ردّدها الربُّ ابنُك لتلاميذه: لا تخافوا! في ليلِ الجلجلة قد سمعتِ من جديدٍ هذه الكلمة. قبل ساعةِ تسلميه قد قال لتلاميذه: “ثقوا! فقد غلبتُ العالم” (يو 16، 33) "لا تضطرب قلوبكم ولا تفزع" (يو 14، 27). "لا تخافي، مريم!" يومَ البشارة قال لكِ الملاكُ أيضًا: “لن يكونَ لمُلكِهِ نهاية” (لو 1، 33). فهل كان مُلْكُهُ قد انتهى قبل أن يبدأ؟ لا، عند الصليبِ، وحسبَ كلمة يسوعَ نفسها، أنتِ قد صرتِ أمَّ المؤمنين. بهذا الإيمان، الذي كانَ لكِ رجاءً أكيدًا حتى في ظلامِ السبتِ المقدّس، قد سِرتِ نحوَ صباحِ الفصح. لقد لمسَ فرحُ القيامةِ قلبَكِ ووحَّدَكِ مع التلاميذِ بشكلٍ جديد، التلاميذ المزمعينَ أن يصيروا عائلةَ يسوع بفضلِ الإيمان. هكذا كنتِ موجودةً في وسط جماعةِ المؤمنين، الذين اجتمعوا ليُصلّوا بنفسٍ واحدةٍ بعد صعودِ الربِّ ليطلبوا عطيةَ الروح القدس (را. رسل 1، 14) فنالوه في يوم العنصرة. لقد كان “ملكوت” يسوعَ مختلفًا عما تصّوره الناس. ذاك “الملكوت” الذي بدأ في تلك الساعة دون أن يكون له انقضاء. هكذا تظلّين أنتِ بين التلاميذِ كأمٍ لهم، كأمِّ الرجاء. يا قديسة مريم، يا والدةَ الله، علّمينا أن نؤمن، أن نرجو وأن نحبّ معكِ. أرشدينا الطريقَ نحوَ ملكوتِهِ! يا نجمةَ البحرِ، أشرقي علينا وسيري أمامَنا في الدرب!
أعطيَت في روما، قرب القديس بطرس
في 30 نوفمبر / تشرين الثاني
في عيد القديس أندراوس الرسول
عام 2007، العام الثالث لحبريّتنا
بندكتس السادس عشر
[1]مجموعة الكتابات اللاتينية (Corpus Inscriptionum Latinarum) المجلد السادس، رقم 26003.
[2]را. القصائد العقائدية (Poemata dogmatica) المجلد الخامس، رقم 53-64: الآباء اليونان 37، 428-429.
[3]را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، الأعداد 1817-1821.
[4]الخلاصة اللاهوتية، (II-IIae, q. 4, a. 1).
[5]هـ. كوستير: (ThWNT, VIII (1969) 585).
[6]كتاب “في رحيل أخيه ساتيروس” للقديس أمبروسيوس (II, 47: CSEL 73, 274 De excessu fratris sui Satyri).
[7]نفس المرجع (II, 46: CSEL 73, 273).
[8]رسالة “نحو البرهان” للقديس أغسطينوس (Ad Probam 14, 25-15, 28: CSEL 44, 68-73 130).
[9]را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 1025.
[10] جان جونو، الغنى الحقيقي، باريس 1936، مقدمة من: هنري دي لوباك، الكاثوليكية. الجانب الاجتماعي للعقيدة، باريس 1983، VII.
[11]رسالة “نحو البرهان” للقديس أغسطينوس (Ad Probam 13, 24: CSEL 44, 67 130).
[12]Sententiae III, 118: CCL 6/2, 215.
[13]را. نفس المرجع (III, 71: CCL 6/2, 107-108).
[14]فرنسيس باكون، الأداة الجديدة (Novum Organum I, 117).
[15]را. نفس المرجع (I, 129).
[16]را. New Atlantis.
[17]في الجزء الرابع من كتاب Werke برعاية W. Weischedel. (1956)، 777 . الصفحات التي تتحدث عن “نصر المبدأ الصالح”، تشكل الفصل الثالث من كتاب “الدين في حدود العقل”، الذي نشره كانط عام 1793.
[18]كانط، Das Ende aller Dinge، في Werke الجزء السادس، برعاية W. Weischedel (1964)، 190.
[19]فصول عن المحبة، الجزء الأول، الفصل الأول: الآباء اليونان 90، 965.
[20]را. نفس المرجع: الآباء اليونان 90، 962 – 966.
[21]اعترافات القديس أغسطينوس، الكتاب العاشر 43 ، 70: (CSEL 33, 279).
[22]العظة 340 ، 3: الآباء اللاتين 38 ، 1484؛ راجع (F. Van der Meer, Augustinus der Seelsorger, (1951), 318).
[23]العظة 339 ، 34: الآباء اللاتين 38 ، 1481.
[24]اعترافات القديس أغسطينوس، الكتاب العاشر 43 ، 69: (CSEL 33, 279).
[25]را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، العدد 2657.
[26]را. 1 يو 4 / 6: في الآباء اللاتين 35 ، 2008 وما يلي.
[27] شهود الرجاء، Città Nuova 2000، 156s.
[28]كتاب الفرض الروماني، فرض القراءة في 24 تشرين الثاني.
[29]عظات في النشيد، عظات 26، 5: الآباء اللاتين 183، 906.
[30]Negative Dialektik 1966، الجزء الثالث، III ، 11 في:1973, 395 Gesammelte Schriften Bd. VI, Frankfurt/Main.
[31]نفس المرجع، الجزء الثاني، 207.
[32]وثائق الكنيسة الكاثوليكية، دنتسنغر – هونرمان، عدد 806.
[33]را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، الأعداد 988 – 1004.
[34] نفس المرجع، عدد 1040.
[35]را. كتاب عظة في المزامير، مز 127 / 1-3: CSEL 22, 628- 630.
[36]غورجاس (Gorgia 525a-526c).
[37]را. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، الأعداد 1033 – 1037.
[38]نفس المرجع، الأعداد 1023 – 1029.
[39]نفس المرجع، الأعداد 1030 – 1032.
[40]نفس المرجع، العدد 1032.
[i]جميع الكلمات الواردة في النص الأصلي بحرفٍ كبير والتي عنى بها الكاتب شخص الله مباشرة، قد أوردناها بخطٍ ثخينٍ ومائل. (المترجم).
[ii]سبارتاكو: أحد العبيد الذين عاشوا في القرن الأول قبل المسيح في امبراطورية روما. بعد أن أُجبر على أن يلعب كمصارعٍ في المباريات العامة، تمرَّد ونظَّم عام 73 ق. م. حملة جمعت شمل العبيد المتمرّدين وقاتل الجيش الروماني وهزمه مرتين. (المترجم).
[iii]بار كوخبا: قائد الثورة اليهودية ضدّ الرومان (131- 135 م). (المترجم).
[iv]نواويس: مفردها ناووس وهو تابوت من حجر استعمله المسيحيون الأوائل لموتاهم مثلهم مثل الوثنيين الذين سبقوهم، لكن ما يميّز النواويس المسيحية هو النقوش المُعبِّرة عن الإيمان بالمسيح، بالخلود والقيامة. (المترجم).
[v]"Substantia" وتعني "جوهر". أو ما يكون تحت الظواهر (تحت: sub و الظواهر: stantia). (المترجم).
[vi]فرنسيس باكون (1561 - 1626): فيلسوف، عالم وسياسي إنكليزي. ألَّف كتاب “تطور المعرفة” ينتقد فيهِ العلوم الميتافيزيقية ويدعو إلى المعرفة على الأسُس التجريبية حصراً. (المترجم).
[vii]الكلمة اللاتينية الأصلية (com-passion) تصعب ترجمتها للعربية وتعني "التألُّم مع". (المترجم).
[viii]التأليه الوحائي (Theismus) هو مذهب فلسفي يعترفُ بوجودِ إلهٍ شخصيّ أوحى بنفسه وبعملِ عنايته الإلهية في العالم. (المترجم).
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana