Index

  Back Top Print

[AR - DE - EN - ES - FR - IT - PT]

 


الذكرى الـسبعمائة وألف للمجمع المسكونيّ النيقاويّ الأوّل (325 – 2025)

ملاحظاتٌ تمهيديّة

في إطار دورتها العاشرة الممتدّة على خمسة أعوام، ارتأت اللجنة اللاهوتيّة العالميّة أن تخصّص أحد أبحاثها  لدراسةٍ معمّقة حول المجمع المسكونيّ الأوّل النيقاويّ، ولتسليط الضوء على معنى عقيدته المهمّة في في أيّامنا الحاضرة. وقد أُوكلت هذه المهمّة إلى لجنةٍ فرعيّةٍ، ترأّسها الأب فيليب فالان، وضمّت في عضويّتها كلًّا من أصحاب السيادة: المونسنيور أنطونيو لويز كاتلان فيريرا، والمونسنيور إتيان فيتو، إلى جانب الآباء: ماريو أنخل فلوريس راموس، وكابي ألفريد هاشم، وكارل هاينز مينكه، وكذلك البروفسورتين ماريان شلوسر،  وروبين دارلينغ يونغ.

جرت المناقشاتٌ العامّةٌ حول هذا الموضوع، في الاجتماعات التي عقدتها اللجنة الفرعيّة و في الجلسات العامّة للّجنة اللاهوتيّة العالميّة، المنعقدة بين عامي 2022و2024.  ثمّ عُرِض هذا النصّ على التصويت، فحصل على الموافقة بالإجماع بصيغته المحدّدة[1]، كما أقرّها أعضاء اللجنة اللاهوتيّة العالميّة خلال الجلسة العامّة المنعقدة، عام 2024. وبعد ذلك، رُفع النصّ لنيل الموافقة الرسميّة من قِبل رئيس اللجنة، صاحب النيافة الكردينال فيكتور مانويل فرنانديس، عميد دائرة عقيدة الإيمان، الذي، وبعد أن حصل على الموافقة الرسميّة من قداسة البابا فرنسيس، أذن بنشره، بتاريخ 16 كانون الأول / ديسمبر 2024.

مقدّمة: تمجيدٌ ولاهوتٌ وتبليغٌ للإيمان

1. في 20 أيار / مايو 2025، تستذكر الكنيسة الكاثوليكيّة وجميع العالم المسيحيّ بامتنانٍ وفرحٍ كبيرين افتتاح مجمع نيقيا في عام 325 : "إنّ مجمع نيقيا هو مرحلةٌ مهمّةٌ في تاريخ الكنيسة. يدعو الاحتفال بتذكاره المسيحيّين إلى أن يتّحدوا في التّسبيح والشّكر للثّالوث الأقدس، وخصوصًا ليسوع المسيح، ابن الله، "الذي من جوهر الآب" والذي كشف لنا سرّ المحبّة الإلهيّة[2]. لقد بقي هذا الأمر حاضرًا في الوجدان المسيحيّ بشكلٍ رئيسيٍّ من خلال قانون الإيمان، الذي يجمع ويحدّد ويعلن الإيمان في الخلاص بيسوع المسيح وبالله الواحد: الآب والابن والروح القدس. يعلن قانون الإيمان النيقاويّ البشارة بالخلاص الكامل للإنسان، الذي حقّقه الله نفسه بيسوع المسيح. وبعد سبعة عشر قرنًا، يبقى الأمر المطلوب قبل كلّ شيءٍ الاحتفال بهذا الحدث بتمجيد الله وتسبيحه، لأنّ هذا المجد قد تجلّى في الكنز الفريد، أي بإيمان الكنيسة، كما عبّر عنه هذا القانون نفسه. البهاءُ اللامتناهي للهِ الآبِ الذي يخلّصنا، والرحمةُ الغامرة ليسوع المسيح مخلّصنا، وسخاءُ الفداءِ الممنوحِ لكلِّ إنسانٍ في الروحِ القدس. أمورٌ تدعونا إلى التسبيح. وها نحن نرفع أصواتنا مع أصواتِ الآباء القديسين، من مثال أفرام السريانيّ، لنرتّل هذا المجد :

"المجدُ لمن جاء إلينا بابنه البكر!
المجدُ للصامت، الذي تكلّم بصوته!
المجدُ للسامي، الذي تجلّى بظهوره!
المجدُ للروحانيّ،الذي سُرَّ بأن يصير ابنه جسدًا،
لكي تُدرَكَ قوّته بهذا الجسد،
وتنبض الحياة في أجساد أبناء شعبه!"
[3]

2. إنّ النور الذي ألقاه مجمع نيقيا على سرّ الوحي المسيحيّ يتيح لنا اكتشاف كنزٍ روحيٍّ لا ينضب، يستمرّ عبر العصور والثقافات، وذلك بالمزيد من التعمّق، والكشف عن ملامح جديدةٍ تتلألأ بالجمال وتنبض بالتجدّد المستمرّ. تَبرز هذه الملامح المتعدّدة بشكلٍ خاصٍّ عبر القراءة التأمليّة واللاهوتيّة لقانون كما تعتمدها معظم التقاليد المسيحيّة، إذ يتمتّع كلٌّ منها بعلاقةٍ مميّزةٍ بهذا القانون. وتُعدّ هذه الذكرى فرصةً تُتيح لجميع التقاليد إعادة اكتشاف هذا القانون، والتعرّف على غناه وعلى رابط الوحدة الذي يمكن أن ينسجه بين جميع المسيحيّين. يؤكّد البابا فرنسيس: "كيف يمكننا أن نغفل عن الأهمية الفائقة لمثل هذه الذكرى المكرَّسة لخدمة السعي إلى الوحدة الكاملة بين المسيحيّين؟"[4]

3. يُعْتَبر مجمع نيقيا أوّل مجمع يُطلق عليه صفة " مسكونيّ"، إذ دُعي إليه لأوّل مرّةٍ أساقفةُ المسكونة[5]، وكان لا بدّ أن تحمل قراراته بعدًا مسكونيًّا، أي شاملاً وعالميًّا. وقد قُبلت هذه القرارات من المؤمنين والتقليد المسيحيّ عبر عمليّةٍ طويلةٍ وشاقّة. لقد كان الرهان الكنسيّ جوهريًّا للغاية، إذ  يندرج القانون ضمن حركة التبنّي التدريجيّ، من قبل التعليم المسيحيّ، للّغة وأنماط الفكر اليونانيّين اللذين تمّ تحوّلها، بمعنًى ما، بتأثير تفاعلهما مع الوحي. لقد مثّل المجمع علامةً فارقةً تؤكّد التشديد المستمرّ على أهمّيّة المجامع وطرق الإدارة المجمعيّة في كنيسة القرون الأولى، كما شكّل منعطفًا جوهريًّا في تاريخ التنظيم الكنسيّ.ففي إطار السلطة الممنوحة للرسل من قبل يسوع والروح القدس (لوقا ١٠: ١٦؛ أعمال الرسل ١: ١٤ – ٢: ١-٤)، شكّل مجمع نيقيا نقطة انطلاقٍ لتنظيمٍ بنيويٍّ جديدٍ لممارسة لسلطة في الكنيسة، جعل منها سلطةً ذات طابعٍ شامل سيتمّ الإقرار به منذئذٍ  للمجامع المسكونيّة، في شؤون العقيدة والنظام، على حدٍّ سواء. وقد سلّط هذا التحوّل الحاسم الضوء، في أسلوب التفكير ونظام التدبير داخل جماعة تلاميذ الرب يسوع، على الجوانب الأساسيّة لرسالة التعليم التي تقوم بها الكنيسة، وكشف بذلك عن طبيعتها.

4. قبل الدخول في صلب تأمّلنا، لا بدّ وأن نوضح أنّنا نعتمد في هذه الوثيقة قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ (381)، كما ورد حرفيًّا، وليس النصّ الذي صِيغ في نيقيا (325). فقد استغرق الأمر نحو خمسين عامًا لقبول مصطلحات القانون النيقاويّ، وللإجماع على الطابع الشامل للمجمع المسكونيّ الأوّل.إنّ مسار قبول (تمثّل) قانون نيقيا استمرّ طوال فترة النزاع مع الرافضين لألوهة الروح القدس، بين مجمع نيقيا ومجمع القسطنطينيّة، ممّا أفضى إلى إدخال تعديلاتٍ بالغة الأهميّة على النصّ، ولا سيّما في البند الثالث من القانون. ووفقًا لرأي الآباء، إنّ هذه العمليّة، التي أفضت إلى قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ، لم تكن تنطوي على أيّ تحريفٍ للإيمان النيقاويّ، بل كانت تهدف إلى حفظه حفظًا أصيلًا. في هذا الإطار، يُعدّ تمهيد الباب العقيديّ لمجمع خلقيدونيّا، الذي سبقه تثبيت نصّي قانون نيقيا ونيقيا-القسطنطينيّة، بمثابة "تأكيد" لما جاء في قانون "المئة والخمسين أبًا" (القسطنطينيّة)، إذ يتمثّل مغزاه، وفقًا لنصّه الخاصّ، في التحديد اللاهوتيّ الدقيق لما يتعلّق بالروح القدس، في مواجهة الذين ينكرون ألوهيّته بصفته ربًّا[6].تتجلّى عظمة ما جرى في نيقيا  بالقرار الذي اتخذه مجمع أفسس  القاضي بعدم اعتماد أيّ صيغةٍ إيمانيّةٍ جديدةٍ[7]. ذلك لأنّ مؤيّدي االإيمان القويم في الفترة التي تلت نيقيا اعتقدوا بأنّ التمييز اللاهوتيّ المتبلور في قانون نيقيا يكفي لضمان ثبات إيمان الكنيسة إلى الأبد. فعلى سبيل المثال، قال أثناسيوس عن قانون نيقيا إنّه "كلمة الله التي تبقى إلى الأبد" (إش 4.، 8)[8]. واستمرّ هذا المسار من التقليد الحيّ والقانونيّ في الفترة الممتدّة بين القرنين الرابع والتاسع، من خلال اعتماد القانون في رتبة المعموديّة، ولا سيّما في الشرق، ثمّ في ليتورجيا الإفخارستيا. وتجدر الإشارة إلى أنّ إضافة عبارة "المنبثق من الابن" الموجودة في النسخ الغربيّة الحاليّة من قانون الإيمان ليست جزءًا من النصّ الأصليّ لقانون نيقيا-القسطنطينيّة، الذي تستند إليه هذه الوثيقة[9]. وإنّ  مسألة انبثاق الروح القدس لا تزال مصدرًا لسوء التفاهم بين الجماعات المسيحيّة، وهو محور نقاشٍ بين الشرق والغرب، حتى يومنا هذا.

5. في الفصل الأول، نقدم قراءة تمجيديّة لقانون الإيمان، تهدف إلى إعلان الأسس الخلاصيّة، ومن ثمّ الأسس المسيحانيّة والثالوثيّة والإنسانيّة . وتشكّل هذه المناسبة فرصةً لإبراز تأثير القانون النيقاويّ، ولاستلهامه من جديد في سبيل تعزيز وحدة المسيحيّين. فإنّ إدراك غنى مجمع نيقيا، بعد مرور ألف وسبعمائة سنة، يدعونا إلى فهم الطريقة التي يغذّي بها هذا المجمع ويوجّه الحياة المسيحيّة اليوميّة: ففي الفصل الثاني، ذي الصبغة الآبائيّة، يبيّن تأثير المجمع في إذكاء الحياة الليتورجيّة وحياة الصلاة داخل الكنيسة عقب انعقاده. ويشكّل مجمع نيقيا نقطة تحوّلٍ محوريّةٍ في تاريخ المسيحيّة، لذا سنفرد الفصل الثالث للوقوف على الطريقة التي يشهد بها قانون الإيمان وانعقاد المجمع على الحدث المركزيّ المتمثّل في يسوع المسيح نفسه، الذي شكّل تدخّله في التاريخ انفتاحًا غير مسبوقٍ على الله، وأحدث تحوّلًا جذريًّا في الفكر البشريّ، أي بعبارةٍ أخرى إنّه حدثّ يتجلّى فيه طابع  الحكمة الإلهيّة. يشهد قانون الإيمان والمجمع معًا على جدّةٍ في نمط تنظيم كنيسة المسيح لبنيتها وأداء رسالتها، فهما يجسّدان حدثًا كنسيًّا ذي دلالةٍ محوريّة. أخيرًا، في الفصل الرابع، نُحلّل عناصر مصداقيّة الإيمان الذي أُعلن في نيقيا، وذلك في إطار اللاهوت الأساسيّ، الذي يُسهم في  الكشف عن طبيعة الكنيسة وهوّيّتها كونها المُفسِّر الأصيل للحقيقة ومعيار الإيمان من خلال سلطتها التعليميّة وبصفتها الحارسة الأمينة للمؤمنين، لا سيما الصغار منهم والأكثر ضعفًا،  المنتمين إلى  جسد المسيح.

6. "لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت" (متى 5، 15) هذا النور هو المسيح، "نورٌ من نور". إنّ اندهاشنا من هذه العظمة  يجعلنا نعي في داخلنا اندفاعًا جديدًا لنُعلن البُشرى السارّة بقوّةٍ وإبداعٍ متجدّدَين في الروح القدس. يشعّ هذا النور بقوّةٍ على عصرنا الراهن، المضطرب بعوامل العنف والظلم، والمثقل باللايقين، والذي تتّسم علاقته بالتعقيد، حتى يبدو الإيمان والانتماء الكنسيّ، في هذا السياق، وكأنّهما في موضع تهديدٍ فعليّ. يزداد نور هذا الإيمان إشراقًا وقوّةً بمقدار ما يتشارك فيه جميع المسيحيّين في اعترافٍ واحدٍ وشهادةٍ موحِّدة، ليساهموا بذلك في دعوة رجال هذا العصر ونسائه إلى يسوع المسيح، ابن الله والمخلّص. الجوهر الأساس عندنا، والأجمل والأكثر جاذبيّة، وفي الوقت نفسه الأكثر إلحاحًا، هو الإيمان بالمسيح يسوع. كلّنا معًا، بمشيئة الله، سنجدّد هذا الإيمان تجديدًا رسميًّا خلال اليوبيل المقبل، ويُناط بكلّ واحدٍ منّا واجب إبلاغه إلى كلّ رجلٍ وامرأةٍ على وجه الأرض، وهذا هو التكليف الأساسيّ للكنيسة ومهمّتها الجليلة[10].

الفصل الأوّل: القانون من أجل الخلاص: التمجيد الإلهيّ والمعنى اللاهوتيّ لعقيدة نيقيا

7. إنّ الاحتفال بالذكرى السبعمائة وألف لمجمع نيقيا، هو، قبل كلّ شيء، مناسبة تدعونا للوقوف باندهاشِ أمام القانون الذي سلّمنا إيّاه المجمع، وأمام جمال الهبة المقدَّمة في شخص يسوع المسيح، إذ يغدو هذا القانون أشبه بأيقونةٍ ناطقةٍ عنه. لذلك نفتتح دراستنا لمجمع نيقيا بالتأمّل في هذا القانون، بهدف الكشف عن رحابة الإيمان بالثالوث، وعمق الخريستولوجيا، وغنى عقيدة الخلاص الذي يحمله، دون أن نغفل عمّا يتضمّنه من دلالات في الأنثربولوجيا وسرّ الكنيسة، قبل أن نختتم بتسليط الضوء على أبعاده المسكونيّة. يمكن القول إنّ ما نحن بصدده هو عمل لاهوتيّ ذو طابع تمجيديّ. فالمقصد منه لا يتمثّل في تعميق كلٍّ من مواضيع هذا الملخّص من الإيمان المسيحيّ، الذي هو قانون الإيمان – إذ إنّ ذلك سيكون قليل الجدوى، بل مستحيلاً في إطار هذا البحث – بل يرمي بالأحرى إلى الكشف عن غنى الصياغات والحَقَائق التي يقدّمها قانون الإيمان النيقاويّ من الناحية العقائديّة، ولا سيّما تلك التي تحمل في طيّاتها أكبر التحديّات والثمار، في هذه المرحلة من تاريخ الكنيسة والعالم، فيما نحيي ذكرى مجمع نيقيا.

 

- الدخول في سرّ عظمة الأقانيم الإلهيّة الثلاثة التي تخلّصنا: "الله محبة"، محبّة لا متناهية

٨.إنّ قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ مبنيّ على إعلان الإيمان بالثالوث الأقدس:
نؤمن بإلهٍ واحد، آب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى.
ونؤمن بربٍّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله، الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نورٍ من نور، إلهٍ حق من إلهٍ حق، مولود غير مخلوق، هو والآب جوهرٌ واحد، الذي به كان كلّ شيء . […]
ونؤمن بالروح القدس، الربّ المحيي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن، مسجودٌ له وممجّد، الذي تكلّم بالأنبياء[11][…].

- عظمة أبُوّة الله الآب، أساس عظمة الابن والروح القدس

9. في صميم إيمان نيقيا، يتمّ التأكيد على وحدانيّة الله. فالمسيحيّة، في جوهرها، ديانة توحيديّة ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بوحي الله المعلن لشعب إسرائيل. غير أنّ قانون الإيمان لا يبدأ بـالكلام عن "إلهٍ" مجرَّد، ولا عن الطبيعة الإلهيّة الواحدة، بل يركّز في المقام الأوّل على الأقنوم الإلهيّ الأول، وهو شخص الآب، بصفته "خالق السماء والأرض" (راجع تك 1، 1؛ نح 9، 6؛ رؤ 10، 6)، إنّه أبُ كلّ شيء[12]. علاوةً على ذلك، يكشف المسيح عن أبوّة الله العجيبة في صميم كيانه الإلهيّ والتي تمثّل أساس أبوّته لما هو خارجٌ عن ذاته. إذا كان المسيح هو الابن الإلهيّ بشكلٍ فريد، فهذا يُبيّن وجود توليد في ذات الله: إذ يهب الله الآب كل ما يملكه وكل ما هو. فالله ليس مبدأً محدودًا أو أنانيًّا، بل هو منزّه عن الحسد[13]، أبُوّته، شأنها شأن قدرته المطلقة، تكمن في القدرة على العطاء الكامل لذاته. هذا العطاء الأبويّ ليس مجرد سمةٍ من سماتٍ متعددة، بل هو الجوهر الذي يحدّد الآب، إذ إنّه أبوّةٌ متجليّة بكل كمالها[14]. إنّ الله هو آبٌ منذ الأزل، ولم يكن في أيّ وقتٍ من الأوقات إلهًا "منعزلًا" [15]. تُعدّ أبوّة الله الواحد هذه، أولى حقائق الإيمان المسيحيّ الذي يملأ القلب عجبًا، وهي جديرة بأن نحتفل بعظمتها مجدّدًا من خلال إعادة اكتشاف إرث مجمع نيقيا بعد مرور سبعة عشر قرنًا على انعقاده. ومن ثمّ، فإن الغاية تكمن أيضًا بالتعمّق في استكشاف ما تنطوي عليه هذه الحقيقة من دلالاتٍ لفهم سرّ الثالوث الأقدس.

10. يشهد الإيمان بالآب على كمال الله وغناه الفائق[16]. يُمثّلُ لقبَ اللهِ "الضابط الكل" تعبيرًا مستمدًّا من مجموعة من التسميات الموروثة في العهد القديم، على غرار "ربّ الصباؤوت (رب الجنود)"، والتي تتكرّر أيضًا في نصوص العهد الجديد في إطار الليتورجيّات السماويّة (رؤ 4، 8؛ 11، 17؛ 15، 3؛ 16، 14؛ 19، 6).

11. كذلكيكشف تجلّي أبوة الله في المسيح عن عظمة الابن والروح القدس. إذا كان الله الآب يهب كلّ شيء، باستثناء أبوّته، فإنّ ذلك يعني أنّ الابن والروح القدس متساويان تمامًا مع الآب في ألوهيتهما.يُعدُّ الابن في القانون "واحدًا" و"سيدًا"، وهو اللقب الذي يُترجم به اسم الله الرباعيّ (Tétragramme). إنّه المصطلح الذي يُشير إلى اسم الله المقدس في العهد القديم، وهو يتكوّن من أربعة أحرف عبرية: يهوه (YHWH). هذا الاسم يُعتبر الاسم الأقدس في التقليد اليهوديّ، ولا يُلفظ تقليديًّا، احترامًا لقداسة الاسم، ولكنّه غالبًا ما يُستبدل في القراءة بعباراتٍ مثل أدوناي أي السيد، في الترجمة السبعينيّة، و"ابن الله"، و"المولود الوحيد" في خصوصيّة العلاقة مع الآب، و"إله من إله»، و"نور من نور"، و"إله حقّ من إلهٍ حقّ"، و"هو والآب جوهرٌ واحد". نشير، على سبيل المثال، إلى أنّ الابن يُسمى في الإنجيل الرابع في عدة مواضع " إله" (théos)(يو 1، 1؛ 5، 18؛ 20، 28. الابن مولودٌ "قبل كل الدهور"، وهو ما يقصد به القانون أنّه أزليٌّ مع الآب (راجع يو 1، 1). هذا كلّه موجّهٌ ضدّ موقف أريوس الذي كان يقول: "كان هناك زمنٌ لم يكن فيه [الابن] موجودًا"، و"قبل أن يولد لم يكن"، و"لقد وُجد انطلاقًا ممّا لم يكن"[17]. أو بعبارةٍ أخرى، الابن هو من "العدم "، بموجب "إرادة" الآب و"مشورته"[18]. لذلك يتمّ الاعتراف بالابن على أنّه "الذي به كُوّن كلُّ شيء" (راجع ١كو ٨، ٦؛ يو ١، ٣). الله عظيمٌ بحيث إنّ الآب قادرٌ على أن يُولِد آخر يساويه في جوهر الألوهيّة. الله يفوق كل تصوّرٍ وخيال، إذ إنّ وحدته تشتمل على تعدديّة حقيقيّة لا تمسّ جوهر هذه الوحدانيّة.

12. يمنح الآب الروح َكلّ شيء أيضًا، وهو الذي يُوصَف بتعابير خاصّة وحصريّة بالألوهة: "الروح"، "القدّوس"، و"الربّ" (وهي إشارة جديدة إلى الاسم الإلهيّ الرباعيّ الأحرف). وكما أنّ الآب هو الخالق، وأنّ الابن هو الكلمة الذي به خلق الآبُ كلّ شيء، كذلك يُعلَن عن الروح أنّه "واهب الحياة." وكما أنّ الابن مولودٌ من الآب، فإنّ الروح "منبثق من الآب". وكلّ ما هو ثابتٌ بشأن الروح يُقصَد به عمدًا أن يكون موافقًا لما ورد في المقطع الخاصّ بالابن.[19] ولذلك، فإنّ عبادة الروح مع الآب والابن ممكنةٌ وواجبة، وذلك تأكيدًا على الطابع التمجيديّ الواحد لقانون الإيمان.

13. لا بدّ من التأكيد، في آنٍ واحد، على ألوهيّة الروح القدس باعتباره "الأقنوم الثالث" في جوهر الله، وعلى علاقته بالآب، كما بالابن. في الواقع، ما زالت بعض الصعوبات تواجهنا حتى اليوم وتحول دون الاعتراف بالروح القدس كأقنومٍ إلهيٍّ كامل بذاته، لا كمجرّد قوّةٍ إلهيّة أو طاقة كونيّة فحسب.غالبًا ما نصلّي إلى الآب والابن، ونُغفل الروح القدس، على خلاف صلاة الكنيسة التي تتوجّه دومًا إلى الآب، بواسطة الابن، في الروح القدس. ولذلك يُحفظُ، عن حقّ، مكانٌ مرموق للإفخارستيّا، وللعذراء مريم، وللكنيسة، دون أن نُدرَك تمامًا مدى قيمتها الحقيقيّة التي تكتسبها كونها مفعمةٌ بالحياة بفعل الروح[20].

وعلى النقيض من ذلك، يذهب بعضهم إلى منح الروح القدس مكانةً مركزيّة، بل حتى حصريّة، إلى درجة تراجع حضور الآب والابن إلى الخلفيّة، ممّا يؤدي، في مفارقةٍ لاهوتيّة، إلى شكلٍ من أشكال الاختزال في لاهوت الروح القدس، إذ إنّه روح الآب وروح الابن (غلاطية 4، 6؛ رو 8، 9). وإنّ عظمة الروح القدس الفائضة، كما تعلنها عقيدة الإيمان النيقاويّة، تشكّل ضمانةً ضدّ هذه الاختزالات.

14. وهكذا، من ملء الينبوع الذي تمثّله أبُوّة الله، يتدفّق الفيض الفائق للكمال الإلهيّ: الآب والابن والروح القدس، ذاك الإله الذي يظل دائمًا الأعظم. غير أنّ فيض الأبوّة، بوصفها مصدرًا أصيلًا في الله، يفترض وجود ترتيبأو تراتبيّةفي الحياة الثالوثيّة الإلهيّة، إذ إنّ الآب هو أصل كلّ الألوهة[21]. إنّ الأقنوم الثاني هو حقًا إلهٌ ونور، لكنّه كذلك بصفته "إلهًا من إله"، و"نورًا من نور". مع أنّ الاعتراف بأنّ الروح القدس مساوٍ في الألوهة للابن والآب، فإنّ طريقة التعبير عنه تُظهِره بصورة مميّزة إلى حدّ ما عن الأقنومَين الآخَرين. سبق لنا أن بيّنّا (انظر الفقرة 12 أعلاه) أنّ الروح القدس يُعرَف بصفاتٍ إلهيّة ويجب أن يُعبد مع الآب والابن. ومع ذلك فإن اختلافات التعبير اللاهوتيّ واضحة: فتوصيف الآب والابن بأنّه "واحد"، أو أنّ الابن  هو والآب من جوهرٍ واحد"، لا يُعاد ذكره في شأن  شخص الروح القدس. وعلى الرغم من ذلك، ومن دون أن يُنقص ذلك من ألوهيّته المشتركة، تبرز صياغة ذكر الروح في قانون الإيمان تميّز الروح القدس كأقنوم. إنّ خصوصيّة الروح القدس تسلّط الضوء على فرادة كلّ أقنومٍ من الأقانيم الإلهيّة على حدة. وبهذا المعنى، يُعدُّ مصطلح "الأقنوم"  أو "الشخص"، في ما بتعلّق بالله مصطلحًا  تماثليًّا، إذ إنّ كلًّا من الأسماء الإلهيّة الثلاثة هو أقنومٌ كامل بذاته، غير أنّ لكلٍّ منها خصوصيّته الفريدة والمتميزة."تُظهر هذه الوحدانيّة أيضًا أنّ المساواة من جهة، والاختلاف والانتظام من جهةٍ أخرى، لا يتناقضان أبدًا. وهذا ما يُعتبر ثمرةً من ثمرات الفيض الكبير لأبوّة الآب. إنّ قبول قانون نيقيا يعني قبول غنى الأبوّة الإلهيّة التي تُرسّخ المساواة، وفي الوقت ذاته تبيّن التنوّع والفرادة.

-  تأمّلٌ في استخدام تعبير "من جوهرٍ واحد"

١٥.من الإسهامات الجوهريّة التي قدّمها مجمع نيقيا تحديد ألوهيّة الابن بعبارات تشير إلى أنّه من جوهر الآب نفسه: فالابن " مساوٍ للآب في الجوهر أي من جوهرٍ واحد" و"مولودٌ من الآب"، "أي هو من جوهر الآب"[22]. إنّ ولادة الابن أمرٌ مغاير عن الخلق، إذ إنّها امتدادٌ لجوهر الآب الواحد. فالابن ليس فقط إلهًا كاملاً كما هو الآب، بل هو من ذات الجوهر عينه، عددًا ونوعًا، لأنّه لا انقسام في الله الواحد[23].فلنكرّر ذلك: إن الآب يهب كلّ شيء للابن، وفق منطق الحياة الإلهيّة، التي هي محبّة، والتي تتجاوز دومًا ما يستطيع العقل البشريّ إدراكه.

١٦.للمرة الأولى، استخدم المجمع مصطلحات غير كتابيّة في نصّ كنسيّ رسميّ ومُلزِم. وسنعود إلى هذه المسألة في الفصلين الثالث والرابع. فإنّ نيّة آباء المجمع لم تكن إدخال جديدٍ على الإيمان الرسوليّ، بل حماية هذا الإيمان بتوضيح ما تعنيه الولادة الإلهيّة حقًّا.لهذا السبب، أُدرج مصطلح "من جوهرٍ واحد" في قانون الإيمان سنة 325، متبوعًا بعبارة "أي": فالمصطلحات الأنطولوجيّة اليونانيّة وُضعت في خدمة التعابير المنسوبة إلى التقليد المقدّس المأخوذة من الكتاب المقدّس[24].إنَّ المصطلح، الذي يعود أصله إلى الغنوصيّة والذي أدانه مجمع أنطاكيا المحليّ (264-269)، كان موضوع جدل كبير خلال العقود التي تلت مجمع نيقيا المسكونيّ. لكن ابتداءً من سنوات الثلاثينيّات من القرن الرابع، تزايدت التأييدات له، حتى تمَّ اعتماده الكامل بطريقة سلاميّة في مجمع القسطنطينية المسكونيّ (381). حينئذ حقّق الاعتراف توضيح الإيمان وحمايته، بالإضافة إلى الاعتراف بقدرة العقل البشريّ والفلسفة والثقافة على استقبال الوحي الإلهيّ. وكما هو الحال في الكتابات المقدسة، يُبرز هذا الأمر أنّ الوحي يقوم على حوار بين الله والإنسان، حوارٍ يتبادل فيه كلا الجانبين كلمات بشريّة محدودة ومرتبطة بسياقٍ معين، ممّا يجعلها دائمًا موضوع تأويل وفهم. لا تُظهر الحياة الإلهيّة نفسها كأنّها لا تنضب، بل إنّ شكل الوحي ذاته، القادر على التعبير بكلمات بشريّة، ما يلبث أن يُترجم إلى كلّ اللغات، فيتجلى هنا دائمًا على نحوٍ دائم العظمة .

17.ومع ذلك كلّه، ليست عبارة " من جوهرٍ واحد" العبارة الوحيدة المستخدمة في القانون للتعبير عن ألوهيّة الابن المخلّص. فهي مدرجةٌ بالحريّ ضمن سلسلة من المصطلحات ذات الأصل الكتابيّ والليتورجيّ: "إله حق من إله حق"، "إله من إله"[25]،و"نور من نور." لا يمكن لأيّ مصطلح أن يحويَ بمفرده الامتلاء الوفير للوحي. فالإيمان يحتاج إلى تضافر التعابير الكتابيّة والفلسفيّة والليتورجيّة وإلى توظيف المفاهيم والصور والأسماء الإلهيّة (الآب، والابن، والروح القدس) للتعبير عن الوحي بأصدق وأكمل صورة ممكنة. تستطيع أساليب التعبير المتنوعة لدى الكنائس والجماعات الكنسيّة أن تتكامل وأن تُغني بعضها البعض في هذا المسار الروحيّ المتجدّد لاكتشاف الإيمان، حيث يُولي كل منها اهتمامًا خاصًا لأحد الجوانب؛ فالتقليد الشرقيّ، على سبيل المثال، يبرز فهم المسيح بوصفه "نورًا من نور"[26]، كما ورد عند أفرام السريانيّ وغريغوريوس بالاماس، وكذلك أمبروسيوس، الذي يقدّم تعبير "بهاء مجد الآب"كتفسيرٍ لعبارة "نور من نور". إنّ تنوّع مفردات التعبير عن الإيمان يساهم بلا شك في جعل هذا التعبير قابلاً للفهم في الثقافات المختلفة، ومتناسبًا مع نمط تفكير كلّ إنسان.

- وحدة تاريخ الخلاص

١٨. لكي نفهم البعد العميق لقانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ، لا بدّ من إدراك وحدة الإطار الذي يشكّل تاريخ الخلاص والذي يغذي إعلان الإيمان. فإن إسناد فعل الخلق أو "عطيّة الحياة" إلى الأقانيم الثلاثة يسلّط الضوء على وحدة النظامين: نظام الخلق ونظام الخلاص. يبدأ التألّه بفعل الخلق ذاته، ويبدأ تاريخ الخلاص منذ لحظة الخلق. في مواجهة الماركيونيّة والأشكال العديدة للغنوصيّة،  ينبغي التمسك بأنّ الله الذي خلق هو نفسه الله الذي يخلّص، وأن الواقع المخلوق، الصالح بذاته لأنه من إرادة الله، هو الذي يُرَمَّم من جديد بفعل الفداء. وهكذا، لا تأتي النعمة لتُحدث قطيعةً، بل لتُكمِل، إذ إنها حاضرة منذ الأزل في مسار الخليقة التي تنشدها وتجد فيها كمالها.

19. كذلك، فإن تدبير الخلاص الذي تَحقّق في المسيح لا يُفهم في ملئه ومعناه الأصيل إلا إذا أُبرِزَت أمانته للوحي الذي أُعطي لشعب إسرائيل، وإلا فقد الإيمان الذي أُعلن في نيقيا شرعيّته وكمال أبعاده التاريخيّة.يبدو من البديهيّ أن البُعدَين الثالوثيّ والخريستولوجيّ في إعلان إيمان نيقيا ليسا مقبولين في التقليد الربانيّ، غير أنّه، من وجهة نظر المسيحيّة، يُفهَمان بوصفهما جدّة جوهريّة متجذّرة في استمراريّة الوحي الذي أُوكل إلى الشعب المختار. فعقيدة الثالوث الأقدس لا تهدف، في نظر الكنيسة، إلى التَخفيف من عقيدة وحدانيّة الله، بل إلى تعميق الإيمان بإله إسرائيل الواحد الأحد[27]. لقد سبق أن بيّنا كيف أنّ الإشارات إلى الله "الواحد" و"خالق السماء والأرض" تجد صداها في العهد القديم، حيث يكشف الله عن نفسه بوصفه الخالق بدافع المحبة، ويدعو الإنسان إلى علاقة محبّة متبادلة. فهو يدعو إبراهيم "خليله" و"حبيبه" (أش ٤١، ٨؛ ٢ أخ ٢٠، ٧؛ يع ٢، ٢٣)، ويتحدّث مع موسى "وجهًا لوجه، كما يُكلّم الإنسانُ صاحبه" (خر ٣٣، ١١).كذلك، فإن اختيار تعبير "من جوهرٍ واحد" قد جاء خصوصًا لصون الطابع التوحيديّ للإيمان المسيحيّ : ففي الله، لا توجد حقيقة سوى الحقيقة الإلهيّة عينها.إن الابن والروح ليسا إلّا الله ذاته، وهما ليسا كائنين وسيطيين بين الله والعالم، وليسا مخلوقين عاديين. كما أنّ الوحي المعلن لإسرائيل يشهد بأنّ الربّ هو الواحد الأحد، الذي يلتزم بذاته، ويكرّس وجوده، وينبثق ويُعبّر عن ذاته في مسيرة تاريخ الإنسان. تفهم المسيحيّة التجسّد بصفته اكتمالٌ غير مسبوق لتدبير إله إسرائيل، الذي ينزل ويحلّ في وسط شعبه، ويتحقق هذا التجسّد في الاتحاد الفريد بين الإله والإنسانيّة في شخص يسوع[28].

20. بالإضافة إلى ذلك كلّه، إن كشفالإيمان بالثالوث كما تمّ التعبير عنه في نيقيا ليس منفصلًا عن الخلفيّة اليهوديّة. فقانون الإيمان مبنيٌّ على تكرار ثلاثيّ: "نؤمن بإله واحد، آب… وبرب واحد يسوع المسيح… وبالروح القدس." ففي الحقيقة، إنّ الإيمان بالثالوث الناشئ في القرون الأولى يطوّر وحدة الأسماء الإلهيّة: الآب والابن والروح القدس، انطلاقًا من الإيمان بالتوحيد لدى إسرائيل كما عبّر عنه في بداية صلاة "اسمع يا إسرائيل" (الشماع): "الربّ إلهنا ربٌّ واحد" (تث ٦:٤). ويتمثّل هذا التوحيد في تكرار هذه الصلاة المركزيّة في اليهوديّة، بحيث يشمل تكرار صفة الوحدانيّة الإلهيّة وفرادتها الابن، فتتبلور صياغة قانون الإيمان: "أؤمن بإله واحد... وبربّ واحد..." ويظهر هذا بوضوح في بدايات التعبير عن الإيمان بالثالوث في العهد الجديد، كما جاء في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس: «لنا إله واحد، الآب، الذي منه كلّ شيء ونحن له؛ وربّ واحد، يسوع المسيح، الذي به كلّ شيء ونحن به» (1 كو 8:6، هذا تأكيد منّا.) هذه الصيغ "الثنائيّة" تتوازى مع الصيغ "الثلاثيّة": "هناك جسد واحد وروح واحد [...]؛ هناك ربّ واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة؛ وهناك إله واحد وآب واحد على الجميع، وفوق الجميع، وفي الجميع" (أف ٤، ٤ - ٦؛ أنظر أيضًا ١ كو ١٢، ٤-٦).فمن المؤكّد أنّ مضمون الإيمان تطوّر سريعًا ليأخذ اتجاهات لا يمكن للتقليد الربانيّ-اليهوديّ أن يقبلها. إلّا أنّ الإيمان المسيحيّ نشأ وتطوّر من دعائم وأسُس متجذرة داخل البنى الطقسيةّ اليهوديّة نفسها. من جانبٍ آخر، يجدر بنا التأكيد على الغنى المتعدّد الأبعاد للتوحيد الإسرائيليّ، الذي يتجلّى بوضوح في الكتاب المقدس العبريّ وفي نصوص عصر الهيكل الثاني[29]. ثمّة فكرة تقول إنّ في الله غنى فائضًا لا يتناقض مع وحدانيّته ولا مع فرادته. ويتجلّى ذلك في تعدّد الصور التي تعبّر عن الله، مثل البُعد "الثنائيّ"، بطريقةٍ ما، الأمر الذي يرى فيه بعض العلماء نوعًا من الازدواجيّة بين "القديم الأيّام" وذاك الذي هو "على صورة ابن الإنسان" (دا ٧، ٩-١٤)[30]. وعلى سبيل المثال، تُعتبر هذه النظرة في العالم اليهوديّ تفسيرًا محتملاً لنص دانيال بالأراميّة ولمجموعة من النصوص من عصر الهيكل الثاني، على الرغم من أنّها تبقى موضوع نقاش وجدل واسع. يتجلّى هذا الغنى أيضًا في الصور المتعدّدة لله أثناء تدخّله في العالم: ملاك الربّ، الكلمة  (دابار: דָּבָר)، الروح (رواح: רוּחַ)  والحكمة (حكمه: חָכְמָה)[31]. يؤكّد بعض المفسرين المعاصرين أنّ اعترافات الإيمان المسيحيّ في نشأتها شهدت مرحلة أولى ذات طابع ثنائيّ، تمّ فيها الاعتراف بيسوع الناصريّ على أنّه  "كيريوس" أي الربّ الممجد بعد موته، الذي هو في مرتبةٍ إلهيّة حقيقيّة، وذلك ضمن استمراريّة التوحيد الذي يعبّر عنه الكتاب المقدس، دون أن يشكّل خرقًا أو انحرافًا عن هذا التوحيد[32]

على الرغم من أهمية الامتناع عن قراءة العهد القديم انطلاقًا من تصوّرات لاهوتيّة لم تتبلور إلا لاحقًا في الإيمان المسيحيّ، يمكننا تلمّس مسار من التطوّر، وإنْ لم يكن على نمطٍ واحد، بين العهد القديم والعهد الجديد، اجتمعت فيه شيئًا فشيئًا أبعاد متمايزة للذات الإلهيّة في شخصيّتين مركزيّتين: الابن أي الكلمة (اللوغوس) والروح القدس. عندما اعتُبر تأكيدٌ وجود شخصين إلهيّين ارتباطًا خارجيًا غير جوهريّ بالإله الواحد، تمّ التخلّي عن الفهم المسيحيّ العميق الذي يرى في الآب خصوبة ذاتيّة في جوهرٍ واحدٍ غير قابل للشركة التي تجمع بين الأشخاص الثلاثة المتساويين في الأزليّة.

- إدراك عظمة المسيح المخلّص وعمله الخلاصيّ

21. في قلب االمقطع الثاني من القانون النيقاويّ-القسطنطينيّ تكمن شهادة تجسّد ابن الله وعمله الخلاصيّ الذي قام به. فبعد أن نعترف بألوهيّة المسيح، ابن الله، نقرّ أيضًا ما يلي: "نؤمن بربٍ واحدٍ يسوع المسيح" الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماوات، وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء[33]، وصار إنسانًا؛ صُلِب عنّا  على عهد بيلاطس البنطيّ، وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الآب، وسيأتي أيضًا بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات؛ ولا فناء لملكه.

-        رؤية المسيح في عظمته الكاملة

22. يتيح لنا مجمع نيقيا أن نرى المسيح في كلّ عظمته"[34]. إنّ البُعدين اللذين يؤسّسان لفرادة المسيح كوسيطٍ وحيدٍ بين الله والبشر، يتجلّيان بوضوحٍ في ذكر الفاعلَين في حدث التجسّد: "لقد تجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء." إنّه الإله الكامل، المولود من عذراء بقوّة روح الله؛ وهو الإنسان الكامل، المولود من امرأة. إنه من جوهر الآب، كما يشترك في جوهرنا نحن البشر، وفقًا للصيغة الثنائيّة التي سيكرّسها لاحقًا مجمع خلقيدونية[35]. هذا وإّن عبارة "من جوهرٍ واحد" لا يمكن أن تحمل معنى واحدًا مطلقًا عندما يتعلق الأمر بربط الابن المتجسّد بالآب أو بالبشر. الكلمة الذي صار جسدًا هو كلمة الله ذاته، الذي تحمّل بشكلٍ فريد ونهائيّّ إنسانيّةً فريدة ومحدودة. وبما أنّ يسوع كان مطابقًا في شخصه للابن الأزليّ، فقد استطاع، عبر تحمّله الموت البشريّ المأساويّ، أن يبقى في علاقةٍ حيّة مع الآب، وأن يحوّل الانفصال عن الله والخطيئة والموت (راجع رو ٦، ٢٣) إلى سبيلٍ مفتوح للوصول إلى الله (راجع 1كور ١٥، ٥٤-٥٦ ويو ١٤، ٦). لأنّ يسوع كان إنسانًا حقيقيًّا – "شبيهًا بنا في كل شيء ما خلا الخطيئة" (عب ٤، ١٥)، فقد استطاع أن يتحمّل خطايانا ويعبر الموت. هذه المشاركة الثنائيّة في الجوهر تجعل من المسيح وحده المخلص. فهو وحده القادر على إنجاز فعل الخلاص، وهو وحده الذي يحقّق الاتحاد بين البشر والآب[36].هو وحده مخلّص جميع البشر في كلّ الأزمنة. لا يمكن لأيّ إنسانٍ آخر أن يكون مخلّصًا، لا قبله ولا بعده. إنّ فرادة الشركة الكاملة بين الله والإنسان قد تحقّقت في المسيح، وهي تفوق كل تصوّر يمكن لإنسان أن يتخيّله أو أن يبلغه بذاته.

23. لا يمكننا أن نتجاهل الصعوبة التي يواجهها كثيرون في أيّامنا بشأن الإيمان بكمال ألوهيّة المسيح وكمال إنسانيتّه. فثمّة على امتداد تاريخ المسيحيةّ، مقاومة فعليّة للاعتراف بكمال ألوهية المسيح، لا تزال قائمة إلى اليوم. قد يبدو من الأسهل بكثيرٍ اعتبار يسوع معلّمًا روحيًا باطنيًّا، أو مسيحًا سياسيًّا يدعو إلى العدالة، في حين أنّه، في إنسانيّته ذاتها، يحيا علاقته الأزلية بالآب. مع ذلك، ثمة صعوبة كبيرة في الاعتراف الكامل بإنسانيّة المسيح، فهو الذي عرف التعب (يو 4، 6)، واختبر مشاعر الحزن والخذلان (يو 11، 35؛ الجثمانية)، بل وحتى الغضب (يو 2، 14 - 17)، والذي، وفي سرّ أعماقه الإنسانيّة، يجهل أحيانًا أمورًا معيّنة كما يقول: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، لا ملائكة السماوات، ولا الابن إلا الآب وحده" (مت 24، 36). لقد اختار الابن الأزلي أن يعيش طبيعته الإلهيّة االأبديّة، التي هي موجودة ومتحققة في طبيعته الإنسانيّة المحدودة ومن خلالها.

24. من الجدير ذكره، أنّه وعلى الرغم من أنّ الجزء المكرّس للأقنوم الثاني في القانون هو الأكثر توسعًا، فإن الرؤية المسيحيّة التي يتبنّاها إيمان نيقيا تبقى بالضرورة رؤيةً ثالوثيّة. المسيح هو دائمًا الأعظم حقًّا، لأنه حيثما كان، هناك دومًا ما هو أكبر منه: فالآب يبقى الآب، "قدوس إسرائيل". وبلا شك، "من رآني فقد رأى الآب" (يو ١٤، ٩)، لكن، كما قال يسوع، "الآب أعظم مني" (يو ١٤، ٢٨). لقد أدرك أريوس هذا جيدًا عندما استشهد بالإنجيل: "واحدٌ فقط هو الصالح" (مت ١٩، ١٧)[37]. وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن فهم المسيح دون الآب والروح القدس: فقبل أن يُفهم كإنسان-إله، يُعرَف في العهد الجديد كابنٍ للآب وممسوحٍ بالروح. فالبشر لا يخلّصون دون الآب الذي هو مصدر وغاية كلّ الأشياء – لأنّ الخلاص هو اتحادٌ بالآب بصفة الابن. ولا يخلّصُ البشر دون الروح، الذي يجعل الإنسان يصرخ "أبّا، أيها الآب" (رو ٨، ١٥)، والذي من خلال فعله الداخليّ، يمكّن الإنسان من التحوّل والدخول بفاعليّةٍ في الحركة التي تقوده إلى الآب.

- عظمة عمل الخلاص وتجذّره التاريخيّ

25. تتجلّى عظمة المخلّص أيضًا في وفرة ملء تدبير الخلاص. ويُبرز قانون  نيقيا حقيقة عمل الفداء. في المسيح، يخلّصنا الله بدخوله التاريخ. فهو لا يُرسل ملاكًا أو بطلًا بشريًّا، بل يأتي بنفسه في تاريخ البشر، مولودًا من امرأة، هي مريم، من الشعب اليهوديّ. "مولودٌ من امرأة، مولودٌ تحت الناموس" (غل ٤، ٤)، ومات في تاريخ محدّد، "في عهد بيلاطس البنطيّ" (راجع ١ تيم ٦، ١٣؛ وانظر أيضًا أع ٣، ١٣)[38]. إذا دخل الله بنفسه في التاريخ، فإنّ تدبير الخلاص هو مكان كشفه لذاته: في قلب التاريخ، يكشف المسيح بحقّ عن الآب والروح، ويمنح بواسطة الروح القدس الوصول التامّ إلى الآب. بالإضافة إلى ذلك، لأنّ الله يدخل في التاريخ، فليس الأمر مجرد تعاليم يجب تطبيقها، كما في الماركيونيّة أو الغنوصيّة "باسمٍ كاذب"، بل هو عمل فعّال من الله نفسه. التدبير هو موضع عمل الله الخلاصيّ. ونحن نعترف بأنّ حدثًا تاريخيًّا قد غيّر وضع جميع البشر تغييرًا جذريًا. كما نعترف بأنّ الحقيقة المتسامية قد تجلّت في التاريخ وتعمل من خلاله. ولهذا، لا يمكن فصل رسالة يسوع عن شخصه؛ لأنّه للجميع "الطريق والحق والحياة" (يو 14، 6)، وليس مجرد معلمٍ حكيمٍ من بين حكماء آخرين.

26. على الرغم منتأكيده على التاريخ، لا يذكر قانون القانون، ولا يشير صراحة إلى جزء كبير من محتوى العهد القديم، ولا إلى خصوصيّة اختيار إسرائيل وتاريخ هذا الشعب. ومن البديهيّ أنّ القانون لا يهدف إلى الإحاطة بكلّ شيء. ومع ذلك، فإنّه من المفيد التأكيد على أن هذا الصمت لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال إلغاء اصطفاء شعب العهد القديم أو بطلانه[39]. إنّما يكشفه الكتاب المقدس، أي العهد القديم العبريّ ليس مجرد تحضير للخلاص، بل هو حقَّا تاريخ الخلاص الذي سيستمر ويكتمل في المسيح: "تعترف كنيسة المسيح بأنّ بداياتإيمانها واختيارها موجودة حقًّا، بحسب سرّ الخلاص الإلهيّ، في الآباء وفي موسى والأنبياء"[40]. إنّ إله يسوع المسيح هو "إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب"، وهو "إله إسرائيل". بالإضافة إلى ذلك، يسلّط قانون الإيمان الضوء بشكلٍ خفيّ على الاستمراريّة بين الشعب اليهوديّ وشعب العهد الجديد من خلال ذكر "العذراء مريم"، إذ يدرج المسيّا في إطار عائلة يهوديّة ونسب يهوديّ، ويُحيل كذلك إلى نصٍّ من العهد القديم (إش ٧،١٤ وفق الترجمة السبعينيّة).  وهذا الأمر يُشكّل جسرًا بين وعود العهد القديم والعهد الجديد، على غرار ما تعبّر عنه جملة: "وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب" حيث تدلّ كلمة "الكتب" على أسفار العهد القديم (راجع 1 كور 15، 4). كما تظهر الاستمراريّة بين العهد القديم والعهد الجديد مرّةً أخرى عندما يشير النصّ المتعلق بالروح القدس إلى أنّه "الناطق بالأنبياء"، وهي صيغة تحمل على الأرجح بُعدًا مناهضًا للماركيونيّة[41].ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ هذا القانون النابع من الليتورجيا، لا يُفهم على نحوٍ كامل إلا حين يُعلَن ضمن الليتورجيا نفسها، ويكون متصلاً بقراءة الكتابات المقدسة بأجمعها، أي العهدين القديم والجديد. وهذا الأمر يضع الإيمان المسيحيّ ضمن إطار تدبير الخلاص، الذي يشمل الشعب المختار وتاريخه بصورة أصيلةٍ وعضويّة.

- عظمة عمل الخلاص: السر الفصحيّ

27.إن حقيقة الخلاص في المسيح في بعدها الواقعيّ تبلغ كمالها في السرّ الفصحيّ. فالابن، نور الله والإله الحقّ، يتجسّد، ويتألّم، ويموت، وينزل إلى مثوى الأموات، ثم يقوم. فإذا بنا هنا أمام أمرٍ غير مسبوق. لم تكن معضلة آريوس محصورة فقط في وحدانيّة الله التي لا تنسجم، في نظره، مع ولادة ابنٍ منه، بل كانت تشمل أيضًا فهم ألوهيّته، التي رأى أنها لا تتوافق مع آلام المسيح. ومع ذلك، فإنّه في المسيح وحده، ومن خلاله فقط، نُدرك ما يستطيع الله أن يفعله في ذاته، متجاوزًا كلّ حدود تصوّراتنا المسبقة. ينبغي أن نأخذ صرخة يسوع بجديّة بالغة، فهي صرخة ابن الله ذاته، يعبّر عنها بنزف الدمّ والرعدة: "أبي، إن كان ممكنًا، لتعبر عني هذه الكأس" (مت ٢٦، ٣٩ب). إن كلمة "جوهرٌ واحد" نفسها تساعد على إدراك العجب العظيم في إخلاء الذات المتحقّق في التجسّد: فالتأكيد على كون الابن "من جوهر الآب" يتيح لنا وحده أن نُدرك جذريّة وعمق ما وافق عليه هذا الابن ذاته في تحمّله للطبيعة البشريّة. يمكن القول، بمعنًى ما، إن الابن، الذي هو " دائمًا الأعظم"،صار بحقّ "الأصغر"، وإن الله العليّ قد انحدر إلى أقصى الدرجات في شخص يسوع المسيح (راجع فل 2، 5-11). وعلى الرغم كم أنّ المسيح وحده وُلد وتألم ومات، إلا أننا نستطيع القول إنّ "واحدًا من الثالوث قد تألم [42](unus de Trinitate passus est). إنّ الثالوث بكليّته مشترك في آلام المسيح الخلاصيّة، حيث يشارك كلّ أقنوم إلهيّ بطريقةٍ فريدة وخاصة. وهكذا، تكشف لنا الآلام عن المعنى الحقيقيّ لقدرة الله الثالوثيّ الكلّية التي تقوم هي عينُها على بذل الذات والمحبّة. إنّ الفادي المصلوب لا يُخفي قدرة الآب الكليّة، بل يكشفها للبشريّة.

28. لا يتجلّى كمال عمل الفداء الذي حقّقه المسيح إلا بقيامته، التي هي تمام الخلاص، حيث تتثبّت كل أوجه الخليقة الجديدة. وفي هذا التأكيد اختصار غير كافٍ. فنحن نعتقد أنّ تمام الخلاص تحقّق بظهور المسيح بعد القيامة بالجسد، وبصعوده وبالتقديس أي بفيض الروح القدس، المقدِّس والمحوِّل.وإن أردنا أن نتوسّع أكثر في المسألة نقول إنّه متحقّق اليوم في الكنيسة الحيّة، وإلا لم كان بوسعنا أن نثبت حتّى المجيء الثاني، حين يتحقّق كمال التاريخ وليس نهايته. تشهد القيامة على ألوهيّة المسيح الكاملة التي هي وحدها قادرة على عبور الموت والانتصار عليه، وكذلك تشهد على إنسانيّته، إذ إنّها ذاتُ الإنسانيّة نفسها، المتماثلة تمامًا كما هي مع تلك التي عاشها في حياته الأرضيّة، والتي تتجلّى وتتمجّد. ليس الأمر مجرد رمز أو استعارة، بل المسيح قد قام حقًّا في إنسانيّته وجسده الحقيقيّين. القيامة تسمو على التاريخ، لكنها جرت في صميم تاريخ البشر، في شخص هذا الإنسان، يسوع. وعلاوة على ذلك، فهي تحمل بُعدًا ثالوثيًّا عميقًا: فالآب هو المصدر، والروح هو النسمة المحيية، والمسيح الممجّد الذي يحيا - في إنسانيّته الدائمة - في قلب المجد الإلهيّ، في شركة لا تنفصل مع الآب والروح.وتجدر الإشارة إلى أنّ قيامة المسيح، "البكر من بين الأموات" (كو 1، 18؛ راجع رو 8، 29)، هي التي تكشف الولادة الأبديّة للابن، "البكر من كل المخلوقات" (كو 1، 15). وهكذا، فإن الأبوّة والبنوّة الإلهيّتين ليستا في الأصل إسقاطًا لمفاهيم بشريّة، حتى وإن عُبّر عنهما بألفاظ بشريّة مشبَعة بالثقافة، بل هما حقيقتان ذاتيّتان (sui generis) في الحياة الإلهيّة.

29. يشدّد قانون الإيمان على أنّ قيامة يسوع المسيح تمتدّ في فعلها حتى نهاية التاريخ، حين يعود المسيح "في مجد عظيم ليدين الأحياء والأموات، حيث لا فناء لملكه." مع القيامة، أُحرز النصر بصورة نهائيّة، غير أن كمال تحقّقه لن يتمّ إلا في المجيء الثاني.الرجاء المسيحيّ رجاء كامل: فهو لا يستند فقط إلى "المرّة الواحدة وللأبد" المرتبطة بالآلام والقيامة، ولا إلى عطية النعمة الحاضرة، بل أيضًا إلى ما سيأتي، إلى عودة المسيح المجيدة وملكه الآتي. يجدر بالذكرّ أنّ هذا الجانب من إيمان نيقيا يُفهم بصورة أعمق ويكتسب قوة متجدّدة إذا ما قرأناه في سياق تنفتح فيه الكنيسة على الإصغاء للعهد القديم وإيمان الشعب اليهوديّ في أيّامنا.إن انتظار الشعب الإسرائيليّ المعاصر للمسيّا يُسلّط الضوء على كمال الوعود المسيحانيّة بالسلام الشامل على وجه الأرض، والعدالة للجميع، في عالم مجدَّد بكامله (إش ٢، ٤؛ ٦١، 1 - ٢؛ مي ٤، ١ - ٣)، وهو ما ينتظره المسيحيّون بدورهم مع المجيء الثاني.هذا يمكنه، بل يجب عليه، أن يوقظ الرجاء المسيحيّ بعودة القائم من بين الأموات، إذ عند ذلك  فقط ستتجلّى بالكامل أعماله الخلاصيّة[43].

- التعمّق في عظمة الخلاص المُعطى للبشر، وفي عظمة دعوتنا الإنسانيّة

30. إنّ الاحتفال بمجمع نيقيا لا يقتصر فقط على التأمّل في فائض ملء الله والمسيح المخلّص، بل يشمل أيضًا الإعجاب بعظمة العطيّة التي قُدّمت للبشر، وبعظمة الدعوة الإنسانيّة التي تكشفها تلك العطية.سرّ الله في وساعته اللامحدودة هو كشف عن حقيقة الإنسان، وهو أيضًا دائمًا كشفٌ عن الأعظم, في هذا السياق، يتعلّق الأمر بتوسيع الأبعاد الخلاصيّة والأنثروبولوجيّة للمسلّمات الثالوثيّة والمسيحيّة في قانون نيقيا، وأيضًا بأعتبار التعليم الوارد في نهاية المقطع الثالث حول الروح القدس، الذي يقدّم الإيمان بالكنيسة والخلاص: "{نؤمن} بكنيسة واحدة، مقدّسة، جامعة ورسوليّة. ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا؛ وننتظر قيامة الأموات وحياة العالم الآتي. آمين."

- عظمة الخلاص: المشاركة في حياة الله

31.لأن المسيح هو الذي يخلّصنا، يعترف قانون إيمان نيقيا بـعقيدتي"مغفرة الخطايا" و"قيامة الأموات". يذكر قانون الإيمان الخطيئة لأننا بحاجة إلى أن نعلم من أيٍّ شر نُخَلّص. الخطيئة، بالمفهوم اللاهوتيّ الدقيق، ليست فقط رذيلةً أو ذنبًا يُخِلّ بنوايا الخالق في المخلوق (راجع رو 2:14-15)، بل هي أيضًا انفصال مقصود عن الله في العلاقة اللاهوتيّة معه. بهذا المعنى الشامل، يُدرك الخاطئ خطيئته في نور محبّة الله الرحيمة: فالخطيئة يجب أن "تُـكشَف" بفعل عمل النعمة ذاتها لكي تتمكّن من هدي القلوب[44]. وهكذا، يكون الكشف عن الخطيئة الخطوة الأولى للخلاص، ويتمّ الاعتراف به على هذا الأساس.

32. إنّ الإيمان الذي أعلنه مجمع نيقيا، بتأكيده الجريء على قيامة الأموات، يقرّ بأنّ الخلاص كاملٌ وشامل. وهو يُحرَّر الإنسان من كلّ شرّ، بما في ذلك "العدوّ الأخير" الذي ينبغي أن يُبيده المسيح لكي يُخضِع كلّ شيء لله (راجع 1 كور 15، 25–26). فالإيمان بالقيامة لا يعني ببساطة خلود النفس وحسب، بل يعني أيضًا النصر الفعليّ على الموت[45].علاوةً على ذلك، لا تخلص النفس فقط، بل الجسد أيضًا. لا شيء من الذي يشكّل هويّة الإنسان وإنسانيّته يبقى خارج الخلق الجديد الذي يقدّمه المسيح. وأخيرًا، ستكون هذه العطيّة مكتسَبة إلى الأبد، إذ تتجلّى في "حياة العالم الآتي"، أي في الإسخاتون (نهاية الأزمنة/الاكتمال النهائيّ للتاريخ في الله) وقد تحقّق كاملًا، منذ الفصح، فلم يعُد بعد من سلطانٍ لأيّة خطيئة حتّى تفصل الخاطئ عن الله – شرط أن يمسك بيد المصلوب القائم من بين الأموات، ذلك الذي يمدّ يده إلى أعماق الهاوية ليهب نفسه للخراف الضالّة: "وإني واثق بأنّه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوات، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، بوسعها أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا." (رو ٨، ٣٨–٣٩).

33. لأنّ المسيح يخلّصنا بصفته إله الحق، فالقيامة تعني لنا الدخول في الحياة الإلهيّة، إنسانيّةً وإلهيّةً على السواءً، كما يشهد على ذلك تفسير يسوع للمزمور ٨١، ٦ في يو ١٠، ١٤: "أنتم آلهة"[46]. وبما أنّه يخلّصنا بصفته الابن الوحيد، المولود من الآب، فإنّ هذا التألّه هو بنوّة بالتبنّي وتماثلٌ بالمسيح؛ وهو الدخول في محبّة الآب بالروح القدس. إننا محبوبون ومولودون من جديد بذاك الحبّ عينه الذي به يُحِبُّ الآبُ الابنَ ويلده أبديًّا. ذلك هو البُعد الخلاصي لأبوّة الله، كما يعلنه قانون إيمان نيقيا. وأخيرًا، بما أنّ المسيح يخلّصنا بصفته الابن، مع الآب والروح القدس، فإن هذه البنّوة هي غوص حقيقيّ في العلاقات الثالوثيّة. لهذا السبب، يتأسّس قانون الإيمان على إعلان الإيمان الثالوثيّ في المعمودية، ويُحتفل بها "باسم الآب والابن والروح القدس." وتتحقّق سعة العطية التي كُشفت بهذا الشكل في سرّ صعود المسيح: "صعد إلى السماوات"، مُظهرًا أن المسيح نفسه هو "سماؤنا"[47]. الابن الممجّد سيرسل عطيّة الله الموعودة، روح العنصرة. ولا يمكن لأي تصوّرٍ محدود للخلاص أن يكون حقًا مسيحيًّا.

- عظمة الدعوة الإنسانيّة إلى المحبّة الإلهيّة

34.كلّ ما سبق وأوردناه يعكس نتائج على الرؤية المسيحيّة للإنسان، الذي يعتلن في عظمة دعوته الفائضة، بصفته "الإنسان المتجاوز لذاته على الدوام" (homo semper major).إنّ قانون إيمان نيقيا لا يتضمّن مادّة أنثروبولوجيّة بالمعنى الدقيق، غير أنّ الإنسان، في دعوته إلى البنوّة الإلهيّة ييسوع، يمكن أن يُشكّل موضوعًا من مواضيع الإيمان. فوفق الكتاب المقدس، تعتلن هوية الإنسان الحقيقيّة من خلال سرّ المسيح وسرّ الخلاص، كسّرٍ فائق الإدراك بمعناه العميق والدقيق، مشابهٍ لسر الله والمسيح، على الرغم من أن هذين الأخيرين يفوقانه بامتياز.

35. إنّ هذا السرّ العظيم يرتبط أولًا بسرّ الله الثالوث وسرّ المسيح. فالكشف عن أبوّة الله هو في جوهره إعلان لسرّ الأبوّة نفسها : "أجثو على ركبتيّ للآب الذي تسمّى باسمه كلّ أبوّة في السماوات وعلى الأرض " (أف ٣، ١٤ - 15)وإنّ الكشف عن الابن الوحيد، ولا سيما عند يوحنا، هو تجلٍّ للبنوّة بالمعنى الحقيقيّ، تلك التي تنبع، أنطولوجيًّا، من الولادة الأولى، والتي تنتمي إلى سرّ الثالوث نفسه.من جرّاء التحوّل في عمليّة الفهم، تغدو الأبوّة والبنوّة في الثالوث هما اللتان تنيران الأبوّة والأمومة والبنوّة والأخوّة البشريّة وتطهّرها، تلك التي تحدّدها السياقات الثقافيّة وتحمل وسم الخطيئة. الأبوّة الإلهيّة تُظهِر أولًا أنَّ البنوّة هي السمة الأعمق في الإنسان، لأنّها هبةٌ منحها الله الآب لنفسه، وبها يُدعى الإنسان لأن يتلقّى ذاته من الله، ومن خلاله من الآخرين والعالم المخلوق من حوله، ليصبح أكثر فأكثر ذاته الحقيقيّة. ولهذا السبب، تعتلن هويّته ودعوته بشكلٍ خاصّ في المسيح، الابن المتجسّد، "الإنسان الكامل" الذي، "في عمليّة الكشف ذاتهها عن سرّ الآب ومحبّته، يُظهر الإنسان لنفسه بكمال، ويُبيّن له عظمة دعوته"[48]. من جهةٍ أخرى، يُدعى البشر أيضًا إلى المشاركة في سرّ الأبوّة، ليكونوا آباء وأمهات جسديّين وروحيّين. وعلى صورة الأبوّة الإلهيّة، تتضمّن الأبوّة والأمومة البشريّة بذل الذات، ومساواة كاملة بين الآباء والأبناء، بين الواهبين والمتلقين، ولكنّها تتضمّن أيضًا اختلافًا وترتيبًا فيمابينهم. أخيرًا، لا توجد أنثروبولوجيا مسيحيّة حقيقيّة إلا إذا كانت روحيّةً بالروح القدس. فالروح القدس وحده، "الذي يهب الحياة"، يؤنسن الإنسان بالكامل ويجعله ابنًا وابنةً، أبًا وأمًّا. وبعمليّة التماثل، يمكن القول بوجود نوع آخر من التآزر الروحيّ من قبل الروح القدس، أو الإلهام المشترك[49]،إذ تتسم أفعالنا وأقوالنا بثمارها المميزة على قدر تعاونها مع الروح، الذي يعزي ويرتقي ويهدي من خلالها.وهكذا لا بدّ من الكشف عن حقيقة الأبوّة والبنوّة والخصوبة في الإنسان ومعناها العميق، إذ إنّها لا تقتصر على مكوّناتٍ طبيعيّة أو ثقافيّة فحسب، بل هي مشاركة حقيقيّة في سرّ وجود الله الثالوث. ولا يمكن فهمها بعمق دون الوحي أو الكشف الإلهيّ، وكذلك لا يمكن ممارستها بدون النعمة. وهي أيضًا بشرى سارّة يجب علينا أن نعيد اكتشافها اليوم انطلاقًا من مجمع نيقيّا.

36 .  على نحوٍ ما، قد يحمل مصطلح " من جوهرٍ واحد" دلالةً إنسانيّة عميقة.إذ أن إنسانًا واحدًا فتح لنا الباب للوصول إلى الله. فقد قال المسيح بطريقةٍ فريدة وخاصة: "مَن رآني فقد رأى الآب" (يو ١٤، ٩)، وذلك بسبب سرّ الاتحاد الأقنوميّ ( أي بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة).ومع ذلك، فإنّ هذا الاتحاد الفريد يتناغم ويتسق مع سرّ الكائن البشريّ "الذي خُلق على صورة الله ومثاله" (تك ١، ٢٧). وهكذا يعكس كلّ إنسانٍ حقًّا صورة الله، ويُعرّف بالله، ويوفّر الوصول إليه. لقد عبّر البابا بولس السادس عن هذه المفارقة العجيبة حين أكّد من جهة أنّه "لكي نعرف الإنسان، الإنسان الحقيقيّ، الإنسان الكامل، يجب معرفة الله"، ومن جهة أخرى أنّه « لكي نعرف الله، لا بدّ من معرفة الإنسان[50]. لا بدّ لنا من فهم هذه الكلمات بمعناها العميق: فليس المقصود فقط أنّ كلّ إنسانٍ يعكس صورة الله، بل أنّ معرفة الله غير ممكنة دون المرور بالإنسان. علاوة على ذلك، وكما بيّنّا سابقًا (الفقرة 22)، اعتمدت الكنيسة عبارة "الجوهر الواحد" لتؤكّد على اشتراك المسيح في الطبيعة البشريّة الحقيقيّة، بصفته إنسانًا "مولودًا من امرأة" (غلاطية ٤:٤)، الذي هو اشتراك مع السيدة العذراء مريم، ومع جميع بني البشر[51]. وهذان الجانبان المزدوجان لـمصطلح "الجوهر الواحد" للابن المتجسّد، يتكاملان فيقويان بعضهما البعض، ليؤسّسا على نحوٍ عميق وفاعلٍ الأخوّة بين جميع البشر. إنّنا نغدو إخوة وأخوات المسيح بحسب الطبيعة البشريّة الواحدة: لذلك "كان لا بدّ أن يشبه إخوته في كلّ شيء" (عب ٢، ١٧؛ راجع أيضًا 2،  ١١-١٢). إنّ هذا الرابط الإنسانيّ هو الذي يتيح للمسيح، الذي من جوهر الآب ، أن يقودنا  إلى بنوّته للآب، ويجعلنا أبناء الله، إخوته وأخواته الحقيقيّين، وبنتيجة هذا الأمر، إخوةً وأخوات بعضنا لبعض بمعنى جديد، ووطيدٍ، لا يمكن انتهاكه.

37. يستنير سرّ الإنسان في كرامته العظيمة كذلك من خلال البُعد الإسكاتولوجيّ لقانون الإيمان النيقاويّ. فالإيمان بـقيامة الأموات، التي يُسمّى أيضًا "قيامة الجسد"، (كما في قانون الرسل)،يؤكّد جمال الجسد وجمال ما يختبره الإنسان بواسطته في هذا العالم، على الرغم من هشاشته وحدود طبيعته الإنسانيّة. وهذا الإيمان يؤكد قيمة الجسد الشخصيّ المحسوس، الذي سيقوم من بين الأموات متجلّيًا، مع بقائه مطابقًا لذاته من حيث الهويّة الشخصيّة[52]. فقيامة الأموات، من هذا المنطلق، مطلبٌ أدبيٌّ: لأنّه إذا كانت أفعال المحبّة الحقيقيّة التي تُمارس بالجسد وبواسطته في هذه الحياة، تشكّل إلى حدٍّ ما الخطوات الأولى للحياة المقامة، عندها لا بدّ من عيش كلّ الأمور المتعلقة به باستقامةٍ وطهارة. ويجدر بالذكر أن بعضًا من اللاهوت الخريستولوجيّ الذي لا يعترف بالإنسانيّة الكاملة للمسيح قد يؤدي إلى تصوّر الخلاص على أنّه فرار من الجسد والعالم، بدلاً من أن يكون تحقيقًا كاملاً لإنسانيّة الإنسان. غير أنّ الأساس العميق للمسيحيّة يكمن في هذا الارتباط الجوهريّ بالعالم والجسد، اللذين خُلقا صالحين ويكتملان في الخلق الجديد. هنا تتجلّى العلاقة الوثيقة بين الخلق والخلاص، إذ أنّ كلّ الصفات الإنسانيّة للمسيح، الموروثة من مريم، أمه، تمثّل بشرى تدعو كلّ إنسان إلى اعتبار إنسانيتّه المحسوسة بشرى سارّة.

38. بالإضافة إلى ما سبق، يشهد الرجاء بالقيامة، و"الحياة الأبديّة في العالم الآتي"، على القيمة العظيمة للشخص كفردٍ، إذ لا يُدعى إلى الاندثار في العدم أو الضياع في الكلّ، بل إلى علاقة أبديّة مع الإله الذي اختار كلّ واحدٍ قبل إنشاء العالم (راجع أف ١، ٤). إنّ اصطفاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والعهد الذي لا يُنقض مع شعب الله، يكشفان عن العهد الذي يرغب الله في إقامته مع جميع الأمم ومع كلّ إنسان، في وفاءٍ لا ينثني. وعلى هذا النحو، يترسّخ تجسّد الابن الأزليّ في إنسانٍ فريد، ويُؤسس ويتمّم الكرامة الأزليّة التي لا تُنزع للشخص البشريّ، بصفته أخًا وأختًا للمسيح يسوع.

39. إنّعالمنا يحتاج حاجةً ماسّة في إيّامنا إلى إعادة اكتشاف جوانب هذا السرّ في الإنسان التي تعتلن عظمته، دون التغاضي عن هشاشته: لأنّ "الإنسان يتجاوز الإنسان بما هو غير محدود"، كما قال بليز باسكال"[53].هذه القناعة المسيحيّة تطرح تحديًا أمام كلّ أشكال الاختزال في فهم الإنسان. فالإيمان بالأبوّة، والبنوّة، والإلهام «الروحيّ» المثمر للأشخاص، يؤسّس ويوجّه كلّ تصوّرٍ حقيقيّ للاستقلاليّة، والحرية، والإبداع الإنسانيّ. تنشأ هذه الخواصّ من الله، الآب والابن والروح القدس، حيث تتحد القدرة الكاملة والحكمة والمحبّة في بذل الذات. وعلى العكس من ذلك، فإنّ فقدان الإيمان بالقيامة والحياة الأبديّة يؤدي إلى عدم منح الجسد مكانته الحقيقيّة والفرد القيمة المقدّسة القائمة على فرادته وسموّه. ولكنّ الخالق قد كشف عن مقاصده لنا: "جعلته (الإنسان) دون الإله قليلاً، وكلّلته بالمجد والكرامة ". (مز ٨، ٦).

- جمال عطيّة الكنيسة والمعموديّة

40 .تتلاقى الخيوط المختلفة التي نُسِجت إلى الآن حول الثوابت الكنسيّة والأسراريّة (المرتبطة بالأسرار) التي يعبّر عنها قانون الإيمان.ويؤكّد إيمان نيقيا على الإيمان بأنّ الكنيسة "واحدة، مقدّسة، جامعة، ورسولية"، وعلى الإيمان بالمعموديّة "لمغفرة الخطايا". لذلك ينبغي الاحتفال بالكنيسة والمعموديّة باعتبارهما أيضًا عطيّتين عظيمتين على الدوام، تؤكِّدان غنى الكمال الذي يتضمّنه ما يعرضه قانون الإيمان ويُعبّران عنه خير تعبير، لأنّهما موضعان ينطويان على مفارقة إيمانيّة، إذ يتعلّق الأمر بالاعتراف فيهما بما يتجاوز ما يظهر للعيان بكثير. الكنيسة واحدةٌ على الرغم من انقساماتها الظاهرة، ومقدّسة على الرغم من خطايا أعضائها والأخطاء التي ارتكبتها مؤسّساتها التنظيميّة، وتبقى جامعة ورسوليّة على الرغم من الانغلاق المتعلّق بالهويّات والثقافة، والتقلّبات العقائديّة أوالأدبيّة التي تعصف بها بلا انقطاع. وهكذا ينبغي تجنّب كلٍّ من "المونوفيزيّة" و"الأريوسيّة" الكنسيّتَين: فالأولى تستخفّ، بل تُخفي أحيانًا، البعد البشريّ للكنيسة، في حين أنّ الثانية تُهمِل البعد الإلهيّ للكنيسة لصالح رؤيةٍ اجتماعيّة ووظائفيّة بحتة. كذلك تُفهم المعمودية في الإيمان على أنّها مصدر حياةٍ جديدة، وتنقية من الخطايا تتجاوز ما يظهر في حياة المعمّدين المشوبة بالنقص والتي تبتعد عن الله في بعض الأحيان.الله يعظّم كرامة كلّ إنسان ويرتقي بها بصورة مقدّسة، ويشكّلها على مثال المسيح، الكاهن والنبي والملك.

41 ." الإيمان" بالكنيسة و"الاعتراف" بالمعمودية الواحدة هما قبول هبة الإيمان التي تسمح بإدراك حضور الروح القدس الفاعل والمقدّس في أبعاد الحياة البشرية الهشّة. يوحّد الروح القدس الكنيسة، ويقدّسها، ويجعلها جامعةً ورسوليّة، ويمنح المعمودية فاعليّتها. إنَّ "الإيمان" بالكنيسة والمعمودية يعني أيضًا إدراك عمل المسيح الخلاصيّ فيها ومن خلالها. وكما أنّ المسيح هو السرّ الأساسي لله، وأنّ حضوره الحقيقيّ والفاعل يتجلّى في الرمز الحقيقيّ لإنسانيتّه، كذلك الكنيسة هي"سرّ الخلاص الكليّ"[54]. وأخيرًا، "الإيمان" بالكنيسة والمعمودية هو إدراكٌ لحضور الله الثالوثيّ. الكنيسة هي أعظم على الدوام، لأنّها تستمد أصلها وأساسها من الله الثالوث، وفيها يحيا الآب والابن المتجسِّد والروح القدس. وفيها يُعلن ويتمّ الاحتفال بإيمان نيقيا، وذلك في المعمودية وسائر الأسرار: "المجد لك أيها الآب والابن والروح القدس في الكنيسة المقدّسة"[55].

42. عند تقاطع سرّ الخلاص والأنثروبولوجيا، يُؤكِّد الإيمان بالكنيسة والاعتراف بالمعمودية الواحدة، ويُظْهِر في الوقت عينه، عظمة الخلاص وعمق سرّ الكائن البشريّ.فالخلاص ليس مسارًا فرديًّا وحسب، بل هو مسيرةٌ جماعيّة تتجاوز معايير الطبيعة، نتلقّاه بتعاون أشخاصٍ آخرين هم إخوتنا في القربى (الروحيّة)، ويُثمر ثمرًا روحيًّا في حياة أشخاصٍ آخرين يصيرون هم أيضًا قريبين منا[56]. هذا الأمر يُنير طبيعة الكائن البشريّ، الذي لا يمكن اعتباره وحدةً منغلقة على ذاتها، بل كائنًا اجتماعيًّا، مندمجًا في عائلة، وأمّة، وجماعة إيمان، وفي البشريّة جمعاء[57].وهكذا يفترض الإيمان بالكنيسة والمعمودية تحقّق الفداء من خلال أفعال وقواعد محسوسة، متّصلة ببُعد الإنسان الجسديّ، فردًا وجماعة، ينكشف ضمن مسار التاريخ. وهذه هي المساحات التي يعمل فيها الروح المحيي والملهِم، داخل حدود الكنيسة وبما يتجاوزها، لكي يلتقي بكلّ إنسان، في العمق، من خلال الشهادة على العلاقة بين الفرد والجماعة، والبعد الجسديّ المتجذر في التاريخ، حيث تُدرِج الكنيسة ذاتها في عمل المسيح الذي "يُظهر الإنسان للإنسان ذاته بكامل الوضوح"[58]، وعلى وجه الخصوص تظهر بصفتها "سرّ الوحدة"[59]. وكما يقرّ إيمان نيقيا، تُشكّل الكنيسة علامة الوحدة وأداتها للجنس البشريّ والإنسانيّة برمّتها. إنّ الرؤية المسيحيّة للإنسان تكشف ضيق كلّ النزعات الاختزاليّة، التي ترفض الجماعة باسم الفرد، أو الفرد باسم الجماعة، والتي لا تسعى إلى الوحدة.

- الاحتفال معًا بعظمة الخلاص : البُعد المسكونيّ لإيمان نيقيا والرجاء بتحديد موعدٍ موحَّد للاحتفال بعيد الفصح

43. يُعدُّ إيمان نيقيا، في روعته وعظمته، المعتقد المشترك لجميع المسيحيّين. وهم جميعًا متوافقون على إعلان قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ، ولو لم يُجمعوا على اعتبار هذا المجمع وقراراته في المقام ذاته.لذلك، يشكّل عام 2025 مناسبةً لا تُقدَّر بثمن، للتأكيد على أنّ ما يوحّدنا أعظم بكثير، كمًّا ونوعًا، ممّا يفرّق بيننا: فنحن نؤمن معًا بالله الثالوث، وبالمسيح الإله الحقّ والإنسان الحقّ، وبالخلاص بيسوع المسيح، كما تشهد على ذلك الكتب المقدّسة، التي نقرأها في الكنيسة بإلهام من الروح القدس. ونحن نؤمن معًا بالكنيسة، وبالمعمودية، وبقيامة الأموات، وبالحياة الأبديّة. لذلك يحظى المجمع النيقاويّ بتكريمٍ خاص في كنائس الشرق، إذ هو ليس مجمعًا بين المجامع الأخرى، أو المجمع الأوّل في سلسلةٍ من المجامع، بل يُعتبرٌ مجمعًا مميّزًا وفريدّ، أُقرّ فيه إعلان الإيمان المعروف بإيمان ـالثلاثمائة وثمانية عشر أبًا من ذوي الإيمان المستقيم.

44. وبناءً عليه، فإنّ عام 2025 يشكّل فرصةً لجميع المسيحيّين للاحتفال معًا بهذا الإيمانوبالمجمع الذي أتاح التعبير عنه. يُركّز العمل المسكونيّ اللاهوتيّ بحقٍّ، على العُقَد التي لم تُحلّ بعد في الخلافات بين المسيحيّين، غير أنّه لا شكّ في أنّ الاحتفال بما يوحّدنا هو أيضًا أمرٌ مثمر، بل قد يكون أكثر خصبًا، في مسيرتنا نحو استعادة الشركة الكاملة بين جميع المسيحيّين، لكي يؤمن العالم. وقد أشرنا من قبل إلى أن ما توليه التقاليد المسيحيّة المختلفة من تأكيدٍ خاصّ يُسهم في إظهار غنى نصّ قانون الإيمان (راجع أعلاه، الفقرة 17). يتيح الاحتفال المشترك بالمجمع النيقاويّ أن نسير مسارًا مسكونيًًا يقوم على التبادل المثمر، على امتداد الطريق، ويؤمّن فهمًا أعمق للسرّ الإلهيّ، وشركةً أوسع بين التقاليد الكنسيّة، وتمسّكًا أقوى بالإعلان المشترك للإيمان المسيحيّ.

45. من بين المقاصد التي رمى إليها مجمع نيقيا التوصل إلى تحديد تاريخ مشترك للاحتفال بعيد الفصح، تعبيرًا عن وحدة الكنيسة في جميع أنحاء المسكونة. لكن و يا للأسف، لم يتمّ التوصل حتى يومنا إلى اتفاقٍ مشترك على تاريخ موحّد للفصح. إنّ اختلاف المسيحيّين حول تحديد تاريخ الاحتفال بأهمّ عيد في تقويمهم يتسبب بأضرار رعائيّة داخل الجماعات، قد تصل إلى انقسام العائلات، كما يثير استهجان غير المسيحيّين، ممّا يؤثر سلبًا على الشهادة التي يقدمونها للإنجيل. لهذا السبب، دعا البابا فرنسيس، والبطريرك المسكونيّ برثلماوس، وعدد من رؤساء الكنائس مرات عديدة إلى ضرورة تحديد موعدٍ مشترك للاحتفال بعيد الفصح. وفي الحقيقة، في هذه السنة 2025، يتزامن تاريخ الاحتفال في الكنيستين الشرقيّة والغربيّة. أفليست هذه مناسبةً بتدبيرٍ من العناية الإلهية وفرصةً يجدر اغتنامها لمواصلة الاحتفال بآلام المسيح وقيامته، "عيد الأعياد" (كما تسميه صلوات الهجمة البيزنطيّة للفصح)، في شركة بين جميع أبناء الجماعات المسيحيّة؟ ثمّة مقترحات واقعيّة عديدة لتحديد تاريخ موحّد. والكنيسة الكاثوليكيّة منفتحة على الحوار، في سبيل التوصل إلى حلّ مسكونيّ لهذه المسألة.فقد عبّر المجمع الفاتيكانيّ الثاني، في ملحق الدستور في الليتورجيا المقدّسة عن عدم معارضته لاعتماد تقويمٍ جديد، مشدّدًا على وجوب أن يتمّ ذلك "بموافقة المعنيّين بهذه المسألة، وبوجه خاص الإخوة الذي ليسوا على شركة مع الكرسيّ الرسوليّ"[60]. وتجدر الإشارة إلى ما يوليه العالم الشرقيّ من أهمية للمعايير التي أرساها مجمع نيقيا وتوارثتها الأجيال لاحقًا في ما يخصّ تحديد تاريخ عيد الفصح: فالفصح يجب أن يُحتفل به «في الأحد الأول الذي يلي البدر المكتمل بعد الاعتدال الربيعيّ أو المتزامن معه"[61]. ويُشير يوم الأحد إلى قيامة المسيح في اليوم الأول من الأسبوع، فيما يُذكّر البدر الذي يلي الاعتدال الربيعيّ بالأصل اليهوديّ للعيد، أي الرابع عشر من نيسان (قمريّ)، كما يُبرز البُعد الكونيّ للقيامة، إذ إن الاعتدال الربيعيّ يرمز إلى اللحظة التي تغلب فيها ساعات النور ساعات الظلمة، وتبدأ الطبيعة باستعادة حياتها بعد شتاء الموت.

46. من الجدير ذكره في هذا المجال، أنّ الكنيسة قد اتخذت في مجمع نيقيا قرارًا حاسمًا بالانفصال عن تاريخ عيد الفصح اليهوديّ. لقد طُرِحَت حجّة مفادها أنّ المجمع أراد أن يميّز نفسه عن اليهوديّة، بالاستناد إلى رسائل الإمبراطور قسطنطين كما يوردها أوسابيوس، والتي تتضمّن، في بعض جوانبها، مبرّرات ذات طابع مناهض لليهود، لتبرير اختيار تاريخٍ لعيد الفصح لا يكون مرتبطًا بيوم الرابع عشر من نيسان.[62]لكن وعلى الرغم من ذلك، ينبغي التمييز بين الدوافع التي تُنسب إلى الإمبراطور وتلك التي كانت تحرّك آباء المجمع. ففي كل الأحوال، لا يعبّر أي من قوانين المجمع عن رفضٍ لنهج اليهود في الاحتفال. كما لا يمكن تجاهل أهمية وحدة التقويم واختيار يوم الأحد في الكنيسة للتعبير عن الإيمان بالقيامة. اليوم، وفي الوقت الذي تحتفل فيه الكنيسة بالذكرى الـ1700 لمجمع نيقيا، تعود هذه الأهداف لتكون من جديدٍ محور التأمّل بشأن تاريخ عيد الفصح. فبعيدًا عن مسألة التقويم، يبدو من الملائم أن نُبرز بشكل أفضل وأعمق العلاقة بين عيد الفصح المسيحيّ (الفصح) وعيد الفصح اليهوديّ (الفصح العبور) في مجال اللاهوت، سواء في العظات أو في التعليم المسيحيّ، وذلك للوصول إلى فهم أوسع وأعمق لمعنى عيد الفصح.

47. في صلوات السهرنيّات التي تُقام ليلة عيد الفصح وفي جميع طقوس العماد، يُعلن قانون الإيمان النيقياويّ-القسطنطينيّ بأبهى صيغته الرسميّة وفي شكل حوار. إن هذا الإقرار بالإيمان، الذي تقوم عليه كل من الحياة المسيحيّة الفرديّة وحياة الكنيسة، يجد كامل قوّته حين يكون متجذّرًا في الوحي الذي أُعطي "لأجدادنا وآبائنا في الإيمان"[63]، هذا الوحي الذي يتحقّق في وحدةٍ ظاهرة ومرئية بين جميع تلاميذ المسيح.

الفصل الثاني: قانون الإيمان النيقاويّ في حياة المؤمنين. "نؤمن كما نُعمِّد، ونُصلّي كما نؤمن"

 

- تمهيد :الإيمان المُعلَن في حياة الإيمان

48. إنّ الإيمان الذي أُعلن في نيقيا يحمل مضمونًا عقائديًّا غنيًّا، وصار مرجعًا أساسيًّا في ترسيخ العقيدة المسيحيّة. لكن رهان هذه العقيدة، في الماضي كما في الحاضر، هو أن تغذّي حياة المؤمن وترشدها. وفي هذا السياق، يمكن إبراز ما يُمثّله مجمع نيقيا وقانون إيمانه من كنز روحيٍّ حقيقيّ، هو بمثابة "ينبوع ماء حيّ" يدعو الكنيسة اليوم، وفي كل زمان، إلى الارتواء منه. وفي سبيل حماية هذا الينبوع الحيّ، ارتضى القديس أنطونيوس أن يغادر عزلته، ليذهب إلى الإسكندرية ويشهد ضدّ الأريوسيين[64]. وبيتجلّى هذا الكنز بشكلٍ مباشر في كيفيّة نشأة إيمان نيقيا من قاعدة الصلاة (lex orandi)، وكيف غذّى هذا الإيمان بدوره تلك القاعدة[65]. بالإضافة إلى ذلك، لم تُعقد المجامع قطّ بهدف حصر النقاش في المجال النظريّ لمُصطلحات الإيمان. بل على العكس من ذلك، كان المشاركون في هذه المجامع حريصين على النقاش حول سائر مجالات الحياة الكنسيّة، وعلى أفضل السبل لتعميق التمرّس اليوميّ بحقائق الإيمان وممارستها، وكذلك على مواءمة تعليمهم مع التقليد السليم في الممارسات الليتورجيّّة والأسراريّة، وكذلك في المجال الأدبيّ أو الأخلاقيّ[66]. كما يمكننا القول باختصار أنّ الأساقفة كانوا يحملون معهم بالروح، إلى المجامع، أعضاء جسد الكنيسة الذين يشتركون معهم في حياة الإيمان والصلاة، والذين يرنمون معهم تسبيح الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد ويمجّدوه. ففي سبيل فهم الأبعاد الروحيّة واللاهوتيّة لعقيدة نيقيا، لا بدّ من استكشاف طريقة تمثّلها في الممارسة الليتورجيّة والأسراريّة، وكذلك الأمر في مجال التعليم المسيحيّ والوعظ والصلاة والترنيم، في القرن الرابع.

- المعموديّة والإيمان بالثالوث الأقدس

49.قبل أن تتطوّر عقيدة الثالوث تطوّرًا لاهوتيًّا، كان الإيمان بالثالوث الأقدس أساس الحياة المسيحيّة كما يُحتفل بها في المعموديّة. كما إنّ اعتراف الإيمان العماديّ، المعلَن ضمن الصيغة الأسراريّة للمعموديّة، لم يكن يعبّر عن سرّ نظريّ ومجرّد، بل عن إيمان حيّ يرتبط بحقيقة الخلاص الذي يمنحه الله، ويرتبط بالله نفسه. هذا الإيمان العماديّ يمنح "معرفة" بالله، هي في الوقت ذاته انفتاحٌ على الدخول في علاقة مع الله الحيّ. وهكذا يؤكّد المدافع عن الإيمان أثيناغوراس: "هناك أناس يقودهم فقط شوقهم إلى معرفة الإله الحقّ وكلمته، وإلى إدراك ما هي وحدة الابن مع الآب، وما هي شركة الآب مع الابن، وما هو الروح، وما هي الوحدة والتمييز بين الأقانيم الثلاثة، أي الروح والابن والآب، الذين يتمّ إدراكهم معًا على هذا النحو[67].

50. ولهذا السبب، تُعتَبَر صيغة المعموديّة، التي يُذكر فيها الآب والابن والروح القدس على قدم المساواة، البرهان الحاسم ضدّ آريوس وأتباعه، والذي هو أهمّ بكثير من أيّ برهان لاهوتيّ نظريّ. وهذا ما نجده أيضًا عند أمبروسيوس[68]،وإيلاريون[69]، وعند القديس باسيليوس أسقف قيصرية وغريغوريوس النيصيّ وأفرام السريانيّ[70]. كذلك يُلحّ أثناسيوس على أنّ ذكر الابن لا يرد في صيغة المعموديّة لأنّ ذكر الآب بمفرده غير كافٍ، ولا لمجرّد المصادفة، بل لأنّ "كلمة الله، وحكمته الخاصّة، بما أنّه شعاع مجد الآب (apaugasma)، فهو دائمًا متحّدٌ مع الآب. وحين يمنح الآب النعمة، فإنّه لا يمنحها إلا بواسطة الابن، إذ إنّ الابن في الآب كشعاع النور الذي ينبعث منه؛ [...] فالذي يعمّده الآب، يعمّده الابن أيضًا، والذي يعمّده الابن يتقدّس بالروح القدس[71].

51. لكنّ الأمر لا يقتصر عند أثناسيوس والآباء الكبادوكيّين على النطق بالصيغة الثالوثيّة، بل إنّ المعموديّة تقتضي إيمانًا حقيقيًّا وأصيلًا بألوهيّة يسوع المسيح. وهكذا، يُعتبر تعليم الإيمان القويم ضرورة لا غنى عنها، وجزءًا جوهريًّا في ممارسة المعموديّة الصحيحة. ويستند أثناسيوس في ذلك إلى الأمر الإلهيّ المعلن في إنجيل متى (28، 19): "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم..."[72]. ولهذا السبب ينفي أثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس النيصيّ[73]،للمعموديّة الآريوسيّة أيّ فعلٍ صحيح، لأنّ الذين يرون في الابن مخلوقًا، يكون فهمهم لسرّ الله الآب غير صحيحٍ؛ من لا يعترف بالابن لا يعرف في الآب حقّ المعرفة ولا أن يدخل في علاقةٍ معه، إذ إنّ أبوّة الآب لا بدء لها[74].

_  قانون إيمان نيقيا : اعتراف إيمان

52. لا يعبّر اعتراف الإيمان النيقاويّ عن إيمان المعموديّة فحسب، بل يُرجّح أن يكون مستمَدًّا مباشرةً من قانون المعموديّة الذي كانت تستخدمه كنيسة قيصرية في فلسطين، وفق رواية أوسابيوس.[75]يكما يُشاع أنّ ثلاث إضافات أُدْخِلت على النصّ: "إله من إله"، و"مولود غير مخلوق"، و"من جوهر الآب". وهكذا، يتّضح لنا جيّدًا أنّ الذي "تجسّد من أجلنا نحن البشر... وتألّم" هو الله، الواحد في الجوهر مع الآب(homoousios tō Patri). ومع كونه "من جوهر الآب"، "ἐκ τῆς οὐσίας τοῦ Πατρός"إلاّ أنّه متميّزٌ عن الآب من حيث إنّه الابن. فبواسطته، هو الذي "صار إنسانًا من أجل خلاصنا"، ندرك كنه أنّ الله الثالوث هو "محبّة" (1 يوحنا ٤، ١٦). لتلك الإضافات أهميّة بالغة، إذ تمثّل الخصوصيّة الجوهريّة والإضافة الحاسمة لقانون الإيمان النيقاويّ، من جهة، وفي الوقت عينه، تشدّد المستمر على أنّ القانون، بوصفه قانون إيمان، متجذرٌ أصلًا في الإطار الليتورجيّ، الذي هو محوره الفاعل، وفي السياق الذي يستمد منه معناه الكامل. لا نقصد بذلك تقديم عرضٍ نظريٍ، بأيّ حال من الأحوال، بل نشير إلى الفعل الطقسيّ عند الاحتفال برتبة المعموديّة، الذي يتكامل مع سائر عناصر الليتورجيّا وينيرها. قد يشعر معاصرونا أحيانًا أنّ قانون الإيمان هو عرضٌ نظريٌ بحت، وذلك لأنهم يجهلون أصوله الليتورجيّة ولا سيّما تلك المرتبطة بالمعموديّة.

53. هكذا يبقى إيمان نيقياقانونًا مشتركًا، أي اعتراف إيمان[76]، يتميّز عن التفسير أو التعريف اللاهوتيّ من خلال تقنيّةٍ تهدف إلى حفظ الإيمان، كما فعل على سبيل المثال مجمع خلقيدونيا. وباعتباره قانونًا للإيمان، تُعدُّ صياغة اعتراف الإيمان النيقاويّ هذا صياغةً إيجابيّةً، وتفسيرًا، وتوضيحًا فاعلاً للإيمان الكتابيّ[77].لا تبغي هذه الصيغة تقديم تعريفٍ جديد، بل تستحضر إيمان الرسل: "هذا الإيمان، الذي أعطاه المسيح وأعلنه الرسل، وقام آباء المسكونة الملتئمين في نيقيا بنقله على أنّه تقليدٌ مقدّس (παράδοσις)[78].

54. وكما أنّ مكانة قانون الإيمان النيقاويّ بصفته اعتراف إيمان، وعلى نحوٍ أخصّ باعتباره تعبيرًا عن الإيمان الرسوليّ، وليس تعريفًا أو تعليمًا نظاميًّا، جعلت من هذا القانون، في الفترة اللاحقة (الممتدّة إلى نهاية القرن الخامس على الأقلّ)، الحجّة القاطعة على التعليم القويم[79].لهذا السبب، اعتُبر قانون الإيمان النيقاويّ نصًّا مرجعًا في المجامع اللاحقة. فإنّ مجمعي أفسس وخلقيدونيا يندرجان في إطار تفسير قانون الإيمان النيقاويّ، إذ يؤكّدان اتفاقهما مع نيقيا ويعارضان المواقف المخالفة لها.وحين تُليَ قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ في مجمع خلقيدونيا، صرخ الأساقفة مجتمعين: "هذا هو إيماننا. به اعتمدنا، وبِهِ نعمِّد! البابا ليون يؤمن بهذا، وكذلك كيرلّس"[80]. وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أنّ إعلان الإيمان يمكن أن يُعبَّر عنه بصيغة المفرد – "أؤمن" – لكنّه غالبًا ما يُعلَن بصيغة الجمع: "نؤمن"؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصلاة الربّية المصاغة أيضًا بالجمع: "أبانا... ". إنّ إيماني العميق والشخصيّ والفريد من نوعه، يتماهى تمامًا مع إيمان الكنيسة بوصفها جماعة الإيمان."

يُستهل قانون الإيمان النيقاويّ والنصّ اليونانيّ الأصليّ لقانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ بصيغة الجمع: "نؤمن"، "شهادةً على التعبير عن شركة جميع الكنائس، وعلى أنّ جميع المسيحيين كانوا يعلنون الإيمان الواحد عينه"[81].

55. كما أشرنا في الفصل السابق، فإن "قانون نيقيا" أي "اعتراف الإيمان" الذي وضعه 318 من الآباء المستقيمي الرأي (إشارة رمزيّة إلى سفر التكوين ١٤:١٤)، " لا يزال يُعتبر في الكنائس الشرقيّة إلى يومنا هذا المجمع الأسمى، ليس فقط بين المجامع العديدة، ولا بصفته المجمع الأوّل في سلسلة المجامع المسكونيّة، بل باعتباره مقياسًا نهائيًّا للإيمان المسيحيّ القويم. يتمّ ذكر "الثلاثمائة وثمانية عشر أبًا" علانية في الليتورجيّا الأورشاليميّة. كما أنّ مجمع نيقيا، قد نال في الكنائس الشرقيّة تكريمًا خاصًًا بذكره في التقويم الليتورجيّ وذلك بالتميّز عن الكنيسة الغربيّة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ القضايا التنظيميّة التي ناقشها مجمع نيقيا، لم تحظَ  منذ البداية بالثقل عينه الذي أُعطي لقانون الإيمان. ففي حين يمكن اتخاذ القرارات بالأغلبيّة في ما الشؤون التنظيمية، إلاّ أنّ المرجع الحاسم في قضايا الإيمان يبقى على الدوام التقليد الرسوليّ. وعلى سبيل المثال، في ما يخصّ تاريخ الاحتفال بعيد الفصح، كتب الآباء: "لقد قُرِّر". أمّا في ما يتعلّق بالإيمان، فلم يكتب الآباء: "لقد قُرّر"، بل قالوا: "هذا إيمان الكنيسة الجامعة!"[82].

- التعمّق في الوعظ والتعليم المسيحيّ

56.لم يكتفِ آباء الكنيسة في الشرق والغرب بالجدل اللاهوتيّ عبر المؤلَّفات العقائديّة، بل عمدوا أيضًا إلى توضيح الإيمان النيقاويّ من خلال العظات الموجَّهة إلى الشعب، في سبيل تحصين المؤمنين ضد الشروحات المغلوطة، التي أُشير إليها عمومًا بمصطلح "الآريوسية" – على الرغم من أنّ"المتماثلين" (homoïens) في الغرب، في أيّام أوغسطينُس، كانوا يتميّزون تمايزًا ملحوظًا في نهجهم الجدليّ عن "الآريوسيين الجدد" في الشرق. إنّ التصوّر اللاهوتيّ الذي يدّعي بأنّ الابن ليس "إلهًا حقًا من إله حق"، بل إنّه فقط أسمى مخلوقات الآب، وأنّه ليس أزليًّا معه، قد اعتبره الآباء تهديدًا دائمًا، وقاوموه، بمعزلٍ عن وجود خصوم محدّدين. لقد أتاحت مقدمة الإنجيل بحسب القديس يوحنّا دليلاً ملائمًا  لشرح العلاقة بين الآب والابن، أو بين "الله" و"كلمته"، بما يتوافق مع إقرار الإيمان النيقاويّ[83].قام كروماسيوس الأكيليّ(الذي سيم أسقفًا بين عامي 387/388م وتوفي عام 407م) على سبيل المثال، بنقل الإيمان النيقاويّ إلى مؤمنيه دون استخدام مصطلحات تقنيّة[84].حتى إنّ آباء الكنيسة الذين يتمتّعون بشكٍّ منهجيٍ تجاه "النقاشات اللاهوتيّة"، اتّخذوا موقفًا واضحًا وحازمًا ضد "الرجس الآريوسيّ"، لأنّ الآريوسيّين لا يفهمون "ولادة الابن الأزليّة" ولا "المساواة الجوهريّة والأزليّة " بين الآب والابن[85].لقد أخطأوا حتى في مفهوم التوحيد، بقبولهم ألوهيّة ثانية خاضعة ودونيّة. ومن ثمّ، صارت عبادتهم منحرفة وخاطئة.

57. يشرح يوحنا الذهبيّ الفم، في تنشئته المسيحيّة، إيمان المعموديّة الذي تمّت صياغته بصورة صحيحة في نيقيا[86].وهو يميّز الإيمان الصحيح بشأن عقيدة المساواة في الجوهر، ولا سيّما المتميّزة من  العقيدة السابليانيّة: فالمسيحيون يؤمنون بالله "جوهرًا واحدًا، بثلاثة أقانيم". وأوغسطينس يجادل أيضًا بطريقة مشابهة ليوحنّا في تعاليمه الموجّهة إلى المتقدّمين إلى المعموديّة[87]. لذلك تُعتبر "الخطبة التعليميّة الكبرى" (Oratio Catechetica Magna) للقديس غريغوريوس النيصيّ، التي خصّص معظم أجزائها للكلمة الإلهيّ الأزليّ والمتجسّد، بمثابة التحفة اللاهوتيّة لتعليم الإيمان الموجَّه بوضوح إلى من سيقومون بنقل هذا التعليم، أي إلى الأساقفة ومعلّمي التعليم المسيحيّ. ولا يقتصر موضوعها على العلاقة بين الابن-الكلمة والآب (الفصول 1 و3 و4)، بل يشمل أيضًا معنى التجسّد باعتباره عملًا خلاصيًّا (الفصل 5).يبيّن غريغوريوس أنّ الولادة والموت ليسا أمرين لا يليقان بالله أو يتعارضان مع كماله (الفصلان 9 و10)، ويشرح التجسّد انطلاقًا من محبة الله للبشر. لكنّه يشدّد قبل كل شيء على أنّ المعموديّة المسيحيّة تتمّ في "الثالوث غير المخلوق"، أي في الأقانيم الثلاثة المتساوية في الأزليّة. وعلى هذا النحو إذن تمنح المعموديّة الحياة الأبديّة والخالدة: "فمن يخضع لكائنٍ مخلوق يضع، دون وعي، رجاء خلاصه في ذلك الكائن وليس في الألوهيّة"[88].

58. في الحقيقة، يتمحور جوهر النقاش هنا حول مسألة وجوديّة أكثر منها مشكلة نظريّة: هل ترتبط المعموديّة "بالدخول في البنوّة" (باسيليوس)، أو "ببداية الحياة الأبديّة" (غريغوريوس النيصيّ)، أو "بالخلاص من الخطيئة والموت" (أمبروسيوس).ذلك لا يكون ممكنًا إلا إذا كان الابن (والروح القدس) إلهًا. فحين يصبح الله ذاته "واحدًا منّا"، تتاح حينها للإنسان إمكانيّة حقيقيّة للمشاركة في حياة الثالوث، أي أن "يُؤله".

- صلاة وتماجيد إ لى الابن

59. يُشكّل إيمان نيقيا قاعدةً للصلاة الشخصيّة والليتورجيّة[89]، اللتين طبعهما مجمع نيقيا بطابعه، على الرغم من أنّ "الدعاء باسم الربّ (يسوع)" مثبت حقًّا في كتابات العهد الجديد[90]. لاسيّما وأن هنالك أناشيد خاصّة للمسيح[91]، تشهد على تقديم التسبيح والعبادة للابن، بعد أن صارت الصلاة الموجّهة إليه محورًا للخلاف في أثناء الأزمة الآريوسيّة.

60. استنادًا إلى بعض نصوص أوريجانس[92]، عارض الآريوسيون في القرن الرابع، وكذلك بعض أتباع أوريجانس في القرنين الخامس والسابع، الصلاة الليتورجية الموجّهة إلى الابن بشكل خاص. فقد كان للآريوسيين مصلحة في إبراز المقاطع الكتابية التي تُظهر يسوع نفسه في حالة صلاة، وذلك لتسليط الضوء على دونيّته مقارنةً بالآب. وعندما يُقرَن هذا التصوّر الأبوليناريّ السائد بين الآريوسيّين ولقائل بأنّ اللوغوس حلّ محلّ النفس في يسوع، تُفهم علاقة الابن بالآب ضمن منطق الخضوع ويبدو أن هذا المنطق يجد أساسه اللاهوتيّ في طبيعة المسيح ذاتها، كما تصوّروها. إنّههم يرون أنّ الصلاة الموجّهة إلى الابن غير ملائمة. وقد استند الآريوسيّون في دفاعهم إلى الصيغة التقليديّة للتمجيد الإلهيّ، التي يحظى بأهميّة كبيرة، خصوصًا في الطقوس الشرقيّة: "المجد والعبادة للآب بواسطة الابن في الروح القدس"[93]. لقدتمّ الاعتماد على مختلف حروف الجر بغية إبراز الدليل على وجود اختلاف جوهريّ بين الأشخاص الإلهيّين. وكان الآريوسيّون يلجأون إلى الطقوس، التي تُعَدُّ شهادةً حيّةً لإيمان الكنيسة، لبرهان ما اعتبروه تبريرًا لاهوتيًّا لهذا التمييز.

61. أمّا أولئك كانوا يدافعون عن نيقيا، فقد أكّدوا أن الصلاة يجب أن تتوافق مع الإيمان، وأنّ هذا الإيمان بدوره يتوافق مع المعموديّة. فإنّ صيغة المعموديّة تُظهِر المساواة في الكرامة بين الآب والابن والروح القدس. ومن ثمّ، فإن الصلاة، سواء أكانت شخصيّة أو ليتورجيّة، يمكن ولا بل يجب أن تُوجَّه أيضًا إلى الابن. وعلى الرغم من أنّهم لم يرفضوا الصيغة القديمة للتمجيد الإلهيّ، بل دافعوا عن معناها الأرثوذكسيّ[94].فقد آثروا استخدام تعبيراتٍ وحروف جرٍّ أخرى: فيشير باسيليوس، في هذا السياق، إلى النشيد القديم جدًا "أيها النور البهيّ" (Phōs hilaron) الذي يعود، على الأرجح إلى القرن الثاني، حيث يُقدَّم فيه الآب والابن والروح القدس معًا كموضوع لتسبيح العبادة[95].

62. "ينبغي أن يكون إيماننا على مثال معموديتنا، وأن تكون عبادتنا على قياس ما تعلنه المعمودية وتجيزه"[96]. ينطبق هذا المبدأ أيضًا على الصلاة الفرديّة. فالتوجه بالدعاء إلى يسوع، كما كان يُمارس ضمن أشكال الصلاة، لا سيما في الوسط الرهبانيّ، يُبرّر تبريرًا صريحًا الدعاء "للذي هو والآب جوهرٌ واحد". ويشرح شنودة، أحد آباء الكنيسة القبطيّة في القرن الخامس قائلاً: "عندما ننطق باسم "يسوع"، فإنّ الثالوث الأقدس بأكمله يتمّ ذكره أيضاً. عندما نتوجّه بالدعاء إلى الابن المتجسّد، لا نرفع الدعاء للابن منفصلاً عن الآب والروح القدس. ومن يمتنع عن الصلاة ليسوع يتبع "كفرًا مستحدثًا"؛ وهو لا يفهم شيئًا من سرّ الثالوث، ولا يدرك شيئًا عن "يسوع"[97]. إنّ نمط الصلاة التي يتبعها يُبيّن حقيقة إيمانه.

63. . إنّ للدقّة في الصلاة أبعادًا خلاصيّة بالغة الأهمية. وقد كان غريغوريوس النيصيّ من أوائل الذين نبّهوا إلى هذه الحقيقة بقوّة، إذ كان يرى أنّ رجاء المؤمن ليس مجرد فضيلة أخلاقيّة بالمعنى المعاصر، بل إنّه تعبير روحي يتجسّد في الصلاة، ويتجلّى من خلالها. فالرجاء هو التأليه الذي يمنحه الله؛ لذلك فإنّ "الذين انغمسوا في الخطأ العقائديّ، في الرجاء العظيم الأول"، يودي بهم ذلك إلى "انعدام جدوى الالتزام بالوصايا والسلوك المستقيم". ويواصل غريغوريوس قائلاً: "نحن نعتمد كما تسلّمنا، باسم الآب والابن والروح القدس؛ ونؤمن كما نعمّد؛ فمن الضروريّ إذن أن يتوافق الإيمان مع الاعتراف بالإيمان؛ ونحن نمجّد كما نؤمن، إذ لا ينبغي أن يتعارض التمجيد مع الإيمان. أمّا من نؤمن به، فإيّاه نمجّد. وبما أنّ الإيمان يقوم على الآب والابن والروح القدس، فإنّه مرتبط بالتمجيد وبالمعموديّة ارتباطًا وثيقًا، ولا يمكن تمييز مجد الآب عن مجد الابن والروح القدس[98].

64. إنّ إضافة التمجيد الثالوثيّ في نهاية كل مزمور، والتي يُنسب ترتيبها إلى البابا داماسيوس (توفي عام 384 ميلاديًا)، يمكن أن يُفهم في هذا السياق. ويشير كاسيودور إلى أنّ هذا الأمر يُلغي كلّ الهرطقات ويُبطلها: "تضيف الكنيسة الأمّ إلى جميع المزامير والأناشيد التمجيد الثالوثي. فهي تكرّم ذاك الذي صدرت عنه هذه الكلمات، وبذلك تقطع الطريق على هرطقات سابيليوس وآريوس وماني وغيرهم"[99]. وينطبق هذا الأمر بشكل خاصّ على الإضافة "كما كان في البدء..."، التي فُهمت على أنها اعتراف إيمان صريح ضدّ الآريوسية[100].

- اللاهوت في الترنيم

65. تمثّل الترانيم فضاءً لتجسيد إيمان القانون النيقاويّ الذي استقرّ في حياة المؤمن، والذي تشكّل وتغذّى بالعقيدة النيقاويّة. ومن ثمّ، تنتهي العديد من هذه الترانيم بتسبيحٍ يعكس مجد الثالوث القدوس. بالإضافة ذلك، لعب الصراع مع البدعة الآريوسيّة دورًا مهمًا في تطوّر الشعر المسيحيّ. ففي الشرق تحديدًا، كُتبت الترانيم والأناشيد[101]، التي كانت تهدف إلى الردّ على القصائد الروّجة للجماعات غير المستقيمة في إيمانه. أمّا في الغرب، فيمكن القول إنّ أهم إسهام لاهوتيّ في القرن الرابع قام على تأليف الترانيم.

66. إلى جانب يوحنا الذهبيّ الفم، برز أفرام السريانيّ (306-373) في شعره اللاهوتيّ الذي ترك أثرًا عميقًا في الأدب السريانيّ الكلاسيكيّ، ولا سيما في ترانيمه "عن الإيمان" و"عن الميلاد"، حيث تغنّى بسرّ المسيح: أن المسيح هو الله، رغم ضعف طبيعته البشرية؛ فإخلاء ذاته (الكينوسيس) هو معجزة عظيمة بالذات، لأنّه هو الله، ويظل إلهًا في عمليّة التنازل العجيب أو التخلّي[102].بإيمانٍ عميق، يصف أفرام العلاقات داخل سرّ الثالوث: فالابن موجود في الآب "قبل كلّ الدهور"، وهو "مساوٍ للآب، ومع ذلك متميّز عنه"[103] ويلجأ أفرام بسهولةٍ إلى صورة الشمس ونورها وحرارتها، المرتبطة معًا في وحدة لا تنفصم[104].وهو لا يكفّ عن الإشارة إلى "الأسماء الثلاثة" التي تعبّر عن حقيقة الذات الإلهيّة، والتي يقوم عليها "سرّ معموديّتنا وتبريرنا"[105].ويكتب أفرام كلّ هذه النصوص ضمن أفق الإيمان النيقاويّ، موضحًا انتماءه اللاهوتيّ بجلاء، إذ يذكر "المجمع المجيد"، في إشارة صريحة إلى مجمع نيقيا[106].وقد نظم لاهوتيّون وشعراء سريان آخرون، في القرن الخامس، من أمثال إسحق السريانيّ ومار بالاي، عظاتٍ وتراتيل وأناشيد موجّهة إلى المسيح نفسه، يمجّدونه فيها صراحةً بألقاب إلهيّة: "المجد له [ليسوع المسيح] ولأبيه، والمجد للروح القدس"؛ "المجد له، للعليّ الذي جاء ليفتدينا، المجد له، للقدير، الذي تهزّ إيماءةٌ من رأسه مصيرَ العالم"[107].

67.تعلّم هيلاريونإنشاد الترانيم في منفاه، وأدخل هذا التقليد إلى بلاد الغال؛ ويعترف أمبروسيوس هو أيضًا بأنّه تبنّى هذه "العادة الشرقيّة" خلال النزاعات الحادّة مع الأريوسيّين في ميلانو عام 386-387. ويؤكّد هيلاريون في ترنيمة "الكائن قبل كل الدهور" (Ante saecula qui manens) أنّ الابن هو "ابنٌ على الدوام، كما أنّ الآب هو آبٌ على الدوام. وإلا، فكيف يمكن للآب أن يحمل هذا الاسم إن لم يكن له ابن؟"؛ وهو يُبرز في هذه الترنيمة "الميلادَين" للابن: مولود من الآب، من أجل الآب الذي لا يعرف ميلادًا، ومولود من العذراء مريم، من أجل العالم.

68. على عكس ترانيم هيلاريون اللاهوتيّة العميقة، التي لم تجد لها موضعًا يُذكر في الليتورجيا، انتشرت ترانيم أمبروسيوس سريعًا في كلّ مكان، وأصبحت مشهورة، وشكّلت دعمًا قويًّا للإيمان، وفقًا للهدف الذي أراده أمبروسيوس نفسه لها. ويمكننا اعتبار الترنيمة الصباحيّة لأمبروسيوس "بهاء مجد الآب"Splendor paternae gloriae) ) تأمّلًا شعريًّا في إعلان الإيمان النيقاويّ، ينشد فيه العقيدة بصوت الروح والصلاة. وتيرز بوجه خاص ختام بعض الترانيم، حيث يتجلّى الإيمان بمساواة الابن للآب، كما في قوله: "مساوٍ للآب الأزليّ":"Aequalis aeterno Patri" : "، أو في نداءٍ مفعم بالمهابة حين يتوجَّه إلى الابن بطريقةٍ مباشرة:  "يا يسوع، لك المجد، مع الآب والروح المُحيي": "Iesu, tibi sit gloria, cum Patreet almoSpiritu".  وفي ترنيمة وجيزة جدًا، يُرجَّح أن أمبروسيوس نفسه هو ناظمها، إعلانٌ لعقيدة الإله الواحد في ثلاثة أقانيم، كصيغة إيمانيّة تحفظها الجماعة: "يا نور الثالوث المبارك، ويا وحدة الأصل الأولى" : "O lux beata Trinitas, et principalis unitas".

69. مع أمبروسيوس، يُعتبر برودنس (أورليوس برودنتيوس كليمنس، 348–415/425) من أبرز من تركوا أثرًا  في فهم سرّ المسيح من خلال الترانيم. يتوقّف هذا الشاعر الإسبانيّ بشكل خاصّ عند ألوهيّة الفادي الحقيقيّة وإنسانيّته الحقيقية، اللتين تقوم عليهما خليقتنا الجديدة. فالمسيح هو صورة الآب، ونحن صورة المسيح ومثاله؛ لقد خُلقنا على شبه الربّ بحسب صلاح الآب، وكان لا بدّ للمسيح أن يأتي في شبهنا في ملء الزمان[108]. المسيح هو صورة الآب، ونحن صورة المسيح ومثاله؛ تشكّلنا على هيئة الربّ بصلاح الآب، للمسيح، الذي سيأتي في صورتنا بعد انقضاء  الدهور[109].

الفصل الثالث: مجمع نيقيا، حدثٌ أساسيّ في اللاهوت وفي حياة الكنيسة

70. الاحتفال بمجمع نيقيا يجعلنا ندرك كيف يمكن لهذا المجمع أن يكون حدثًا جديدًا، من تلك الجِدّة الأخرويّة التي انطلقت فجر الفصح، ولا تزال تجدِّد الكنيسة بعد مرور 1700 سنة بعد حدث القيامة. إنّه، في الحقيقة، حدثٌ بكل ما تحمله الكلمة من دلالة، ولحظة مفصليّة تنطبع في نسيج التاريخ بكل تشابكاته وتراكماته، وتمثّل في الوقت عينه نقطة تركيز حاسمة، تُدخِلُ جِدّةً حقيقيةً، وتُحدث أثرًا بالغًا في مسار ما يليها من تحوّلات.يشير مصطلح "حدث" في عدد من اللغات إلى ما سيأتي:(ad-ventus :مجيء) أو إلى ما ينجم عن شيء ما، أو إلى تحقّق واقعٍ، أو ظهور أمرٍ جديد . وهكذا فإنّ مجمع نيقيا يُعبّر عن نقطة تحوّل، تحدث، وتنبثق، وتتحقّق، وتتجلّى في الفكر البشريّ، وقد أطلقها إعلان الله الواحد والثالوث في يسوع المسيح، إعلانًا يخصّب العقل البشريّ ويمنحه مضامين جديدة وقدرات معرفيّة متجدّدة. إنّه "حدث حكمة" بامتياز. فإنّ نيقيا، الذي سيحمل لاحقًا لقب "المجمع المسكونيّ الأول"، يعدّ أيضًا تعبيرًا عن نقطة تحوّل في طريقة تنظيم الكنيسة وسهرها على وحدتها وعلى صدق عقيدتها من خلال اعتراف إيمان مشترك وموحّد؛ فهو بذلك يمثّل "حدثًا كنسيًّا." ومن البديهيّ في كلا الحالتين، أن تستند هذه الجِدّة إلى مسارٍ سابق، وواقع قائم يتحوّل. فـإنّ "حدث الحكمة" يفترض وجود الثقافة الإنسانيّة، ويتبنّاها بطريقةٍ ما ليطهّرها ويُمجّدها. أما "الحدث الكنسيّ" فيستند إلى تطوّر بنى الكنيسة في القرون الأولى، التي ارتكزت بدورها على الإرث اليهوديّ واليونانيّ-الرومانيّ.

71. أما مصدر هذين الحدثين فيأتي من مصدرٍ آخر، المبادرة الإلهيّة، وهو حدث وحي الله، أي "حدث يسوع المسيح". فهذا الحدث هو الجِدّة بالذات: فالجديدهو الجديد الحقيقيّ. تكفي بهذا الخصوص مراجعة إيريناوس الذي يستشهد به كثيرًا هنري دو لوباك[110]. إنّه الوحي نفسه، في حين أنّ حدث الحكمة والحدث الكنسيّ يشكلان جزءًا من عملية نقل هذه الهبة الأصليّة وامتدادها[111].في هذا الحدث، يعقد الله عهدًا مع شعبٍ ليقيم من خلاله عهدًا مع جميع الشعوب، ويتردّى بالإنسانيّة ليحمل كلّ الإنسانيّة. إن نيقيا تعبير جدّة الوحي وثمرته، ولهذا السبب يُقدم نموذجًا لكلّ مرحلة من مراحل تجديد الفكر المسيحيّ والبُنى الكنسيّة. بل وأكثر من ذلك، لأنّ مجمع نيقيا ينبع من الجديد الذي هو المسيح، فهو مسألةٌ قابلةٌ لأن تُفهَم دائمًا بطرق متجدّدة، تخصب حياة الكنيسة بشكل دائم. لذلك، يتعيّن علينا أوّلاً استكشاف الحدث الأصليّ، حدث يسوع المسيح، ثم دراسة آثاره على الفكر البشريّ وعلى بنى الكنيسة.

- حدث المسيح: "إن الله لم يره أحد قطّ؛ الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه." (يو 1، 18)

- المسيح، الكلمة المتجسّد، يكشف سرّ الله الآب

72. إن قانون إيمان نيقيا هو التعبير اللفظيّ عن مشروعٍ غير مسبوق، مضمونٍ وكامل للخلاص الإلهيّ، يقدّمه لنا حدث يسوع المسيح. في تجسّد الكلمة المساوي في الجوهر للآب، في حياته، وآلامه، وقيامته، وصعوده إلى السماء، والذي شهدت عليه الكتب المقدسة وإيمان الكنيسة الرسوليّة، يمنح الله، الذي هو دائمًا الأعظم، بتدبيره الخاصّ، معرفةً ووصولًا إلى ذاته لا يستطيع أحد غيره أن يمنحهما، وهما يفوقان بكثير ما يمكن للعقل البشريّ أن يتصوره أو يأمله[112].في الحقيقة، ينقل العهد الجديد إلى الكنيسة عبر العصور شهادة يسوع عن نفسه، والتي أكّدها الآب مرة واحدة وإلى الأبد في نور الروح القدس وقدرته[113]. وذلك في فصح موت الابن المتجسّد وقيامته وصعوده إلى السماء، وفي انسكاب الروح في العنصرة، عند ملء الأزمنة، "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا". فإذا كان صحيحًا أنّ الله " لم يرَه أحدٌ قطّ"، فإنّ إيمان الكنيسة يشهد أنّ يسوع، " الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يو 1، 18؛ راجع يو 3، 16، 18 و1يو 4، 9). وتتجلّى هذه الشهادة بأوضح صورة في الجواب الذي أعطاه يسوع للرسول فيلبس، حين قال له: "يا ربّ، أرِنا الآب وحسبنا"، فأجابه يسوع: إنّي معكم منذ وقت طويل، أفلا تعرفني، يا فيلبس؟ من رآني رأى الآب. فكيف تقول: أرنا الآب؟ ألا تؤمن بأنّي في الآب وأن الآب فييّ؟ إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب المقيم فييّ يعمل أعماله. صدقوني: إنّي في الآب وإن الآب فييّ وإذا كنتم لا تصدّقوني فصدّقوا من أجل تلك الأعمال". (يو 14، 9 – 11)

73. إذا كان يسوع يُظهر الآب، فإن كلّ ما فيه هو طريق إلى الآب. فالمسيح، في إنسانيّته الضعيفة والمعرّضة للألم، هو التعبير الحقيقي عن الله الآب: "من رآني فقد رأى الآب" (راجع يو 14: 9)[114]. يتّضح من ذلك أنّ الله لم يكن مختفيًا في البدء على الجلجلة، تحت صورة المصلوب العاجز، ليظهر بعد ذلك، في صباح الفصح، على حقيقته أخيرًا، باعتباره الكليّ القدرة. بل على العكس، إنّ محبّة يسوع المسيح، الذي أسلم ذاته للصليب، والذي، باختباره الموت الجسديّ، انحدر إلى الموضع حيث يقبع الخاطئ أسير الخطيئة (الشيول أو مثوى الأموات)، هذه المحبّة هي في ذاتها إعلان لمحبّة الإله الثالوث. محبّة لا تعمل بحسب منطق القوّة، بل تتجاوز القوّة، لأنها أقوى من الموت ومن الخطيئة.أمام الصليب تحديدًا، يُقدِّم مرقس الإنجيليّ، على لسان قائد مئة وثنيّ، إعلانًا لاهوتيًّا مدوّيًا: "حقًا، كان هذا الرجل ابن الله" (مر 15، 39). وكما عبّر البابا بندكتس السادس عشر في كتابه عن يسوع: إنّ الصليب هو "القمّة" الحقيقيّة، قمّة المحبّة التي "بلغت إلى المنتهى" (يو 13، 1). على الصليب، يكون يسوع في "القمّة"، على نفس مقام الله، الذي هو المحبّة. هنالك حقًّا، يتاح لنا أن نعرفه وأن نفهم معنى قوله: "أنا هو" (ἐγώ εἰμι). إن العليقة المشتعلة هي الصليب. فأسمى ما في الوحي من إعلان، أي "أنا هو"، لا ينفصل عن صليب يسوع: إنهما متّحدان اتحادًا ثابتًا[115].

74. إن معرفة الله في المسيح لا تقتصر على مضمون عقائديّ فحسب، بل تُدخل الإنسان في شركة خلاصيّة معه، إذ إنّها، إن صحّ التعبير، تغمر الإنسان في صميم الحقيقة ذاتها، بل بالأحرى في قلب الإنسان الذي يُدعَى إلى معرفة الله ومحبّته.إن مقدّمة إنجيل يوحنا تُعدّ من أسمى النصوص التأمّليّة في سرّ الله، الذي ظهر لنا بيسوع، لكي ندخل، بنعمة الروح القدس المُفيض "بلا حساب" (يو 3، 34)، في حياة الله  الثالوث، الذي أُعلِن لنا من خلال اللوغوس. إن صورة هذا اللوغوس لا تعكس فقط مفهوم "اللوغوس الإلهيّ" كما أدركته الفلسفة اليونانيّة، بل ترتبط، على نحو أعمق، بالإرث الكتابيّ للعهد القديم، أي بكلمة الله(الدَبَار)، كما يشهد لها الكتاب المقدّس في أسفاره الأولى. ذلك أنّ الوحي الذي أُعطي لإسرائيل، والمسلَّم في العهد القديم، قد أدخل إلى معرفة جديدة وجذرية بالله، ممهّدًا لحدث الوحي الذي يبلغ كماله في المسيح. هذا اللوغوس، الابن، "إله من إله"، الذي كان منذ البدء مع الله، بصفته كلمته التي تعبّر عنه بكل حقّ، هو أيضًا إله، كما الآب. وفي ملء الزمان، الكلمة صار "صار جسدًا، وحلّ بيننا" (يو 1:،14)، بحيث إنّ الذين قبلوه نالوا منه "السلطان (exousia) أن يصيروا أبناء الله" (يو 1، 14). وإذ أدخل البشر في شركة كاملة معه، فإن الكلمة المتجسّد قد جعلهم "شركاء في الطبيعة الإلهيّة"[116].

75. إن هاتين المعرفة الفريدة، والشركة الأصيلة مع الله، تُفضيان إلى شركة خلاصيّة مع إخوة الإنسان وأخواته الذين أحبّهم الله، لأن حدث يسوع المسيح هو، في جوهره، اتحاد لا ينفصم بالله وبكلّ إنسان في آنٍ واحد. إن إيمان الكنيسة الرسوليّة يشهد لهذه الشركة في المسيح وبالمسيح، في حضن الشركة الثالوثيّة ذاتها. "ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأمّلناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة، (...) نبشركم به أنتم أيضًا لتكون لكم أيضّا شركةٌ معنا ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولابنه يسوع المسيح. وإننا نكتب إليكم بذلك ليكون فرحنا تامًّا. (1يو 1، 1،3-4) يؤكد التقليد اللاهوتيّ أنّ المحبة تجعلنا نحبّ الله ونحبّ القريب بوصفه محبوبًا لله وصديقًا له[117]. كما يمكننا أن نعتبر الفضائل الإلهيّة الثلاث — الإيمان والرجاء والمحبة — سبيلاً إلى معرفة الله وشركةً معه، معرفةً كاملة وجديدة بالتمام. غير أنّ هذا السبيل المتجدّد إلى الله، الذي تفتحه لنا هذه الفضائل، يهدينا مسار إيمان عظيم يقود إلى الأخوّة، والرجاء الذي لا يُقاس في القريب، والمحبّة التي تغفر كلّ شيء وتُلهِم البذل الكامل للذات.

 

- وأما نحن فعندنا فكر المسيح. (1كور 2، 16): التماثل في الخلق والتماثل في المحبّة

76. الحدث الذي هو يسوع المسيح، إذ يهبنا صلةً لا مثيل لها إلى الله، يستدعي ويفترض في آنٍ معًا سبيلًا جديدًا وفريدًا لهذا الوصول: قبول قانون الإيمان بالتقوى والعقل معًا، بل وأكثر من ذلك، استقبال الله نفسه الذي يعتلن من خلال هذا القانون، الأمر الذي يُدخلنا في نظرة المسيح، المتساوي مع الآب في الجوهر، وفي "فكر" المسيح، أو في عقله الباطنيّ،وفي علاقته بالآب وبالآخرين. كما يصرّح بولس الرسول:  «وأما نحن فلنا فكر المسيح1 كورنثوس 2:16)[118]. إنّها صرخة إعجاب. وفي هذا الأمر أيضًا، يُظهر مجمع نيقيا عظمة عطية الله غير المحدودة. كما يشير إلى أنّ هذه هي السبيل الوحيدة للوصول إلى ما يُعبّر عنه في قانون الإيمان، سواء من حيث المضمون أو من حيث النصّ. لا يمكننا أن نتأمّل في إله يسوع المسيح، وفي الفداء المعروض لنا، وفي جمال الكنيسة والدعوة الإنسانيّة، وأن نشارك في ذلك، من دون أن "يكون لنا فكر المسيح". ليس بمعنى المعرفة المجرّدة للمسيح فحسب، بل بالدخول في فهم المسيح ذاته. لا يمكن للإنسان أن يلتزم بقانون الإيمان التزامًا كاملاً، ولا أن يعترف به بكلّ كيانه، من دون "الحكمة الفائقة خارج هذا العالم"، "المكشوفة بالروح القدس"، الذي وحده "يَغوص في أعماق الله" (راجع 1 كور 2، 6 و10): "فالمسيح في الإيمان، ليس فقط شخصًا نؤمن به، بصفته الاعتلان الأكبر لمحبّة الله، ولكنّه أيضًا من نتّحد به كي يمكننا أن نؤمن. فالإيمان، لا يتعلق فقط بيسوع، ولكن أيضًا برؤية الحياة من وجهة نظر يسوع. النظر بأعين يسوع: إنه المشاركة في الطريقة التي من خلالها ينظر هو. (...) إنّ حياة المسيح – وطريقة معرفته للآب، وعيشه التام في علاقة معه – تُفسح أمامنا مجالاً جديدًا في الخبرة البشريّة، يمكننا أن نشترك فيها"[119].

77. وهذا الأمر ممكنٌ لأنّ المسيح يرى الآب بعينيه البشريّتين، ويدعونا إلى الدخول في نظرته. غير أنّ هذا السبيل يفترض تحوّلًا عميقًا في فكرنا، في عقلنا الباطنيّ،وهو تحوّل لا يتمّ إلا من خلال توبة وارتقاء داخليّ: "لا تتشبهوا بهذه الدنيا، بل تحولوا بتجدد عقولكم" (روم 12، 2). وهذا ما يحمله بالتحديد حدث يسوع المسيح: فالعقل، والإرادة، والقدرة على المحبّة، تُفتدى فعليًا بفضل الوحي المُعلَن في قانون نيقيا، فتُنقّى، وتُوجَّه، وتُعتلن. وتكتسب هذه القدرات في الإنسان قوّةّ جديدة، وأشكالًا ومضمونًا غير مسبوقين. فلا يمكن لقوانا البشريّة أن تدخل في شركة  حقيقيّة مع المسيح، ما لم تتشكّل على مثاله في مسار يُشرك المؤمنين في شبهه، فيجعلهم "مشابهين له"، كما يقول بولس (فيل 3:10)، حتى في أعماق عقلهم الباطنيّ.ويتّسم هذا الفكر الجديد بكونه معرفة ومحبة في آنٍ واحد. كما يشير البابا فرنسيس: "كتب القديس غريغوريوس الكبير "إنّ الحبّ ذاته هو معرفة"، "amor ipse notitia est"، يجلب معه منطقًا جديدًا[120]. ويتابع : "إنّها معرفة رحيمة ومفعمة بالحنان، إذ إنّ الرحمة هي جوهر الإنجيل بعينه[121]، وهي تعكس السِمة العميقة لإله يسوع المسيح، المعلن عنه في قانون نيقيا. إنَّ العقل المجدَّد يفترض فهمًا جديدًا للمماثلة يُعاد تأويلها على ضوء سرّ المسيح. وهو يمسك بوَحدةٍ متماسكة بما يمكن أن نُسميه "تماثل الخلق"الذي نرى من خلاله حضور الله في سلام النظام الكونيّ[122].وما يمكننا أن نسميه "مماثلة المحبّة"[123]  هذه المماثلة المتبادلة، إذا جاز التعبير، في مواجهة سرّ الإثم والدمار، إنما تستنير بسرٍّ أعظم، هو سرّ آلام المسيح وقيامته؛ ومن خلاله يمكن تمييز حضور إله المحبّة في قلب الهشاشة والألم. وهذه الحكمة التي للمسيح تصفها الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس بأنّها الحكمة التي "جعلت حكمة العالم حماقة". "فإنّ المسيح لم يرسلني لأعمّد، بل لأبشّر، غير معوِّل على حكمة الكلام لئلا يبطل صليب المسيح. فإن لغة الصليب حماقة عند الذين يسلكون سبيل الهلاك، وأما عند الذين يسلكون سبيل الخلاص، أي عندنا، فهي قدرة الله. فقد ورد في الكتاب: "سأبيد حكمة الحكماء وأزيل فهم الفهماء". فأين الحكيم؟ وأين عالم الشريعة؟ وأين المماحك في هذه الدنيا؟ ألم يجعل الله حكمة العالم حماقة؟ فلما كان العالم بحكمته لم يعرف الله في حكمة الله، حسن لدى الله أن يخلص ألمؤمنين بحماقة التبشير؟ (1 كور، 1، 17-25) إن هذا التحوّل وهذا التجلّي لا يمكن أن يتحققا من دون النعمة. فالعقل البشريّ، في كيانه العميق، مهيّأ بنيويًّا للنعمة، ويستند إليها ليبلغ ملء تحقيق ذاته، تمامًا كما هو حال الإنسان بتمامه[124]. وهذا الأمر يُتيح لنا أن نفهم كيف أنّ القدرات الإنسانيّة، وقد أُعيدت إلى ذاتها وتجلّت بفعل حدث يسوع المسيح، تُدفع نحو تمامها إذ تنفتح وتتحقّق في أنماط الإيمان والرجاء والمحبة، بوصفها باكورة الحياة المجيدة في هذا العالم: "فلْيكن فيكم من المشاعر ما في المسيح يسوع" (فيل 2، 5).

- المدخل اللاهوتيّ إلى معرفة الآب من خلال صلاة المسيح

78. كيف يمكن الدخول في "فكر المسيح" الذي يقدّمه حدث يسوع المسيح؟ فبما أنّ يسوع المسيح ليس مجرّد معلّم أو مرشد، بل هو نفسه وحي الله وحقّه، فإنّ الذين يتلقّون كلمته لا يُعدّون مجرّد متلقّين لتعليم. ولأنّ شخص القائم من بين الأموات ليس مجرّد موضوع من الماضي، فإنّ مَن يرغب في فهم السرّ العميق ليسوع - أي إعلان الله في إنسانيّته - عليه أن يسمح لنفسه بأن يدخل في علاقة الشركة التي تجمعه بالآب السماويّ. ويتحقّق ذلك من خلال الحياة اللاهوتيّة، وقراءة الكتاب المقدّس في قلب الكنيسة، والصلاة الشخصيّة والليتورجيّة، ولا سيّما الإفخارستيا.

79. إنّ المشاركة، بنعمة الله، في صلاة المسيح تُشكّل الطريق الملوكيّ للتعرّف إلى المسيح، ذاك الذي يكشف معرفة الآب ("أبي وأبيكم" يو ٢٠، ١٧) ويقول جوزيف راتسنغر / البابا بندكتس السادس عشر: "لأنّ الصلاة تُشكّل صميم شخص يسوع، فإنّ المشاركة في صلاته تصبح شرطًا لمعرفته والتعرّف إليه"[125].  بعبارة أخرى، تبدأ معرفة المسيح بدخول مَن يعترف به في فعل صلاة يسوع نفسه: "حيث لا توجد علاقة مع الله، لا يمكن لمن هو، في صميم كيانه، علاقة بالله، بالآب، أن يُعرَف حقًا أو يُفهَم كما ينبغي"[126]. وما ينطبق على كلّ مؤمن، ينطبق كذلك على الكنيسة بأسرها.لأنّها جماعة صلاة مندرجة في علاقة يسوع بالآب، تكون الكنيسة ذلك الـ"نحن" الذي يعترف بالمسيح كما يظهر في يوحنا ٥، ١٨–٢٠) وكذلك في ١ يوحنا ٣، ١١[127]. إنّ الأمر يتعلّق هنا، من جديد، بجوهر التأكيدات الخريستولوجيّة الواردة في قانون الإيمان: "إنّ التأكيد المركزيّ في العقيدة - "الابن من جوهر الآب ومن طبيعته نفسه" - والذي يلخّص كل شهادة المجامع المسكونيّة الأولى، لا يقوم بأكثر من أن ينقل واقع صلاة يسوع إلى لغة فلسفيّة ولاهوتيّة متخصّصة"[128].إنّ الإيمان الذي عبّر عنه مجمع نيقيا ناجمٌ من علاقة يسوع بالآب، ويُدخلنا فيها، لكي يمنح البشر والكنيسة إمكانية المشاركة في معرفة يسوع وشركته مع الآب والروح القدس.

- حدث الحكمة والجدّة التي يقدّمها للفكر البشريّ

-الوحي يُغني الفكر البشريّ ويوسّع آفاقه

80. بإرساء الإيمان المسيحانّي والثالوثيّ، ينخرط قانون الإيمان النيقاويّ في حركة إغناءٍ للفكر البشريّ و"توسيع لآفاق العقل"[129]، يتمّ عبر الوحي في عمليّة نقله. في الحقيقة، إنّ الوصول الفريد إلى الله الذي يمثّله حدث يسوع المسيح، وكذلك المشاركة في الحكمة العمليّة والصلاة التي في المسيح، لهما تأثير حاسم على الفكر واللغة البشريّة. نشهد "حدث الحكمة"، الذي من خلاله تُوسّع هذه القدرات (أي الفكر والحكمة) بواسطة الوحي، لكي يجد عبره منفذًا للتعبير عنها. وفي هذه الحركة نفسها، تبرز هذه القدرات طاقتها إن انقادت وتجاوزت ذاتها. في سياق تاريخ هذا الحدث الحكميّ، يمثّل مجمع نيقيا نقطة تحوّلًا جوهريًّا، و"سبيلاً جديدة محيية" (عب ١٠، ٢٠)، وقد أدرك بافيل فلورنسكي أهمّيتها الحاسمة، معبرًا عنها بكلمات قويّة وحازمة: لا يمكن استذكار اللحظة الفريدة، التي تظلّ إلى الأبد ذات دلالة فلسفيّة وعقائديّة عظيمة، دون الشعور برهبة مقدسة؛ هي اللحظة التي دوّى فيها صدى كلمة "المساوي في الجوهر" لأول مرة فوق مدينة النصر [نيقيا]. لم تكن المسألة لاهوتيّة حول أمرٍ ما وحسب، بل كانت تعريفًا جوهريًّا توصّلت إليه الكنيسة. فلم يعبّر هذا المصطلح عن العقيدة الخريستولوجيّة وحسب، بل قدّم أيضًا تقييمًا روحيًّا لقواعد العقل. لقد وجّه ضربةّ قاضية للعقلانيّة في هذا المجمع حيث، وللمرّة الأولى، أعلن للعالم بأسره ولكل مكان(urbi et orbi)، الفعل العقليّ الجديد[130].اللوغوس، الذي هو المسيح المتجسّد، ابن الآب في شركة الروح القدس، يُظهر أنّه هو معيار كل لُوغوس بشريّ، ويستطيع أن ينبض فيه بالحياة ويوسّع آفاقه، ولكنه أيضًا يمكن أن يكون حَكَمًا عليه، مما يضعه تحت اختبار أو محنةٍ بالمعنى الدقيق للكلمة. في الحقيقة، يلفت انتباهنا  كيف اعتبر أثناسيوس، في حكم قاطع، أنّ رفض آريوس لكمال شخصيّة المسيح يشكل إنكارًا للعقل، ولللوغوس ذاته: " إنّ إنكار لُوغوس الله يجعلهم بلا لُوغوسٍ على الإطلاق، وهذا أمر بديهيّ"[131].ففي جوهره، يحصل حدث الحكمة الذي يتمثل في حدث يسوع المسيح دخول العقل والفكر البشريين إلى أقصى دعوة لهما وأصدقها. فهو، بهذا المعنى، يعيدهما إلى ذاتهما الحقيقيّة. لذلك، كما يتبيّن لنا، إنّ مصطلح "من جوهر الآب"ليس مثالًا على التداخل الثقافيّ وحسب، بل ينتمي إلى حدث حكمة نموذجيّ، تمهيديّ ومؤسس للكنيسة في طبيعتها الرسوليّة.

81. يُرسي حدث يسوع المسيح أنطولوجيا جديدة ذات أبعاد متّسقة مع الله الواحد والثالوث ومع اللوغوس المتجسِّد. فقد أُتيح للعقل البشريّ أن ينفتح ويدرك السرّ الذي كشفه الوحي عن الخلق من العدم (2 مك 7، 28؛ رو 4، 17)، وهو سرّ التسامي الأنطولوجيّ لإله يبقى مع ذلك أقرب إلى كلّ مخلوق منه إلى ذاته[132]. وأنت تقبل أن تتجدّد كليًا من الداخل عندما تستنير بالمعنى العميق الذي يمنحه سرّ الله الثالوث، الذي هو المحبّة لكلّ شيء (1 يو 4، 8 و16)،. فالآخريّة، والعلاقة، والتبادل، والتبادل الداخليّ، أمورٌ تظهر الآن كالحقيقة المطلقة بصفتها مؤسِّسة للأنطولوجيا. يستنير الكائن ويتجلّى بغنىً أعظم وأعمق، متجاوزًا ما كان يراه سابقًا في تأمّلاته الفلسفيّة، مهما بلغت تلك التأملات من عمق وتعقيد. بالإضافة إلى ذلك، يعكس مجمع نيقيا، الذي انطلق من المسألة الخريستولوجيّة والخلاصيّة ليعرض سرّ الله الآب والابن والروح القدس، يعكس بشكل جلّي كيف تدفع الظاهريّة الخريستولوجيّة بهذه المسألة  (phénoménalité christologique ) إلى التوصّل إلى عقيدة الثالوث. ويتجلّى ذلك من خلال الديناميكيّة القائمة بين نظام الاكتشاف الخريستولوجيّ والبنوماتولوجيّ (لاهوت الروح القدس) القائم في صميم المسألة الخريستولوجيّة، وبين نظام الواقع الثالوثيّ الذي يؤطّره وينظّمه. يسرّع مجمع نيقيا انخراط الفكر المسيحيّ في الاهتمام باللاهوت، أو بما يُسمى استكشاف سرّ "الثالوث في ذاته"( Trinité immanente).وبما أنّ سرّ المسيح، المتحقّق في التاريخ وفي بشريّة محدودة، يمنحنا إدراك الله، فإن المادّة والجسد، والزمان والتاريخ، والجِدّة، والفَناء، والهشاشة ذاتها، تكتسب كرامتها ومتانتها للتعبير عن الكينونة. ففي العمق وبالوحي، يتجلّى الكائن دائم العظمة أكثر ممّا نتصوّره.

82. إنّ حدث الحكمة ينطوي، بطبيعة الحال، على تجدّد في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، إذ إنّ حدث يسوع المسيح يُلقي نورًا جديدًا على الكائن البشريّ. ويجدر بنا أن نُذكّر بإيجاز ببعض الجوانب التي طُرحت في الفصل الأول من هذا النصّ (الأرقام 32-37). إنّ الأنثربولوجيا الكتابيّة تستلزم إعادة النظر في مفهوم الكائن البشريّ انطلاقًا من كرامة المادّة وفرادة الشخص. فالخالق وفق سفر التكوين، أراد كلّ إنسان على حدة، وقد "نقَشَهُ على كَفَّيه" (أش ٤٩، ١٦). وبالإضافة إلى ذلك، يدعو يسوع كلّ إنسان أخًا له أو أختًا، لأنّ حدث التجسّد قد منح كلّ كائن بشريّ، على نحو فرديّ، كرامة لا يُمكن تجاوزها أو انتزاعها أبدًا. حين يعلن قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ أنّ يسوع المسيح، بصفته إنسانًا حقيقيًّا، هو ابن الله، وأنّه، في هذا المقام، "من جوهلا الآب"، يمنح كلّ إنسان — مهما كانت أصوله أو أمّته أو مواهبه أو تكوينه — كرامةُ تُلزم العقل البشريّ التفكير بنمطٍ جديد، متجاوزًا حدود النظرة الطبيعيّة المحضة إلى الإنسان. توجد إذن كرامة خيستولوجيّة خاصّة بكلّ كائن بشريّ في فرادته.

83. وبطريقة مماثلة لما يحدث عند الدخول في "فكر المسيح"، فإنّ اتّساع الأنثولوجيا والأنثروبولوجيا يفترض تحوّلاً داخليًا (اهتداءً)، قد يصطدم بمقاومة الفكر الذي اعتاد حدودَه. يفرض حدث الحكمة أخذ "قياس الخلق" بعين الاعتبار، ولكن أيضًا "قياس المحبة". فأمام إخلاء الذات (kénose) في التجسّد وآلام المسيح، وأمام الألم والشرّ اللذين يصيبان البشريّة، يصطدم العقل البشريّ بمحدوديّته. ويفرض السؤال نفسه: لماذا بدا الآب القدير وكأنّه يشاهد من العُلى دربَ الصليب الذي سار فيه الابن المتألّم، ولم يتدخّل إلا بعد موته؟ ولماذا لم تُستجَب في الحال صلاة بستان الزيتون، تلك التي رُفعت بعرقٍ كأنه دم من شدة الخوف: "يا أبت، إن أمكن الأمر، فلتبتعد عني هذه الكأس..." (متى 26، 39ب)؟ في الحقيقة، إنّ المساواة في الجوهر بين الآب والابن المتجسّد والمصلوب، التي يُعلنها قانون نيقيا، تدعو الفكر البشريّ إلى التحوّل وإلى إعادة فهم مصطلح "القدرة المطلقة". فالله الثالوث ليس أولاً قدرة مطلقة ثم محبّة، بل إنّ قدرته المطلقة هي المحبّة نفسها التي تجلّت في يسوع المسيح. في الحقيقة أيضًا، إنّ ما عاشه يسوع، كما يشهد عليه العهد الجديد، هو – بفعل الروح القدس – كشفلإ في التاريخ، على مستوى التدبير الثالوثيّ، للعلاقة والحقيقة الثالوثيّة كما هي قائمة في الله[133]. الله هو الإله الحقّ حين لا تفرض قدرته المطلقة في المحبّة شيئًا، بل تمنح شريك عهده، أي الإنسان، القدرة على الارتباط به بحريّة ومجّانية. الله يتوافق مع كيانه الذاتيّ حين لا يُجبر الإنسان المُفْسَد بالخطيئة على التغيير بالقوة، بل يتصالح معه عبر أحداث بيت لحم والجُلجثة. في كل ذلك، لابدّ لنظرتنا البشريّة من أن تنفتح وتتغير بعمقٍ على يد المسيح: "إنّ أفكاركم ليست أفكاري» (إش ٥٥، ٨؛ وانظر أيضًا متى ١٦، ٢٣).

-      حدث ثقافيّ وحواريّ بين الحضارات

84. إذا كان حدث يسوع المسيح ينهض بالفكر كخليقةٍ جديدة مستنيرة بحدثٍ من الحكمة، فإنه ينهض أيضًا بالحضارة البشريّة، فيجدّدها ويطهّرها، ويخصّبها، ويوسّع آفاقها. في الحقيقة، إنّ مجمع نيقيا، الذي عبّر عن الإيمان المسيحيّ بكلمات موجَّهة إلى الكنيسة المنتشرة بين جميع الأمم، باللغة اليونانيّة، ومن خلال اعتماد مصطلحٍ مأخوذ من الفلسفة اليونانيّة، يُشكّل دون شكّ حدثًا حضاريًّا. فلا بدّ وأن يتبنّى الإيمانُ الحضارة البشريّة، كما يتبنّى الطبيعةَ البشريّة، لأن الطبيعة والحضارة كلاهما عنصران جوهريّان في كيان الإنسان، ومن ثمّ فهما غير منفصلين. يذكّرنا البابا فرنسيس : "للكائن البشريّ على الدوام موقعٌ حضاريّ"[134]، لأنّ الإنسان كائنٌ علائقيّ واجتماعيّ، منخرط في التاريخ، يَبلغ كمال إنسانيّته من خلال الحضارة[135]. ثمّ إنّ الوحي، الذي يؤسّس الشركة بين الله والكائن البشريّ، يحتاج إلى مَن يتلقّاه ويملك كيانًا ذاتيًّا متماسكًا، لكي يكون قادرًا على استقباله في حرّية تامّة ومسؤوليّة كاملة. ولذلك تمّ اختيار شعب إسرائيل، ذي الأسباط الاثني عشر، ليكون متميّزًا عن باقي الأمم، متعلّمًا، من خلال جهد طويل وشاقّ، كيف يميّز بنفسه بين الحقيقة والضلال. ولذلك احتمل يسوع المسيح، الذي فيه صار ابنُ الله إنسانًا حقًا، عبرانيًّا، جليليًّا، إنسانيّته ذات السمات الحضاريّة في المسار التاريخيّ لشعبه. ولذلك أيضًا تتألف الكنيسة من جميع الأمم. وهكذا، انطلاقًا من المبدأ التومائيّ القائل إن "النعمة تفترض الطبيعة"، وبالتمادي فيه، يضيف البابا فرنسيس: "النعمة تفترض الحضارة أيضًا، وعطية الله تتجسّد في حضارة الذين يقبلونها[136].

85. إنّ هذا التبنّي الذي يقوم به الوحي للثقافة ينطوي على نوعٍ من التأثير المتبادل بينهما، رغم التفاوت القائم بين الوحي والثقافة. كما أنّ الروح الإنسانيّة قادرة على أن تتجلّى، فإن الثقافة مدعوة لأن تسمح لنفسها بأن تُستنير بالوحي، حتى تتمكن، مقابل تحوّل داخلي، من استقبال حكمة المصلوب. لا بد أن تتغلغل قوة الإنجيل في طرق التفكير، ومعايير التمييز، وأسس العمل؛ باختصار، لا بد أن تُشبع الثقافة البشرية بأسرها بنور الإنجيل"[137].مع ذلك، لا يُعدّ الإيمان عنصرًا غريبًا عن كل ثقافة يحيا فيها، إذ منذ حلول الروح القدس في عيد العنصرة، يؤمن المسيحيّون يقينًا راسخًا بأنّ لا ثقافة بشريّة تنتظر تحقيق غايتها أو ترجوه إلا من خلال زيارة كلمة الله، التي هي بذور كلمته(semini Verbi)التي نثرها بنفسه في كلّ منهذه الثقافات التي تنتظر زيارته[138].فبالكلمة، تُصبح الثقافات كاملةً في ذاتها. ومن داخلها، وبانفتاحها على الحقّ والخير والجمال، ينقّيها الوحي ويرتقي بها. كما تتمكّن الثقافات واللغات التي تحتضن هذه الكلمة أن تتجلّى بتجديد الوحي ومن إثراء تعبير الإيمان وتجويده وتوضيحه. لقد تجلّى هذا التفاعل المتبادل عبر القرون في خصوبة اللغة والشعر والفن بتأثير الكتاب المقدّس، الذي ينكشف فهمه، بدوره، ويزداد إشراقًا من خلال تفرّعه إلى تعابير ورؤى متعدّدة للعالم. وهذا ما جرى أيضًا في مجمع نيقيا باعتماد مصطلح "من جوهر الآب"، الذي يُحدّد فهم الكنيسة لبنوّة يسوع المسيح، وفي الوقت نفسه يعيد تشكيل هذا المصطلح الذي تبنّته.

86. في احتضان الإنجيل للثقافة هذا، يجب أن تُخصّص مكانٌة فريدة وعنايةٌ مقدّسة للعلاقة بين الثقافة العبريّة والثقافة اليونانيّة. إذ يبدو في هذا المجال أنّ مصطلح "من جوهر الآب" هو بمثابة ثمرة تركيبةٍ متينة نشأت بشكل خاصّ بين الثقافة الساميّة، التي قد تأثرت وتجلّت بفعل الوحي، وبين ثقافات أخرى، تشكّلت من خلال اللقاءات والاختلافات مع شعوب مثل المصريّين، والكنعانيّين، وشعب بلاد ما بين النهرين، والرومان – والعالم اليونانيّ. على امتداد أكثر من ثلاثة قرون قبل ميلاد يسوع وحتى القرن الثالث الميلاديّ، كانت تعاليم اليهوديّة وحياتها الفكريّة-الهلنستيّة تُعبّر عن ذاتها ليس فقط بالآراميّة، بل أيضًا باليونانيّة، وقد اعتمدت الترجمة السبعينيّة كمركز ثقل. لقد تمَّ تدوين تعليم يسوع ونقله باللغة اليونانيّة، لكي يُعلَن الإنجيل للجميع بلغة البحر الأبيض المتوسط المشتركة، وأيضًا لأنّ العهد الجديد يندرج ضمن تاريخ علاقة الشعب اليهوديّ بالثقافة واللغة اليونانيّتَين. كما حدث في الترجمة السبعينيّة، جاءت التأثيرات متبادلة. فعلى سبيل المثال، يترجم التعبير "παντα τα ἔθνη" (جميع الأمم) في متى 28:19 الفكرة اليهوديّة القديمة عن توافد جميع الشعوب إلى أورشليم، كما أنّ كلمة "μαθητής/μαθηταί" (تلاميذ/تلامذة) تقابل الكلمة الآرامية "תַלְמִידָא " (تَلميدَ) وجمعها "תַלְמִידִין" (تَلميدين). وفي المقابل، يلجأ الإنجيليّون إلى اليونانيّة القانونيّة لسرد محاكمة يسوع وآلامه، ويستلهم كاتب سفر الأعمال الشعر الملحميّ للأوديسة في رواية أسفار بولس، بينما يستحضر بولس في رسائله أصداءً من الفلسفة الرواقيّة، شأنه شأن بعض نصوص العهد الجديد الأخرى التي تحمل أثرًا لمفردات أنطولوجيّة من الفكر اليونانيّ[139].فمن الطبيعيّ جدًا أن تكون المسيحيّة الناشئة قد واصلت هذا التوليف بين الفكر الساميّ والفكر اليونانّي، من خلال حوار مع المؤلّفين اليهود الهلنستيّين واليونانيّين الرومان، لتفسير الكتابات المقدسة وتطوير فكرها الخاصّ. كما يمكننا اعتبار غنى التعبير اليونانيّ في اليهوديّة والمسيحيّة دليلًا على وجود بُعد تأسيسيّ في هذا التداخل بين الثقافة اليونانيّة والثقافة العبريّة، ممّا أتاح توضيح وحدة الخلاص وجامعيّته في يسوع المسيح مصاغةً باللغة اليونانيّة في إزاء العقل الفلسفيّ[140].فإنّهمن الواضح أنّ قسمًا كبيرًا من المسيحيّين، ولا سيّما أولئك الذين كانوا يعيشون خارج حدود الإمبراطورية الرومانيّة، لم يكن ينتمي إلى هذه الدائرة الثقافيّة، بل أبدع بفكره الخاصّ في خدمة التعبير عن الإيمان في عوالم اللغة السريانيّة، والأرمنيّة، والقبطيّة. ومع ذلك، فقد وضع هؤلاء أيضًا أنفسهم في علاقة مع الفكر اليونانيّ، مستلهمين منه في الوقت نفسه ومحافظين على مسافةٍ معه.

87. لم يكن مجمع نيقيا فقط حدثًا لاستيعاب الثقافة وتخصيبها بواسطة الوحي، بل كان أيضًا مناسبة لتلاقي ثقافات مختلفة. هذا اللقاء بين الثقافات يُعدّ جانبًا رئيسيًّا من حدث الحكمة الذي يُثيره حدث يسوع المسيح، إذ إن الوحي يربط الثقافات بعضها مع بعضها ويؤسّس شركةً في ما بينها ، مما يجعل أعلى درجات التفاعل الثقافيّ ممكنة. ويشكّل التبادل والتفاعل المتبادل جزءًا جوهريًّا من طبيعة الثقافات، التي لا تقوم إلا من خلال عمليّة التتفاعل بعضها مع بعض، فتتطور وتغتني، وأحيانًا تتصارع وتعرّض بعضها بعضًا للخطر. غير أنّ قوة التجديد التي يمنحها الوحي تُحدث في هذه العلاقات نقلةً نوعيّة في كثافتها وعمقها. فمن جهة، تتيح لها الوصول إلى المصدر المتسامي للحقيقة والخير، وإلى جذر طبيعة الروح الإنسانيّة التي تجعل من الممكن تواصل هذه القيم[141]، إذ تفتح لها بشكل كامل الفضاء المشترك للّقاء والمبادلة. ومن جهة أخرى، يُشكّل حدث يسوع المسيح قوّة تحوّل وتحرير إزاء قوى الانغلاق ورفض الآخر الكامنة في حياة الشعوب والثقافات. فلا ثقافة، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، تستطيع أن تتجاوز ذاتها دون أن تتلاشى، ما لم تكن، إن جاز التعبير، "مخلَّصة"؛ إذ وحدها الثقافة التي نالت الخلاص تستطيع أن تنفتح على غيرها، فتغتني بها وتُغنيها في آنٍ واحد. إنّ الإصغاء إلى كلمة الله وإلى التقليد، أي إلى كلمة الآخر، يطوّع الذهن والثقافات، إن صحّ التعبير، على الإصغاء إلى الآخرين[142].وذلك لا يفضي فقط إلى تجاورٍ خارجيٍّ وهزيل بين الثقافات، ولا إلى انصهارها في كيان غير متمايز، بل يؤدّي إلى تثاقفٍ مخلَّص وسامٍ، تتجاوز فيه كلّ ثقافة ذاتها، فيما تتعزّز في تماسكها الخاصّ، بفضل شكل من أشكال "الحلول المتبادل"  (périchorèse) بين الثقافات[143]. لهذا السبب، لا بدّ من الحفاظ في الوقت ذاته على الجدّة الحقيقيّة و"السموّ" الثقافّي، بحيث يُمكن لأولئك الذين يقبلون إنجيل المسيح أن يحافظوا على هويّتهم الثقافيّة ويجدوا فيها قوةً وثباتًا[144]. "لا يختلف المسيحيّون عن غيرهم من الناس لا من حيث الوطن، أواللغة، أو الملابس [...]. فبينما يلتزمون بالعادات المحليّة في اللباس والطعام وسائر شؤون الحياة، يظهرون التركيبة الرائعة والتي يعتبرها الجميع مناقضةً لجمهوريّتهم"[145].

88. إنّ التفاعل بين الثقافات يعكس في الحقيقة إشكاليّةً أعمق تتعلّق بأساسها، ألا وهي المقصد الإلهيّ بوحدة الشعوب، والمسار الصعب لتحقيق هذه الوحدة في ظلّ التنوّع والاختلاف. إنّ هذا الموضوع يُعدّ من الخيوط المحوريّة في تاريخ الخلاص الكتابيّ. يركّز السرد النموذجيّ لقصة برج بابل في سفر التكوين 11، 1-9 على التوتّر القائم بين غنى تعدّد اللغات والثقافات من جهة، وبين قدرة الإنسان، من جهة أخرى، على زعزعة وحدة البيت المشترك، وتشويش اللوغوس الخاصّ به. إنّ دعوة إبراهيم والوعد المعلن له بأنّه " به ستبارك جميع عشائر الأرض» (تكوين 12:3) تمثّل أول جواب خلاصيّ من الله. ويواصل الأنبياء هذا الوعد ليشمل شعوب الأرض كافة، معلنين وحدة جميع الأمم حول الشعب المختار والشريعة[146]. يقدّم العهد الجديد هذه الوحدة على أنّها قد تحقّقت في المسيح، الذي بدمه وفي جسده "هدم حائط العداوة الفاصل" بين إسرائيل والأمم، ليخلق "من الاثنين، في ذاته، إنسانًا جديدًا" (أفسس 2: 14 و15ب). وهكذا، تنضمّ الأمم إلى شعب العهد، وقد أصبحوا "شركاء في الميراث والجسد والوعد" (أف 3، 6) الذي يتحقّق بالمسيح، الكليّ الفرادة، الذي يجمع في ذاته الآخريّة والهويّة، والذي يتقبّل البشرية جمعاء من خلال تقبّله لإنسانيّة محدودة بالنسب والثقافة. النموذج المضادّ لبرج بابل، يتمثّل في حلول ألسنة النار في يوم العنصرة كما ورد في أعمال الرسل (2: 1-18)، وهذا النموذج يمثل تجلّيًا وتحقيقًا لقوة الوحدة والاتصال التي يحملها اللوغوس البشريّ، والذي ينبع في جوهره من لوغوس الله[147]. لا يتمّ بفغل الروح القدس إرساء التواصل بين هؤلاء اليهود من لغات وثقافات مختلفة بالوحدة في اللغة الواحدة، بل في موهبة فهم الآخر، كصورة لما ستكون عليه الكنيسة التي تجمع جميع الأمم، متجهة نحو تحقيق ذاتها، حين يحقّق "144 ألف مختومين بختم" أسباط إسرائيل الاثني عشر و"الجمهور العظيم الذي لا يُحصى من جميع الأمم والقبائل والشعوب واللغات" شركة الخلاص الكاملة للإنسانيّة في أورشليم الجديدة (رؤ ٧، ٤ و٩).

89. إن البُعد العابر للثقافات، الذي يشكّل نيقيا تعبيره التأسيسيّ، يمكن اعتباره أيضًا نموذجًا للمرحلة المعاصرة التي تتواجد فيها الكنيسة ضمن تنوّع واسع من المجالات الثقافيّة: كالثقافات الآسيويّة، والأفريقيّة، واللاتينيّة-الأميركية، والأوقيانيّة، وثقافات الشعوب الأوروبية الجديدة، فضلًا عن الشكل الثقافيّ المستجد الذي تحمله الثورة الرقميّة والتقنيّات العلميّة. تبدو جميع هذه العوالم الثقافيّة المعاصرة بعيدة عن الثقافة اليونانيّة القديمة، التي احتضنت، في الأساس، نمط التثاقف العقائديّ الذي تحقّق في حدث نيقيا. فمن جهة، لا بدّ من التأكيد على أنّ الكنيسة عبّرت عن إيمانها مستندةً إلى هذه التصنيفات اليونانيّة، الأمر الذي يجعلها مرتبطة على نحو دائم بوديعة الإيمان[148]. ومن جهة أخرى، فإنّ الكنيسة، إذ تظلّ أمينة لمصطلحات  تلك الحقبة وتجد فيها تقليدها الحيّ، يمكنها أن تستلهم آباء نيقيا لتبحث، في زماننا، عن عباراتٍ للتعبير عن الإيمان في اللغات والسياقات المختلفة. بنعمة الروح القدس، يُطلب من الجماعات المسيحيّة، ومن لاهوتيّيها ورعاتها، وهم في شركة فعليّة مع السلطة التعليميّة، أن يقوموا بأنفسهم، ضمن أوضاعهم الثقافيّة وخصوصيّات لغاتهم، بعمل مماثل لذاك الذي تمّ في الأزمنة الماضية، لتأكيد وحدة الابن الجوهريّة مع الآب. ويبقى مجمع نيقيا نموذجًا لكلّ لقاء عابر للثقافات، ودليلاً على إمكانية استقبال أو إبداع صيغٍ جديدة وأصيلة للتعبير عن الإيمان الرسوليّ.

 - الأمانة الخلّاقة للكنيسة ومعضلة الهرطقة

90. إنّ إدراك مجمغ نيقيا بصفته أوان من حدث الحكمة التي أثارها حدث يسوع المسيح، يمكّن من إعادة قراءة تاريخ الهرطقات التي ردّ عليها المجمع بنظرة أكثر دقّة. الهرطقة، التي تنأى عن الشهادة الرسوليّة عمدًا وتمسّ بسلامتها، يراى فيها الآباء بدعةً تُدخل عنصرًا جديدًا، فتفارق مسار قاعدة الإيمان والتقليد المقدّس، وتبتعد هكذا عن حقيقة يسوع المسيح التاريخيّة. أمّا الاتهام الموجّه إلى آريوس، فكان من حيث الجوهر، إقحامه أمرًا جديدًا على التقليد الرسوليّ. وعلى الرغم من ذلك، وفي ضوء الجدّة التي أطلقها حدث يسوع المسيح، قد يكون من المفيد أن نُدرك أنّ الهرطقة مقاومة جوهريّة وسلبيّة وفاعلة في الوقت عينه ضدّ الحداثة الفائقة للطبيعة، تلك التي تفتح الفكر والثقافات البشريّة على ما يتجاوزها. إنّها حداثة النعمة، التي تشهد عليها اللغةُ الجديدة للإيمان، كما تَجَلّت في تعبير"من جوهر الآب". وإنّه من شبه المحتّم أن يقاوم الإنسان، بكل طاقاته وبكامل كيانه، هذه الحداثة غير المسبوقة التي تدعوه إلى التوبة وتُبدّله وتُحوّله. إنّها مقاومة، وبالتالي فإنّ خطيئة "الإنسان العتيق"(رو 6، 6؛ راجع أيضًا أفس 2، 15)، نابعة من الصعوبة في التمثّل الكامل لعظمة الله ومحبّته، وكذلك لعظمة كرامة الإنسان. إنّ المسار البطيء، المتقدّم بخطى حذرة ولكن حكيمة، الذي سلكته المحاولات الأولى لفهم معنى سرّ المصلوب وقيامته المجيدة — أي الانتقال من البشارة الرسوليّة إلى الخطوات الأولى لما نسمّيه اليوم علم اللاهوت، كان مصحوبًا بتوتّرات دائمة وتعدّد الآراء، فحدث انحراف عن كمال الشهادة الرسوليّة، وصُِف بمصطلحي " الإيمان غير الأرثوذكسيّ" أو "هرطقة".

91. دعونا لا نستعراض جميع الهرطقات في القرون الأولى، ونستبدله بتسليط الضوء على هذه المقاومة تجاه جديد الوحي من خلال بعض الأمثلة. غالبًا ما يُعتبر المذهب الغنوصيّ العقلانيّ أول هرطقة، إذ يُضعف حقيقة سرّ التجسّد عبر الظاهرتيّة (docétisme)، ومن خلال اختزال التاريخ المقدس بسرديّات أسطوريّة، ينكر بها كمال الخلاص البشريّ، ويحصر الخلاص في نطاق الممارسات التقويّة، المعنويّة والمجرّدة. يشدّد إيريناوس، في صراعه ضد الغنوصيّة، على أنّ الأمر يتعلق بمقاومةٍ لفهم قدرة الله وإرادته في الدخول بنفسه في التاريخ، والاتحاد الكامل بالإنسانيّة، ليصير إنسانًا بالحقيقة ويختبر الموت. إنّها مقاومة للإيمان بجمال التفرّد والمادة والتاريخ، الذي كشف عنها أيضًا حدث يسوع المسيح، والتي يشهد لها العهدان القديم والجديد. لم يتوانَ آباء الكنيسة في ما بعد عن الاستعانة بالمفاهيم والأُطُر الفكريّة المأخوذة من الفلسفة اليونانيّة، في سبيل صقل الفكر المسيحيّ. وهكذا، اضطرّ الآباء إلى تفكيك أُطُر التفكير التي كانت عاجزة بمفردها عن استيعاب إمكانيّة أن يتجسّد اللوغوس، أو أن يكون اللوغوس بمعنى الفكر أو العقل اللذين يُعبّران عن الألوهيّة، متساويين مع المصدر الذي يصدران منه، أو أن يكون هنالك تعدّد لا يتعارض مع الوحدة الإلهيّة، بل يشكّل خيرًا في صميم تلك الوحدة. إنّ أتباع الهرطقات المسيحانيّة والثالوثيّة هم أولئك الذين عجزوا عن توسيع أُطُر الفكر، رغم ما تحويه من غنى وإسهامات حقيقيّة في تأمّل العقيدة المسيحيّة، أمام الامتداد الشاسع والفريد للفكر المسيحيّ. إنّها الصعوبة ذاتها التي ظهرت في تداخل التيارات المسيحيانيّة في الشرق طوال القرن الثالث، والتي مهّدت الطريق إلى حدٍّ ما أمام ظهور الهرطقة الأريوسيّة. ولا بدّ من تجنب تشويه مواقف الأطراف العديدة في هذه التيارات، لأنّهم قبل كل شيء مفكرون فرديون، غير أنهم جميعًا يواجهون الصعوبات ذاتها في التمسك بغنى الثالوث الإلهيّ الواحد وعمق الامتلاك الكامل لإنسانيّة فرديّة من قبل الابن المتساوي مع الآب. فبعضهم يواجه لاهوتًا ثالوثيًا يميل إلى الخضوع الدونيّ، أو مسيحانيّة قد تميل إلى الظاهرتيّة، بينما يقاوم آخرون أشكالًا من التماثليّة الثالوثيّة والتبنويّة. إنها المقاومة ذاتها التي نشأت من أطر الفكر القديمة والتي بانت، قبل عقود قليلة من مجمع نيقيا، في تعاليم آريوس: إذ لم يمكنه أن يتصور الابن الذي يولد ويموت، مختلفًا عن الآب، وفي الوقت عينه أزليًا ومن جوهره نفسه، دون أن يُضرّ ذلك بوحدة الله وتنزّهه، وأن لا يرتدّ على خلاص البشر.

92. هذه التحدّيات مفهومةٌ فهمًا تامًّا، لأنّها إنسانيّة للغاية. فهي تشهد، كما في صورة سلبيّة، على النور العظيم المذهل الذي أُلقِيَ على تصوّر الله والدعوة الإلهيّة للإنسان من خلال حقيقة يسوع المسيح، وعلى التحوّل المذهل أيضًا للفكر والثقافة الإنسانيّين الذي تجلّى في حدث الحكمة الناتج عنه. لا يُلغى شيء مما هو إنسانيّ، لكن الوصول إلى سعة حقيقة الله يستلزم كشف الله لنفسه، والنعمة التي وحدها تحوّل وترفع قدرات الإنسان وإنجازاته. هذا الأمر تتيح لنا مقاومة الهرطقات وأن نرى حقيقة مجمع نيقيا في كامل قوّته كحدثٍ يحمل في ذاته جدّةً فائقة القياس.

- الحدث الكنسيّ: مجمع نيقيا، المجمع المسكونيّ الأوّل

- الكنيسة متأصّلةٌ بطبيعتها وبنيتها في حدث يسوع المسيح

93. ليس مجمع نيقية حدثًا في تاريخ العقيدة وحسب، بل يمكن فهمه بحقّ على أنّه حدث كنسيّ، يُقابل مرحلة أساسيّة في مسار قيام بنية الكنيسة وتنظيمها. فعلى امتداد مسار طويل بعد مجمع نيقيا، أصبح "المجمع المسكونيّ" بمثابة منارة تهدي الكنيسة جمعاء في رسم توجّهاتها، واتخاذ قراراتها العقائديّة والتشريعيّة، ومكانًا تتحقّق فيه عمق الشركة وتُمارَس فيه السلطة العليا. فهل يمكن لنا أن نرى فيه، من جهة بنيته التنظيميّة، نقطة تحوّل توجّه مسيرة لحياة الكنيسة اللاحقة، على نحوٍ يُشبه ما يُمثّله قانون الإيمان النيقاويّ من جهة بلوغ الله (حدث يسوع المسيح) ومن جهة الفكر البشريّ (حدث الحكمة)؟ يكون ذلك الأمر صحيحًا فقط، إذا اعتبرنا المجمع المسكونيّ، ثمرةً وتعبيرًا كنسيًّا بامتياز عن حدث يسوع المسيح.

94. منذ بداياتها، كانت الكنيسة تعي انتمائها كامتدادٍ لشعب الله المختار، ذاك الشعب المدعوّ إلى الاجتماع (راجع تثنية ٥، ٢٢) ليحيا من التوراة المعلنة، ويقدّم العبادة للربّ إلهه. وهي تعتبر نفسها أيضًا "نسلاً مختارًا، وكهنوتًا ملوكيًّا، وأمّة مقدّسة، وشعبًا مقتنى ليُعلن مآثر إله إسرائيل " (١ بط ٢،٩). في سفر أعمال الرسل، تُعتبر الكنيسة الجماعة التي تميّز مشيئة الله، فيها الروح القدس هو الفاعل الرئيسيّ[149]، ويقودها رجال يواصلون دور الرسل الإثني عشر، "شهود القيامة" (أع ١،٢٢).

95. يتجلّى وعيّ الكنيسة هذا عند الآباء الأوائل، الذين يربطون بين بنية الكنيسة وعملها من جهة، وطبيعتها العميقة ودعوتها من جهةٍ أخرى. وهكذا، في مطلع القرن الثاني، يشدّد إغناطيوس الأنطاكيّ على أنّ الكنائس المحليّة المتعدّدة تعتبر نفسها متّحدة ومتضامنة كتعابير مختلفة لكنيسةٍ واحدة جامعة. أعضاؤها هم "سينودوسيّون" (رفاق الطريق)، حيث يُدعى كلّ واحد منهم إلى أداء دوره بحسب النظام الإلهيّ الذي يُرسّخ الوئام، والذي يتجلّى في الاحتفال الإفخاريستيّ. فمن خلال وحدتها ونظامها، تمجّد الكنيسة الله الآب في المسيح، سائرةً نحو وحدتها الكاملة التي ستتحقّق في ملكوت الآب. ويعمّق أسقف قرطاجة، كبريانوس، هذا التعليم في منتصف القرن الثالث، موضحًا الأساس المجمعيّ والأسقفيّ الذي يجب أن تستند إليه حياة الكنيسة: لا يتحقّق أمرٌ بدون الأسقف (nihil sine episcopo)، وفي المقابل، لا يتحقّق أمرٌ بدون "مشورتكم" (أي مشورة الكهنة والشمامسة) ولا بدون موافقة الشعب(nihil sine consilio [150]vestro et sine consensu plebis). الوحدة المرتبطة بوحدة الثالوث، واستلهام الروح القدس، والسير معًا نحو الملكوت، والأمانة للعقيدة وتعاليم الرسل واحتفال الإفخارستيّا، والنظام والوئام بين الخدّام المرسومين والمعمّدين، مع دورٍ خاصّ للأساقفة: كلّ هذه العناصر تُظهر أن الكنيسة، لا سيّما في بنيتها ونشاطها، متأصّلةٌ بعمق في حدث يسوع المسيح، أي أوانه والتعبير المتمّيز عنه. عندما نحتفل بمجمع نيقيا، إنّما نحتفل بالمسيرة السينوديّة التي سبقته، والتي تبلغ ذروتها في المجمع المسكونيّ، ولذلك نحن نستلهم مجمع نيقيا ونحييه بالاحتفال بذكراه.

تعاون المواهِب في بينة الكنيسة سبيلٌ نحو نيقيا

96. إنّ العناصر اللاهوتيّة المرتبطة بطبيعة الكنيسة، والتي لا يمكن أن تنبع إلا من حدث الوحي، قد تجلّت في المسيرة التاريخيّة التي قادت إلى المجمع المسكونيّ في نيقيا، من خلال تفاعل ثلاثة مواهب في مجالات التدبير، والتعليم، والقرار الكنسيّ الجماعيّ: أولاً، الرتب أو الرسامات الثلاث (الأسقف، والكاهن والشماس)، ثم التعليم، وأخيرًا السينودس. ويبدو أنّ ترتيبًا من حيث الأسبقيّة، يضع الرسل في المقام الأول، كما يتبيّن بوضوح في مجموعة نصوص القديس بولس: "وقد أقام الله في الكنيسة أولًا رسلًا، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلّمين..." (1 كور 12: 28؛ راجع أيضًا أف 4: 11). إنّ خصوصيّة الموهبة الأولى قامت بتطوّر الرتب الثلاث تدريجيًّا، وهي رتب الأساقفة والكهنة والشمامسة. فقد كانت هذه التراتبيّة، خلال المئة والخمسين سنة الأولى من تاريخ المسيحيّة، تُشرف على الأنبياء والمعلّمين الجوالين – الذين كانوا يُسمَّون غالبًا "رسلًا" بالمعنى العام – ثم ما لبثت أن حلّت محلّهم جزئيًا، وتحوّلت إلى بنية الكنيسة التظيميّة أو الإداريّة. وتُعبّر خدمة الأسقف، على وجه الخصوص، عن البُعد الرسولي للكنيسة. وابتداءً من القرن الرابع، قامت أبرشيات كنسيّة كتعبيرٍ عن الوحدة بين الكنائس المحليّة ومجال تعزّزها، وأُقيم ميتروبوليتٌ على رأس كلّ منها.

97. بما أنّ المسيحيّين مدعوّون إلى إعلان المسيح ونقل تعاليمه وتعاليم الرسل إلى جميع الأمم، فلا عجب أن تتمثّل الخصوصيّة الثانية للمسيحيّة، في الفترة التي سبقت مجمع نيقيا، في دور المدارس والمعلّمين المهمّ، لأنّهم كانوا يلقّنون التعليم للموعوظين، ويفسّرون الكتب المقدسة. وكانوا خدامًا مُرسومين وأحيانًا غير مُرسومين. فعلى سبيل المثال، علّم بيلاجيوس في روما في بداية القرن الخامس قبل أن يُرسّم كاهنًا، وكذلك فعلت الحاجة ميلانيا وروفين في أورشليم، وإيرونيموس في بيت لحم ثم في روما. وأوريجانوس نفسه ترأس مدرسة الإسكندرية بعد وفاة أبيه ليونيداس، وذلك قبل رسامته.

98. ٩٨. أخيرًا، في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث، ولا سيّما في آسيا الصغرى، بدأ السينودس يحتل مكانة متعاظمة في البتّ في قضايا مهمّة تتعلق بالانضباط والعبادة والتعليم. في البداية، كانت السينودات محليّة، لكن إرسال الرسائل السينودسيّة التي تُبلّغ قراراتها (المحاضر) إلى الكنائس الأخرى، وتبادل الوفود، وطلبات الاعتراف المتبادل، تدلّ على "القناعة الراسخة بأنّ القرارات المتخذة تعبّر عن الوحدة بين جميع الكنائس"، باعتبار أنّ "كل كنيسة محلّيّة هي تجلٍ للكنيسة الواحدة والجامعة"[151]. وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ السينودس كان يتمتّع بصفةٍ قانونيّة وكنسيّة بيّنة، بصفته مؤسّسة تشريعيّة. وتُجمع الوثائق ومجموعات القوانين السينودسيّة في المحفوظات الأبرشيّة، ولا سيّما في روما؛ وقد جرى تطوّر القانون الكنسيّ وتطوّر السينودات جنبًا إلى جنب بالتكامل بعضهما مع بعض. ولا يجوز نسب التحوّل إلى الكنيسة المؤسّسة على الطراز الحكوميّ إلى تشريع قسطنطين لها فقط. فباعتبار الكنيسة هي أيضًا "حاضرة"  أو مدينة، تعكس مدينة الله، أورشليم السماويّة (راجع إش 60 و62؛ 65، 18؛ رؤيا 3، 12؛ 21، 1-27)، أو باعتبارها "سينودوس" بالمعنى الحرفيّ لشعبٍ يسير معًا على الطريق وراء يسوع نحو الملكوت، أي مع يسوع في مقدمتهم ، كمتقدّم عليهم (πρόεδρος) ورئيسهم، فإنّها تتصف بالضرورة بأنّها مؤسّسة وتُعنى بأمور : "السياسة" أي الخير العام[152].

99. لقد تطوّرت المواهب الثلاث الآنف ذكرها،كلٌّ منها على نحوٍ خاصّ ومتميّز في حياة الكنيسة، غير أنّ أياًّ منها لم يكن مفصولًا أو مستقلاً عن الآخرين. وعلى الرغم من أنّ توتّرات قد نشأت طبيعيًّا بينها وفي داخل كلٍّ منها، فقد كانت تغتني وتتفاعل وتتقوّى بعضها ببعض. كان المعلّمون يشاركون غالبًا كأعضاء في السينودسات. وكذلك، فإنّ الأساقفة كانوا منذ البداية معلّمين ومبشّرين، على مثال إغناطيوس الأنطاكيّ. فمن البديهيّ إذن أن يرأس الأساقفة السينودسات، وأن يكون لهم فيها دورٌ أساسيّ بصفتهم حرّاسًا لصحّة الإيمان والمسلك. بالإضافة إلى ذلك، في أداء مَهمّته الأسراريّة، كان الأسقف يترأس الاحتفال الإفخارستيّ الذي يفتتح كلّ سينودس ويختتم أعماله، باعتباره المصدر والقمّة لمسيرة "السير معًا" التي يعبّر عنها مصطلح سينودوس نفسه[153]،كعلامة لتقبّل قرارات المجامع، ولاعتلان الشركة بين المؤمنين وأساقفتهم الذين ثبتوا في الخلافة الرسوليّة داخل الكنيسة الجامعة، أي كنيسة الله الواحدة والوحيدة. كانت الإفخارستيا تُظهِر وتُحقّق بصورة ملموسة الانتماء إلى جسد المسيح، والانتماء المتبادل بين المسيحيّين (راجع 1 كور 12، 12)[154].

100. لا تظهر هذه العناصر الإنف ذكرها في مسيرة قيام بنية الكنيسة وتجذّرها في حدث يسوع المسيح وحسب، بل أيضًا في نوع من التشابه بينها وبين الحدث المسمّى "حدث الحكمة" الذي تم تحليله أعلان. فكما أن الفكر البشريّ، وقد تجدّد بعمق بفعل حدث يسوع المسيح، يحتضن الثقافات البشريّة ويحوّلها، ولا سيّما انطلاقًا من اللقاء بين الفكر الساميّ، الذي عمل فيه الوحي من الداخل، والثقافة اليونانيّة وثقافات أخرى، كذلك، نشأت الأبعاد الثلاثة أو المواهب الثلاث في آنٍ واحد بالاستناد إلى المؤسّسات اليهوديّة والنماذج المحليّة لمؤسّسات يونانيّة-رومانيّة في القرون الأولى من عصرنا، سواء أكانت مدنيّة أم دينيّة. فمن جهة، كان لليهوديّة في زمن الهيكل الثاني تسلسلٌ كهنوتيّ هرميّ، ومدارس، ومجامع (سينودسات). ومن جهة أخرى، ونظرًا إلعدم وجود مدارس مسيحيّة خاصّة آنذاك، كان المعلّمون المسيحيّون، في الغالب، قد نالوا تنشئتهم كمفوَّهين ومفسّرين ضمن النظام التربويّ العام في العالم اليونانيّ-الرومانيّ (enkyklios paideia)، وقد استعانوا بالبلاغة والفلسفة، وأسهموا في إدخالهما ضمن تراث التعليم المسيحيّ. أما السينودس أو المجمع، فكان هو أيضًا مؤسّسة قديمة في العالم اليونانيّ-الرومانيّ، قبل أن يمنحه المسيحيّون دورًا بارزًا. غير أن هذه الأبعاد كلّها تكتسب طابعًا خاصًا، ومُتجلّيًا – إن صحّ التعبير – عندما توضع في خدمة رسالة الكنيسة: إعلان الإنجيل، والتجلي كعلامة فعّالة لوحدة الجنس البشريّ.

- مجمع نيقيا المسكونيّ

101. في عام 325، عُقد في نيقيا مجمعٌ يعتبر من جهة، تتتويجًا لمسارٍ سابق، ومن جهة أخرى، صيغةً استثنائية له1ا المسار، نظرًا لطابعه المسكونيّ الشامل. فقد دعا إليه الإمبراطور من أجل حلّ نزاع محليّ كان قد امتدّ إلى جميع كنائس الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة وإلى عدد كبير من كنائس الغرب. وقد جمع هذا السينودس أساقفة من مناطق متعدّدة من الشرق، إلى جانب مندوبين من أسقف روما. وللمرة الأولى، اجتمع في سينودس واحد أساقفة من كلّ المسكونة (οἰκουμένη). فأُعلنت عقيدته وأنظمته القانونيّة على أنّها ملزمة للكنيسة جمعاء. لقد صارت الشركة والوحدة العظيمة التي أتى بها حدث يسوع المسيح في الكنيسة مرئية وفاعلة بطريقة جديدة، من خلال بنية ذات طابع جامع، كما أنّ إعلان البشارة بيسوع المسيح في كل سعتها قد حصل بدوره على أداة ذات سلطة ونفوذ غير مسبوقين: في مجمع نيقيا، تمّ التعبير للمرة الأولى عن  السلطان (ἐξουσία) الخاصّ بالربّ القائم من بين الأموات على مستوى مؤسّسة عالميّة، من خلال الممارسة السينودسيّة لخدمة الأساقفة، هذا السلطان الذي يقود ويرشد، بالروح القدس، مسيرة شعب الله. وقد تحقّق مثل هذا الاختبار في المجامع المسكونيّة اللاحقة في الألف الأوّل، والتي بانت من خلالها بصورةٍ واضحة المعايير لتحديد هويّة الكنيسة الواحدة والجامعة[155].

102. ترسّخت في لقاء نيقيا فكرة المجمع أو السينودسّ المسكونيّ. وعلى الرغم من أنّ أياً من وثائقه أو محاضره (acta)لم يُحفظ، على الأرجح، وعلى الرغم من بطء عملية تقبّله وصعوبتها، فقد بقي إعلان عقيدة "من جوهر الآب نفسه" والقرارات الأخرى ثابتة، بعد عملية التقبّل الطويلة هذه – وهي سِمة سترافق كلّ مجمعٍ لاحق – أصبح مجمع نيقيا في أذهان الكثيرين النموذج المثاليّ لكلّ مجمع في الكنيسة. وقد ساعد توصيفه التقليديّ كمجمع موحِّد وملهم من الروح القدس في اعتباره مجمعًا مرجعًا في التقليد اللاحق، ممّا أدى تدريجيًا إلى نشوء اعتبارٍ كبيرٍ لدى المسيحيّين للمجامع المسكونيّة. لقد فتح مجمع نيقيةا الطريق أمام المجامع المسكونيّة التالية، وكذلك أمام نمطٍ جديد من الممارسة السينودسيّة أو المجمعيّة، طبع حياة الكنيسة إلى يومنا هذا، سواء في مسألة تعريف الإيمان وإعلانه، أو في إظهار وحدة المسكونةالتي تمثّلت فيه.

الفصل الرابع: الحفاظ على الإيمان في متناول جميع أبناء شعب الله

- تمهيد : مجمع نيقيا وشروط مصداقية السرّ المسيحيّ

103. إنّ الفكرة الأولى الصحيحة التي نحتفظ بها عن مجمع نيقيا مفادها أنّه مجمعٌ عقائديّ دافع عن وديعة الإيمان ( fides quae)في بعديها الخريستولوجيّ والثالوثيّ، وعبّر عنها بدقّة. لكنّنا في هذا الفصل الأخير نريد أن نُبيّن كيف أنّ حدث المجمع قد أسهم أيضًا في بلورة ترتيب المؤسّسة ترتيبًا خاصًّا داخل الكنيسة الواحدة الجامعة، بغية معالجة النزاع العقائديّ ضمن شروط تتيح قبول قراراته وتمثّلها. لذا، ينبغي أن نستكمل الإنجاز العقائديّ والتاريخيّ بفحصٍ لاهوتيٍّ أساسيّ. فوديعة الإيمان، أي الحقيقة الخلاصيّة، هي التي تولّد التمسّك بالخلاص، أي فعل الإيمان أو الاستجابة الشخصيّة (fides qua)؛ غير أنّه، في نيقيا، وُضع هذا الفعل نفسُه في خدمة استقبال وديعة الإيمانوفهمها. أمّا النظر في مسارات الفعل الإيمانّي،أي في شروط تحديد واستقبال وديعة الإيمان، فيقوم انطلاقًا من طبيعة الكنيسة ودورها. ومن البديهيّ إذن أنّ ابتكار هذا تنظيم المؤسّسة قد تمّ بشكل تدريجيّ، "ولم يخرج كاملاً متسلّحًا كما خرجت أثينا من رأس زيوس". بكلامٍ آخر، نقول إنّ المفهوم العقائديّ لــ"المجمع المسكونيّ" لم يكن معاصرًا تمامًا لحدث سنة 325. كما شرحنا في الفصل الثاني، الموضع الأمثل الذي يلتقي فيه الإيمان كفعلٍ شخصيّ بوديعة الإيمان هو المعموديّة، التي فيها يُدمَج الفرد في إيمان الكنيسة الذي يتلقاه من الكنيسة الأمّ. وفي سياق المعمودية والتنشئة عل الإيمان إعدادًا للعماد، صاغت الكنيسة الأولى قاعدة الإيمان باعتبارها خلاصة جوهريّة ومركزة لمضمون الإيمان. ونظرًا لأهميتها، استُخدمت هذه القاعدة كمعيارٍ لتمييز الإيمان الحقيقيّ من الهرطقات، كما يظهر في كتابات إيريناوس، وترتليانُس، وأوريجانًس، على سبيل المثال. وتعدّ هذه القاعدة تمهيدًا للموقف العقائديّ الذي يرى في قانون الإيمان خلاصةً ومعيارًا لعناصر الإيمان. إنّ هذا الوعي بوجود معيار (regula) كان حاضرًا في المجامع قبل مجمع نيقيا، الذي سعى إلى التمييز في الإيمان والحفاظ على نقائه.

104. إنّ التأمّل في اختبارات المجامع الإقليميّة والمحليّة المتعدّدة في القرنين الثاني والثالث، يتيح لنا تأييد الأطروحة العقائديّة التي ترى بأنّ هنالك حقيقة كنسيّة قائمة بذاتها، اعتُبرت منذ البدء نافذةً وفاعلة، وقد استُخدمت لمعالجة إشكالية تتعلق بحقيقة طبيعة ثالوث الأقانيم والخريستولوجيا والخلاص، والتي كانت مهدّدة بالتحريف أو التشويه، بل وأيضًا الفقدان الكامل. إنّ مسارات فعل الإيمان أو الاستجابة الشخصيّة  تكشف طبيعة الكنيسة. فكلمة الله  الذي صار جسدًا (يوحنّا ١، ١٤) قد كشف لنا سرّ الآب حقًّا، وهذه المعرفة، بقوة الروح القدس، أُودعت الكنيسة، المكلّفة بالحفاظ عليها ونقلها. وهذه المَهمّة تفترض أن الكنيسة قادرة على تفسير الكتاب المقدس بسلطة تعليميّة. وهذا يبيّن أيضًا أنّ الإيمان بالكنيسة – كما يتمّ الاعتراف به في قانون الإيمان – وبسلطتها في تحديد العقيدة المسيحيّة والثالوثيّة، إنما يرتكز على فعل الإيمان بيسوع المسيح وبالثالوث، في شكل من أشكال "الأسبقيّة" أو "العلّيّة المتبادلة"، بحسب التعبير التومائي المبارك[156].وأخيرًا، لا بدّ من التنبه إلى الهدف الأسمى من هذه الإجراءات الكنسيّة برمّتها. فنحن نفترض أنّ الآليات المجمعيّة قد وُضعت في خدمة الصغار، وفي خدمة إيمان الأطفال، ذلك الإيمان الذي يقدّمه الرب يسوع  كنموذج لإيمان التلميذ الحقيقيّ، ومن ثمّ كأداة لإعلان الإنجيل لجميع البشر. وهذا ما يضيء على معنى التعليم ذات السلطة في الكنيسة، بوصفه تعبيرًا عن محبّة راعويّة تبغي أيضًا حماية "الصغار" بين "إخوة" المسيح (راجع متى 25، 40).

- اللاهوت في خدمة الحقيقة الخلاصيّة بتمامها

- المسيح : الحقيقة الفا علة في منظورها الإسخاتولوجيّ

105. بما أنّ مجمع نيقيا قدّم حقيقةً تتعلّق بمسألة الخلاص وبتمييزها عن الضلال، فإنّ الرهان الأول لهذا المجمع، يتمثّل من المنظور اللاهوت الأساسيّ، في مقام الحقيقة ضمن علم الخلاص. وتنبع هذه القناعة، أولاً، من شكل الوحي ذاته، الذي، إذ يسمح بنقله إلى كلمات مدوَّنة، يُظهر أن بُعد الحقيقة عنصرٌ تأسيسيّ في هذه الكلمات. يفترض الإيمان المسيحيّ أن تكون حقيقة المسيح في متناول تلاميذه. ذلك أنّ المخلّص هو نفسه الحقيقة: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14، 6). في المسيحيّة، الحقيقة شخص، ولم تَعُد مسألة منطق أو استدلالات، وهي عصيّة على الامتلاك وغير منفصلة عن الصفات الأخرى التي تُنسب إلى شخص المسيح نفسه، كالخير والعدل والمحبّة. ولكن على الرغم من ذلك، يتطلّب الانتماء إلى المسيح دومًا عقل التلميذ وفهمه : "أؤمن لأفهم" (Credo ut intelligam)[157]. لا يمكن ولا يُعقل أن يفترض أحدهم بأنّ الله، خالق الإنسان العاقل والحرّ، وهو أحد عناصر الخليقة على صورته وشبهه (تك 1، 26-27)، بصفته إلهًا مخلّصًا، قد يتجاهل أو يغفل عن توفير إمكانية الوصول إلى معرفة حقيقته والحقيقة الخلاصيّة. أضف إلى ذلك، أنّ حقيقة الخلاص هذه تحمل بُعدًا جماعيًّا. إنّ مجمع نيقيا فعلٌ جماعيّ لتجسيد الحقيقة، يهدف إلى نقلها للكنيسة جمعاء. فليس من  المنطق ولا يليق أن نفترض أنّ خالق الأسرّة البشريّة، خصوصًا بعد أن منحها قدرة التواصل المعنويّ، من خلال تعدّد اللغات (كما يتجلّى في قصة برج بابل بسفر تك 11، 1-9، وفي حلول الروح القدس في عيد الخمسين بحسب أع 2، 1-11)، قد يتغافل أو يتهاون في تمكين هذه الجماعة من بلوغ معرفته وحقيقة خلاصه. ومن ثمّ، فإنّ تفكك وحدة الإيمان يقوّض قوّة الخلاص بيسوع المسيح وفاعليّته.

106. هذه المكانة الأساسيّة للحقيقة في سرّ الخلاص تنعكس على طبيعة الكنيسة ذاتها بوصفها "حاملة الحقيقة". فهي تحمل في ذاتها آخرًا غيرها، وهو المسيح-الحقيقة، ولا يمكن لها أن تكون ذاتها بدونه. فالكنيسة، من حيث أصلها، هي موضع للبحث والاكتشاف والحماية والانطلاق للحقيقة المكتملة في الكلمة، لفائدة تلاميذها سواءٌ على الصعيد الشخصيّ أو الجماعيّ ولكل البشر. كما أنّها فضاء للتواصل مع قوّة هذه الحقيقة المحيية التي تنبض فيها، والتي تُغذي أيضًا البحث عن الحقيقة في العالم، وفي فكره وثقافته[158]. إنّ التقليد (التسليم) المحيي للحقيقة الخلاصيّة إنّما هو أحد أبرز المعاني التي يمكن أن يتخذها المفهوم العقائديّ لتقليد الكنيسة[159].

107. تُبيّن المكانة المركزيّة للحقيقة في الكتابات المقدسة الرفض العميق لعبادة الأوثان. فالله القدوس إسرائيل هو إلهٌ ناطقٌ، على عكس الأوثان. كما جاء في المزامير: "لها أفواه ولا تتكلّم" (مز 115، 5 و135، 15)، وورد هذا المعنى أيضًا في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس: "تعلمون أنّه عندما كنتم وثنيّين، كنتم منجرّون إلى الأوثان البكم بلا هدى" (1 كور 12، 2). أضف إلى ذلك، أنّ حقيقة الله وقدرته وعدله وقداسته في الكتاب المقدس، لطالما ارتبطت بتأكيده على وهب الخلاص الحقيقيّ والشامل، في حين تقتصر الممارسات الوثنيّة على تقديم هبات جزئيّة ومحليّة. وبما أنّ المسيح هو الشخص الذي جاء من الله، وهو الله والربّ بذاته (انظر يو 13،  14)، فلا بدّ من قبول حقيقة الخلاص، في حين أنّ عبادة الأوثان تولّد الإله من الإنسان. إنّ استحالة تشكيل الله على شكل صنم (انظر السخرية في سفر الحكمة 13، 11-19) تشير إلى مفهوم الكشف الإلهيّ، الذي يقف في تناقض صارخ مع فكرة التحقيق الذاتيّ التي تتكرر كثيرًا في العروض الدينيّة، حتى القديمة منها، كما تشهد على ذلك الغنوصيّة التي وصفها إيريناوس بالهرطقة، وسمّاها "المعرفة بالاسم الكاذب." الغنوص "يكذب"، لأنّه يناقض جوهر الحقيقة الخلاصيّة، حقيقة تأتي من الله وتُقبل بحريّة في المحبّة. على العكس من ذلك، تستدعي الكلمة الإلهيّة المتجسّدة فعل الإيمان على المستويين الكنسيّ والشخصيّ باعتبارها قبولاً بالروح القدس، بالعقل وبكامل الكيان، لأسرار الخلاص: "أنتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم لأنّ الخلاص يأتي من اليهود". (يو 4، 22). وفي نهاية المطاف، يسوع هو كلمة الله المرسلة إلى العالم بمَهمّة الكلمة، كلمة الحقيقة الكاملة التي تتطلب تقبّل الإيمان من الإنسان. ولهذا، فهي حقيقة خلاصيّة فاعلة في آخر الزمان: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23، 43). إنّ اختيار مجمع نيقيا التعبير بمصطلحات عن حقيقة خلاصيّة شاملة للجميع، ليتمّ  قبولها بالإيمان، أمانةٌ ليس فقط لوديعة الإيمان، بل وأيضًا للعلاقة الشخصيّة مع الحقيقة التي هي المسيح نفسه.

- الخلاص ومسيرة الدخول في البنوّة الإلهيّة

108. لا بدّ لنا من أن نفهم الحقيقة الخلاصيّة بأبهى معانيها، أي بمعناها الكيانيّ، دون أن تدّعي تقديم فهم شامل ينال من سرّ الخلاص بصفته سرًّا. فإنّها مع ذلك تفتح السبيل إلى الدخول في حقيقة البنوّة والأبوّة الإلهيّتين عينها. لقد شاء إله الحقّ، إن صحّ التعبير، أن يضع البشر أمام محكّ الادّعاء غير المسبوق ببنوّة ابنه الوحيد يسوع. وهكذا تتركّز الحقيقة التي كشفها الله في حقيقة "ابنه" الوحيد. هذا المصطلح لا يقتصر على كونه استعارة أو مجرّد تشبيه، لأن ما هو استعارة هنا ينفتح من تلقاء ذاته على الحقل الأنطولوجيّ، كما أن القانون المشترك (symbolon)، أو "اعتراف الإيمان"، بمعناه الأسمى، يمنح وصولًا حقيقيًّا وفعّالًا إلى الحقيقة التي يدلّ عليها. إنّ شهادة الآب لابنه يسوع هي التي تؤسّس لهذه الحقيقة:  "إذا كنّا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم وشهادة الله هي أنّه شهد لابنه." (١ يو ٥، ٩). ثم يضيف الكاتب: "ومن لم يصدق الله، جعله كاذبا" (١ يو ٥، ١٠). كان التعليم المسيحيّ الأول يعبّر عن هذا اليقين الداخليّ بفعل الإيمان المسيحيّ من خلال عباراتٍ بسيطة ومباشرة: "الله الذي لا يمكن أن يخطئ ولا أن يضلّلنا"[160]. حيث نجد تردّدًا لصدى أقوال توما الأكوينيّ الخاصّة[161]. وهكذا تتأكّد شرعيّة الخيار الأنطولوجيّ لمصطلح نيقيا المبتكر: "من جوهر الآب"، الذي جاء ليطوّر ويوضّح المصطلحات الكتابيّة والليتورجيّة. وقد رأينا في الفصلَين الأول والثالث أنّ تأكيد الحقيقة الأنطولوجيّة لبنوّة يسوع الإلهيّة يجد سنده في الانقلاب السريّانيّ للعلاقة بين الأبوّة والبنوّة، وبين الإلهيّ والإنسانيّ: فالأبوّة البشريةّ الأرضيّة أصبحت لقبًا ثانويًّا مشتقًّا من النموذج الأصليّ، أي الله الآب (راجع أف ٣، ١٤؛ متى ٢٣، ٩). هذه هي حقيقة البنوّة الإلهيّة التي يُدعى المؤمن إلى الدخول فيها، والتي تقوم عليها حقيقة البنوّة الناتجة عن المعموديّة[162]. إنّ خلاص الإنسان، بحسب إنجيل يسوع، يعني الدخول في الحقيقة الكاملة للبنوّة، تلك البنوّة المدرَجة تحت بنوّة المسيح الأزليّة.

- وساطة الكنيسة وإعادة ترتيب التسلسل العقائديّ: الثالوث، سرّ المسيح، سرّ الروح القدس، وسرّ  الكنيسة

-  الوساطة في الإيمان وفي خدمة الكنيسة

109. هذه الحقيقة الخلاصيّة والفاعلة قد تمّ توضيحها ونقلها في مجمع نيقيا من خلال تفسير النصوص الكتابيّة، ومن خلال مصطلحات مستقاة من الترانيم الليتورجيّة ومن الفلسفة، كلّ ذلك في إطار ممارسة عقل الإيمان. في الحقيقة، إنّ معظم تدبير الوحي الكتابيّ يشهد بأنّه لا ينبغي بأيّ حال من الأحوال اعتبار قوة الاقتناع بالحقيقة المسيحانيّة على طريقة الأصوليّة المتشدّدة، التي تفترض أن معنى الكتابات المقدسة متاحٌ بشكل فوري ومباشر. ذلك أنّ التقليد التفسيريّ للعقائد الكنسيّة، وبحث اللاهوتيّين، يُظهر، على العكس تمامًا، أنّ الإيمان يحتاج إلى وسائط كثيرة، بدءًا من الوساطة الأولى، الفريدة والأساسيّة، أي وساطة الابن الوحيد بإنسانيّته، التي نالها من مريم. لقد رتّب الله، في تدبيره الخلاصيّ، أن تنطلق حقيقتُه الإلهيّة الفائقة الوصف نحو البشريّة، عبر وساطة كلمته المتجسِّد: "هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا" (متى ١٧، ٥؛ راجع أيضًا ٣، ١٧). بالإضافة إلى ذلك، تدعو الفنون الأدبيّة المتنوّعة للتعبير عن الوحي التي لجأن إليها الكتب المقدسة، إلى اعتماد أنماط تفسيريّة متعدّدة[163].إنّ قانون الإيمان، الذي وُلد في سياق ليتورجيّ، ويُعلن في الاحتفال الليتورجيّ، يشهد أيضًا على أنّ الوساطة التفسيريّة لا تقتصر على شرح النصوص، بل تتمّ من خلال "الأفعال والأقوال" أي حيث يُعاش الإيمان ضمن جماعة صلاة ونعمة[164]. وهذا ما نقرأه في رواية لوقا 24، حيث إنّ القائم من بين الأموات لا يكتفي بتفسير الكتب – الناموس والأنبياء – بل يهب ذاته حضورًا وعيشًا في كسر الخبز، في العطاء الإفخاريستيّ، كما أوضح البابا بندكتس السادس عشر في الإرشاد الرسوليّ "كلمة الله" (Verbum Domini).إنّ الكلمة والإفخاريستيّا مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا إلى حدٍّ لا يمكن فيه فهم إحداهما دون الأخرى؛ فالكلمة الإلهيّة تتجسّد سرّيًا في الحدث الإفخاريستيّ. وتُتيح لنا الإفخاريستيّا فهمًا أعمق للكتاب المقدس، كما يضيء الكتاب المقدس ويشرح بدوره السرّ الإفخاريستيّ. في الحقيقة، من دون الاعتراف بالحضور الحقيقيّ للربّ في الإفخاريستيّا، يبقى فهم الكتاب المقدس ناقصًا.[165]

110. إنّالارتباط المنظَّم للأسرار، كما يظهر في اللاهوت العقائديّ، يمكن تقديمه بشكل مفيد في اللاهوت الأساسيّ. ذلك أنّ الدخول في سرّ الكنيسة، الذي يُعدّ "السرّ الأشد صعوبةً في الإيمان"[166]، يشكّل النقطة التي تنطلق منها أسرار الإيمان المسيحيّ العميقة، وهي الأسرار التي تعتمد عليها الكنيسة نفسها منطقيًّا وكيانيًّا في آنٍ واحد. فالكنيسة هي الجهة الأولى المسؤولة عن إقامة نظام المصداقيّة لمسيرة الإيمان. ومن البديهي وجود ترتيب أو "هرميّة" لحقائق العقيدة الكاثوليكيّة، يتماشى مع تفاوت علاقاتها بأسس الإيمان المسيحيّ[167]. فالعقيدة الخريستولوجيّة، وعقيدة الثالوث الأقدس، والخلاص التي يعلنها قانون الإيمان، تُشكّل الأساس المتين. غير أنّ هذا الأساس يُفهم ضمن الترابط العضويّ العميق بين أسرار الإيمان. وتنير القراءة المجمعيّة، بحسب موضعها ودورها المميّز، مشاركة الكنيسة هذه في عمل الخلاص.

- المجمعيّة والاختلافات

111. تتجلّى العمليّة التفسيريّة التي تمارسها الكنيسة من خلال إصدار الأحكام والقرارات، ولا سيّما في مواجهة الخلافات أو عند الحاجة إلى تأويل النصّّ المقدس. ويشهد "مجمع أورشليم"، في سفر أعمال الرسل (15الفصل) للمرّة الأولى على وجود خلاف عقائديّ يتعلّق بعلاقة تلاميذ المسيح القادمين من  الأمم بالشريعة الموسويّة، وخلاف عمليّ حول مسائل أخرى مثل الختان، وذبائج الأصنام، والسلوك غير اللائق. كان هذا الخلاف مصحوبًا بتوتّر وصراع، وتمّت تسويته عبر الإجماع الكنسيّ، وذلك بعد تمحيص دقيق أجراه مجمع "الرسل والشيوخ مجتمعين" (أع 15، 6). ويتَّضح  من هذا المثل مسار تدريجيّ: نلاحظ في البداية توالي شهادات موثوقة، أدلى بطرس وبولس وبرنابا ويعقوب، استُقبلت في جوٍّ من الإصغاء المتبادل[168]. ثمّ الاستناد إلى سلطة موسى، تلاه تعيينُ رسل موكَّلين رسميًا، في مواجهة أولئك الذين تصرّفوا من دون تفويض (أع 15، 24). وأخيرًا، كتابة رسالة ذات طابع توجيهيّ، سلّمت رسميًا إلى جماعة أنطاكيا (أع 15، 30–31)، التي التأمت بناءً على دعوة من هؤلاء الرسل الموكَّلين. الجميع أطراف فاعلون، إذ إنّ المسألة عُرضت على الكنيسة بأسرها في أورشليم (أع 15، 12)، التي كانت حاضرة خلال عمليّة التمييز الكنسيّ، وكانت أيضًا مشاركة في اتخاذ القرار النهائيّ (أع 15، 22) [169]. إن العلامة الدالّة على هذا البُعد الجماعي هي أنّ الرسل أُرسلوا اثنين اثنين (أع 15، 27). أما العنصر الجوهريّ في سياق تأمّلنا، فهو أنّ الكنيسة، وهي تنعم بمعونة الروح القدس، وتعمل وفق نهجها، تعتمد على حسّ الإيمان لدى المؤمنيSensus fidei fidelium، وإلى السلطة الخاصّة بالرسل، التي تقيم الكنيسة بصفتها سرًّا حيًّا وفعّالًا، كإطارٍ تطوّر فيه التمييز العقائديّ بين تلاميذ المسيح المنحدرين من الشعب اليهوديّ وأولئك الآتين من الأمم، بخصوص ممارسة الشريعة الموسويّة. وقد تمّ التحكيم الإيمانيّ في هذه المسألة التي تطال قصد الله الخلاصيّ الشامل، أي دخول الأمم في سرٍّ أُعلِن أولًا لإسرائيل، من خلال تبادل حيّ بين فعل الإيمان ووديعة الإيمان، في قلب سرّ الكنيسة الديناميّ أو الحيّ.

112. منذ الأزمنة السابقة لتجسّد الكلمة، كان الشعب المختار يواجه مشكلة مشابهة، لا من أجل حفظ الوحي فحسب، بل خصوصًا من أجل نشره في شتات إسرائيل، وبين الشعوب التي يُسمّيها العهد الجديد "الدُخلاء" (متى 23، 15؛ أع 2، 10 و6، 5)، و"الذين يتّقون الله" (أع 10، 2)، وهم من أصل وثنيّ. إنّه ذلك الخيار الأساسيّ الذي تضيع أصوله الحقيقية في طيّات الأساطير، كما تشهد على ذلك رسالة أريستاس أو التلمود – سفر السوفرِيم (1، 7)، والذي أتاح ترجمة الكتاب المقدّس الخاصّ بالشعب اليهوديّ من العبريّة إلى اليونانيّة، ممّا أدّى إلى ظهور النسخة الإسكندرانيّة المعروفة بالترجمة السبعينيّة. ذلك أنّ هذه الترجمات، شأنها في ذلك شأن اللجوء لاحقًا إلى المصطلح المستحدث "من جوهر الآب"، قد استلزمت تحكيمات لغوية متعدّدة، من أجل أن لا تضيع حقائق النصّ الأصليّ، التي صيغت ضمن الحقل الدلاليّ للّغة الساميّة، عند نقلها إلى الحقل الدلاليّ للّغة هندو-أوروبيّة.

113. هذه التحكيمات بيّنت جوهر الكنيسة ذاتها، أتاحت إدراكًا أعمق لمعنى السلطة التعليميّة التي تمارسها. فالكنيسة هي حقًّا نعمة متجذّرة في التاريخ، تُشكّلها وتحركها قوّة الروح القدس، ذلك الروح الذي أتمّ تجسّد الكلمة، ولا يزال يواصل عمله أي غرس المؤمنين في جسد المسيح السريّ، الذي يواجه أفراح التاريخ وفتنه وتقلّباته. تتمّ مَهمّة الكنيسة الخلاصيّة ليس فقط من خلال الوعظ وتعليم الكتب المقدّسة والاحتفال بالأسرار، بل أيضًا عبر السلطة التعليميّة التي يمارسها الأساقفة، خلفاء الرسل، في اتحادهم مع أسقف روما، خليفة بطرس. ليس القصد أن تكون حقيقة الإيمان تاريخيّة ومتغيرة، بل أن يشكّل الاعتراف بالحقيقة وعمق فهمها مَهمّة تاريخيّة للكنيسة الواحدة.  فالكنيسة لا تملك الحقيقة التي يختلقها الإنسان، لأنّ الحقيقة في جوهرها تعبير عن المسيح ذاته، بل هي تستقبلها وتستذكرها وتفسّرها. الإيمان في الكنيسة يعني مشاركة كلّ جيل في جهودها المستمرة نحو فهمٍ أعمق وأشمل للإيمان. إنّ واجب الأمانة لا يقتصر إذن على طاعة سلبيّة، بل يتعدّاها إلى الالتزام بمشاركة فعاّلة، ومسؤولية شخصيّة من قِبَل جميع التلاميذ، بدعم ورقابة السلطة التعليميّة الحيّة لمجمع الأساقفة. هؤلاء، إذا اتفقوا معًا، يمتلكون السلطة لاتخاذ قرار ملزم بشأن أمانة التفسير اللاهوتيّ للمصدر — المسيح والتقليد الرسوليّ-. لا تضيف السلطة التعليميّة شيئًا إلى الوحي المكتمل في المسيح، والمثبّت في الكتابات المقدسة، سوى توضيحات بشأن تطوّر العقيدة، إذ تمارس الكنيسة من خلالها دورها كمفسّر أصيل لكلمة الله في أفعال من الأمانة المبدعة للوحي[170]. "هكذا، يعود الحكم النهائيّ بشأن أصالة حسّ الإيمان لدى المؤمنين، ليس إلى المؤمنين أنفسهم ولا إلى اللاهوت، بل إلى السلطة التعليميّة"[171]. وتتمثّل السلطة التعليميّة العاديّة للأساقفة خلفاء الرسل في تعليمٍ مألوف ومستمر، يطوّر باستمرار التقليد الذي يسمّيه العهد الجديد "العقيدة السليمة" (2 تيم 4، 3). وبالمقابل، نادرًا ما تُمارَس السلطة التعليمية الاستثنائيّة، ولكنها تُفعَّل كلّما دعت الحاجة إلى اتخاذ قرار ذي طابعٍ عقائديّ يشمل الكنيسة كلها، ولا سيّما في مواجهة تحدٍّ يطرحه جزء معيّن من الكنيسة. هذا ما حدث بشكل بارز وواضح في المجمع المسكوني النيقاويّ.

-  دور ألسنة الروح القدس في تحقيق الإجماع وتجديده

114. في الحقيقة، كانت وظيفة الكنيسة الأولى وظيفةً روحيّة ترتكز إلى فعل الترجمة التأويليّة المستنيرة بالروح القدس. وهي تتحقّق في نطاق الترجمة، كما هو الحال في الترجمة السبعينيّة والترجوم، اللذين يسعيان إلى الأمانة للنصّ العبريّ، مع الانغماس الكامل في أساليب التفكير وعبقرية اللغتين اليونانيّة والآراميّة. يمكننا أن نفترض أن العمليّة ذاتها كانت حاضرة في ترجمة أقوال يسوع، التي نطق بها بالآراميّة، إلى اليونانيّة في الأناجيل. ويتعلّق الأمر هنا أيضًا بعمل التفسير الكتابيّ للنصّ المقدّس، وهو عمل بدأ مع المدراش وكتابات آباء الكنيسة الأوائل. لقد ازدهر هذا الحراك المزدوج في التبادلات الحيّة للمجمع المسكونيّ الذي تمّ الاحتفال به بإلهام روح العنصرة، حيث أتى المتكلّمون من العالم السريانيّ أو اليونانيّ أو القبطيّ أو اللاتينيّ، وأفضى إلى صيغ تعريفيّة قابلة بدورها للترجمة إلى لغات وتعبيرات أخرى. ها نحن نجد أنفسنا أمام وجهين متكاملين من الجرأة التي يمنحها الروح القدس. أولًا، الجرأة في عمق فهم الإيمان الذي أُعلن في نيقيا، من قِبل الذين يعلنونه بـ صراحةٍ وثقة وشجاعة روحيّة، ويقومون بذلك بفعاليّة من أجل خير شعب الله في بيئات العالم. وثانيًا، جرأة روحيّة من قِبل الذين يُصغون لهذا الإعلان، ويتقبّلونه بطاعة الإيمان[172]. هذا الحراك الروحيّ لا يعكس فقط طبيعة الكنيسة، بل يكشف أيضًا عن جوهر روح الحقّ ذاته، الذي "يُحيي الذكرى" بكلمات المسيح ويقود إلى "الحقّ الكامل" (يوحنا 16:13؛ راجع 14:26). وليس بمستغرب أن تمتد هذه المَهمّة الكنسيّة العميقة، التي تفترض عمل الأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس، من مسيرة تاريخ الخلاص إلى السرّ الأصيل للعلاقات المتبادلة في الثالوث، ومن التدبير الإلهيّ إلى جوهر الوجود الإلهيّ ذاته.

115. في هذه المهمّة الروحيّة التأويليّة، التي تقدّم مفهومًا جديدًا لم يكن معروفًا في الكتاب المقدس، وهو المصطلح المحوري "من جوهر الآب"، يجدر التنويه بأنّ السرديّات الكتابيّة والاستعارات الواردة في النصوص المقدسة لا تُلغى ولا تُمحى بفعل التأويلات النظريّة التي تُضيّق مضمونها وتُبرز جوهرها. فالتوضيحات العقائديّة لا تستمدّ قيمتها الحقيقيّة إلا إذا حافظت على جذورها الحيّة، المتجذّرة في التربة الكتابيّة الخصبة، وفي شركة الإيمان الليتورجيّ التي تغذّيها. وهذا ما يتجلّى بوضوح في نصّ قانون الإيمان. في لحظات الأزمات اللاهوتيّة، كما في زمن الجدل الأريوسيّ، حيث تبدو كلمة الله وكأنها تفسح المجال لتأويلات متباينة بشأن حفظ حقيقة الإيمان، كما في قول الرب: "لماذا تدعوني صالحًا؟ لا أحد صالح إلا الله وحده" (لو 18، 19)، تبرز الحاجة الملحّة إلى تدخّل الصياغة اللاهوتية التأمليّة لحسم الخلاف التفسيريّ. ومع ذلك، فإن تطوّر العقيدة، ولو اعتمدت على المصطلحات الجديدة، لا ينبغي أن تتجاوز مجرد كشف الحقائق الكامنة في لغة الوحي، كما فعل المسيح نفسه حين فسر مثل الزارع في إنجيل متى (13، 3–9؛ ثم 18–23). ومن هذا المنطلق، لا يمكن تجاهل أن المصطلحات العقائديّة الجديدة في تاريخ الكنيسة ،كانت قليلة العدد في المجمل، وأنها ارتبطت بنقاط حاسمة في سرّ المسيحيّة، مثل "المساواة في الجوهر"، و"الاتحاد الأقنوميّ" في الخريستولوجيا، وفي لاهوت الثالوث، من حيث "العلاقة القائمة بذاتها" و"الحبّ المتبادل بالإخلاء "، وكذلك مصطلح "الأقنوم"، لتجد معناها الخاصّ بالمسيحيّة في لاهوت الثالوث، والخريستولوجيا والأنثروبولوجيا.

-      السهر على وديعة الإيمان: بالمحبّة التي تخدم الضعفاء

-      إيمان شعب الله الواحد المقدَّم لجميع البشر

116. إنّ قانون الإيمان والقوانين التنظيميّة التي أقرّها مجمع نيقيا ليست مجرد أعمال كنسيّة تتعلق بالتفسير أو الترجمة أو إعادة الصياغة، بل تهدف أيضًا إلى "السهر على" وديعة الإيمان التي سلّمها الرسل" (راجع 1 تيم 6، 20). ويُمارَس هذا السهر، في جوهره، لصالح أولئك الذين هم في أمسّ الحاجة إليها. فكما أنّ مبدأ "من جوهر الآب"، يُعتبر في مجال وديعة الإيمان الأساس الراسخ للشراكة الروحيّة بالمسيح بين جميع البشر، بما في ذلك الصغار منهم وأضعفهم. كذلك، وعلى صعيد فعل الإيمان، فإنّ قرار المجمع بتبنّي اعتراف إيمانٍ موحّد يصون جميع التلاميذ دون استثناء ويحميهم. إنّ وضوح العقيدة يجعل الإيمان قادرًا على الصمود أمام قوى الثقافة الإقليميّة المطلقة والانقسامات الجيوسياسيّة، وكذلك أمام الهرطقة التي غالبًا ما ترتبط بصورةٍ من دهاء النُخب العلميّة.

117. لا بدّ لنا من التشديد على هذا الجانب الأخير. ففي القرن الرابع، في زمن "سلام الكنيسة" الذي شهد خطر تراجع القناعة المسيحيّة بسبب التوسّع العالميّ، حاول أنصار الوثنيّة القديمةأن يعيدوا إليها قوتها المفقودة من خلال التأكيد على أنّ مجمع آلهتهم، وطقوسهم، وعادات أسلافهم كانت متاحةً وميسرة لعامّة الناس. لكنّ الإيمان الذي بشّر به يسوعُ الفقراء ليس إيمانًا سطحيًّا. فالأمثال والتعاليم المختصرة، وكذلك بعض التعابير اليوحناويّة، مثل العبارة العظيمة: "الآب وأنا واحد" (يوحنا 10:30)، تشهد على أنّ الوصول إلى سر الله أمرٌ مليء بالمفاراقات. لا يمكن اعتبار ما يسمّى عقيدة الثالوث الأقدس، ولا الاتحاد الأقنوميّ المنصوص عليه في مجمع خلقيدونية، ولا ثنائيّة الإرادة الديناميّة التي حافظ عليها علم الخلاص عند مكسيموس المعترف، مفاهيم بسيطة أو سهلة الفهم. وعلى الرغم من ذلك، لم تدّعِ المسيحيّة يومًا أنّها سرّ خاص تحتكره نخبةٌ من العقّال فقط. يؤكّد المسيح ذلك في تصريح جوهريّ: "إنّي كلمت العالم علانية، وعلّمت دائمًا في المجمع والهيكل حيث يجتمع اليهود كلّهم، ولم أقل شيئًا في الخفية. فلماذا تسألني أنا؟ سلِ الذين سمعوني عمّا كلّمتهم به، فهم يعرفون ما قلت" (يو 18، 20 – 21). حتىّ أنّ التنشئة الأولى على الأسرار، في فترة المسيحيّة الأولى، لم تكن تعبيرًا عن حرص شديد على السريّة، بل كانت اعترافًا بجديّة المراحل المختلفة لهذه التنشئة المسيحيّة. ومع مرور القرون، يبدو أنّ الإيمان المسيحيّ قد تبنّى بشكل كامل طابعه الظاهر والجماهيريّ. في الحقيقة، يعبّر كلّ مسيحيّ، برسم علامة الصليب على نفسه، عن جوهر الإيمان بالثالوث والفصح بطريقة مناسبة وكاملة.[173]لذلك يتوجّبعلى شعب الله بأكمله أن يقدّم جوابًا عن إيمانه ورجائه (راجع 1 بط 3، 5)، ولهذا السبب يُعتبَر شعبًا لاهوتيًّا[174].

118. في هذا السياق عينه، تشكّل ممارسة السلطة التعليميّة، كما جرت في مجمع نيقيا، والتي أضفت على تعليم الكنيسة "الجامعة" طابعًا علنيًّا وأصيلًا صادرًا عن المؤسّسة، تدعيمًا لمساواة جميع المؤمنين أمام محتوى الإيمان. إنّ قانون الإيمان الليتورجيّ، الذي يعلنه جميع أعضاء جسد المسيح ضمن ليتورجيا عامة ومشتركة، يصبح حجر الزاوية في رابطة الشراكة، أي رابطة الضيافة الكنسيّة، التي كان لها مكانة عزيزة عند ترتليانوس[175]. وعندها يُصبح الخير العام للوحي متاحًا حقًّا لجميع المؤمنين، كما تؤكد العقيدة الكاثوليكيّة في عصمة الشعب المؤمن في الإيمان، إذ تنصّ على ما يلي: "إن جماعة المؤمنين، بعدما نالت المسحة التي تأتي من الروح القدس (راجع 1 يو 2: 20، 27)، لا يمكنها أن تخطئ في الإيمان"[176]. وللأساقفة دورٌ خاصّ في تحديد مضمون الإيمان، لكنّهم لا يستطيعون القيام بذلك إلا في إطار الشركة الكنسيّة التي تشمل شعب الله بأسره[177]. وبهذا المعنى، في الشريعة الجديدة التي للعهد الجديد، تتجلّى سمات الشريعة القديمة التي لا يُعطى بُعدها العلنيّ ما يستحقه عادةً: إذ تُعلن الشريعة رسميًّا، فهي معروفة من الجميع كشريعة إلهيّة، ويكون الرؤساء ملزمين علنًا بالامتثال لها. كما أنّ ما يُعرف بـ "الانحياز إلى الأشخاص" التي تمّ تحديده وإدانته في التوراة، يظهر بوضوح أكثر على أنّه خطأ ضد كرامة أبناء الله الواحدة (راجع لا 19، 15؛ تث 10،  17؛ أع 10، 34؛ رو 2،  11).

- حماية الإيمان من السلطة السياسيّة

119. 119. على الرغم من كلّ ما يدين به لمبادرة الإمبراطور قسطنطين، يُعتبر مجمع نيقيا محطة فاصلة على الطريق الطويل نحو "حريّة الكنيسة" التي هي في كلّ مكان الضمانة لحماية إيمان البسطاء والأكثر ضعفًا في وجه السلطة السياسيّة. لا شك في أنّ حركة موازية قد نشأت في الوقت نفسه، عُرفت فيما بعد باسم "تداخل القيصرية والبابوية" (césaro-papisme)، والتي لا تزال تمثّل تجربة مستمرة في أوساط الكنائس المسيحيّة. فهل ينبغي، إذًا، أن نرى في هذا المجمع بوادر ضمانة كنسيّة لحرية ضمير الصغار، أم مؤشّرًا أوليًّا لتوظيف الدين المسيحيّ على الساحة السياسيّة؟ غالبًا ما يُشار اليوم، إلى الهاجس السياسيّ لدى الإمبراطور قسطنطين؛ ويُشدَّد على أنّ مجمع نيقيا كان، في جملة ما كان، مناسبة للاحتفال بالذكرى العشرين لجلوسه على العرش، بل إن البعض يُلمّح، في حالات معيّنة، إلى أنّ قانون الإيمان الذي أُقرَّ في نيقيا كان يرمي، أوّلاً إلى استعادة الوفاق داخل الإمبراطورية. ومن الانتقادات الشائعة كذلك، ربط مفهوم الهرطقة بسلطة الدولة وأسلوبها القمعيّ. ولكن، من دون الخوض في حدود هذا النصّ، في معالجة شاملة لهذه المسائل المعقّدة، يمكننا التمييز بين أشكال الوحدة وأهدافها: وحدة الإيمان بين المسيحّيين ووحدة المواطنين. من جهة، فإن التوحيد في الأقانيم الثلاثة لمجمع نيقيا، لم يكن يسمح بحقيقته العقائديّة أن يفعل مثل الآريوسية التي لجأت إلى تكريم طموح القيصر باعتباره رمزًا للوحدة الرومانيّة الدينيّة والسياسيّة، ولا أن تسمح بوضع أسس نظام لاهوتيّ-سياسيّ صارم بالمفهوم الدقيق[178].ومن جهة أخرى، لولا اليقظة التعليميّة في الكنيسة الرسوليّة، المعزّزة بالروح القدس في مواجهة المقاومة الشديدة للّوائح التي تمثّلها الهرطقة ضد الوحي الإلهيّ، لما استطاعت أسرار الإيمان، التي نُقلت عبر إعلان الذات للكلمة المتجسِّد والمصلوب والقائم من بين الأموات، أن تصمد أمام التفكّك والفوضى.

120. يتجلّى السهر على إيمان جميع المؤمنين والحرص على الإصغاء إلى صوت الضعفاء والمهمّشين في أن مجمع نيقيا لم يتبع، بشكل دقيق، مسار الآريوسيّة. فعلى الرغم من أنّ القديس إيرونيموس يؤكّد على أنّ الأغلبية العدديّة كانت للآريوسيّين، وأنّ معظم الأساقفة كانوا منحازين إليهم. لا بدّ من العودة إلى التاريخ والتريث في قراءة القديس إيريناوس، إذ إنّ غالبية الأساقفة والمسيحيّين لم يكونوا من مؤيّدي الآريوسيّة مباشرة، بل كانوا مترددين تجاه مصطلحات جديدة لم تكن واردة في العهد الجديد. وبما أنّ تدخل السلطة السياسيّة فرض أمرًا واقعًا بالقوّة،غير أنّ المجمع تمكّن من الحفاظ على حسّ الإيمان[179]،الذي يسكن شعب الله. وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ إقرار إيمان نيقيا هو صدى صادق للاحتفال بالمسيح داخل الكنيسة: "أحمدك يا أبت، رب السموات والأرض، على أنّك أخفيت هذه الأشياء عن الحكماء والأذكياء، وكشفتها للصغار. نعم ياأبت، هذا ما كان رضاك." (متى 11: 25-26).

الخاتمة

- البشارة بيسوع المسيح، مخلّصنا، لجميع البشر، في الزمن الحاضر

121. إنّ الاحتفال بالذكرى الـ1700 لانعقاد مجمع نيقيا دعوة ملحّة تتوجَّه إلى الكنيسة كلي تعيد اكتشاف الكنز الذي أُوكل إليها، وتنهل منه، لتتقاسمه بفرح في انطلاقة  جديدة، بل في "مرحلة جديدة من نشر الإنجيل"[180].وإنّ الإعلان بأنّ يسوع هو سلامنا، انطلاقًا من الإيمان الذي عبّر عنه مجمع نيقيا، كما هو مُعلَن في قانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ، يعني أولًا أن نسمح لأنفسنا بأن تندهش أمام عظمة المسيح، لكي ينال جميع البشر نصيبّا من هذا الاندهاش؛ وأن نُنعش نار محبتنا للربّ يسوع، لكي يتوهّج الجميع بمحبّته. لا شيء، ولا أحد، يفوقه جمالًا، أو ينبض بالحياة مثله، أو يحتاج إليه الإنسان أكثر منه. لقد عبّر دوستويفسكي عن ذلك بعبارات رائعة، إذ قال: "لقد نسجت في أعماقي قانون إيمان، أرى من خلاله كلّ شيء واضحًا ومقدّسًا. وهو قانون بسيط جدًا: أن أؤمن بأنّه لا وجود لشيء أبهى، ولا أعمق، ولا أكثر جاذبيةّ وتعقّلًا، ولا أكثر رجولةً وكمالًا من المسيح"[181]. بسوع، الذي هو والآب جوهرٌ واحد، جاء الله نفسه ليخلّصنا؛ لقد ارتبط الله بالإنسانيّة إلى الأبد، لكي يحقّق دعوتنا فنكون بشرًا على حسب قصده. وبوصفه "الابن الوحيد" لقد شكّلنا على صورته، نحن الذين صرنا أبناءً وبناتٍ محبوبين للآب، بقوّة الروح القدس المُحيية. أولئك الذين شاهدوا مجد المسيح، يمكنهم الآن أن ينشدوا له، وأن يجعلوا التسبيح يتحوّل إلى إعلان كريم وأخوّي، أي إلى الكيريغما أو البشارة الأولى، أو الخبر السارّ عن يسوع المسيح، مخلص البشريّة.

122. أن نُعلن أنّ يسوع هو مخلّصنا استنادًا إلى الإيمان الذي عبّر عنه مجمع نيقيا لا يغفل واقع الإنسان. إنّه لا يغضّ الطرف عن الآلام والاضطرابات التي تعصف بالعالم، والتي تبدو اليوم وكأنها تهدّد كلّ بارقة أمل.بل وعلى العكس من ذلك، نواجه هذه الاضطرابات بالإيمان بالفداء الوحيد المضمون، الذي تحقّق على يد الذي عايش عنف الخطيئة والرفض، ووحدة الهجران والموت، والذي قام من عمق الشرّ ذاته، حاملًا إيانا في نصره، لنبلغ معًا مجد القيامة. هذه البشارة المتجدّدة لا تتجاهل الحضارة و الثقافات المختلفة، بل تستمع إليهما بأمل ومحبة، وتتغذّى بهما، وتدعوهما إلى تطهّر ذاتيّ وترتقي بهما. إنّ الدخول في هذا الرجاء يستوجب بلا شك تحوّلًا عميقًا، يبدأ أولًا من جانب الذي يعلن عن يسوع بالحياة والكلمة، إذ إنّ هذا التحوّل هو تجديد للعقل وفق فكر المسيح. مجمع نيقيا هو ثمرة تحوّل في الفكر، تحقّق وتيسّر بفضل الحدث يسوع المسيح. على نحو مماثل، فإنّ مرحلة جديدة من البشارة لن تكون ممكنة إلا مع أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بالتجدّد بفعل هذا الحدث، ومن الذين يؤسَرون بجلال المسيح، الذي يظل دائمًا جديدًا.

123.أن نُعلن أنّ يسوع هو خلاصنا انطلاقًا من الإيمان الذي عبّر عنه مجمع نيقيا يعني أن نُعنى خصوصًا بالأصاغر والأكثر ضعفُا من إخوته وأخواته. إنّ النور الجديد الذي أضفاه المجمع على الأخوّة بين جميع أبناء العائلة البشريّة بالمسيح، الابن الذي من جوهر الآب، والذي شاركنا في طبيعتنا البشريّة، يضيء بنورٍ خاصّ على الذين هم في عوزٍ إلى رجاء النعمة. إنّنا متّلون بصلةٍ عميقة وثابتة مع جميع المتألّمين والمنبوذين. ونحن مدعوّون معًا إلى العمل من أجل أن ينالهم الخلاص على وجه الخصوص. أن نعلن البشارة، أمرٌ يقتضي توفي الطعام والشراب، والاستقبال وتأمين الملبس، والزيارة (متّى 25، 34-40)، وأن ننشر مجد الإيمان المتضع، والرجاء والمحبّة لمن لم ثقة به، والذي لا يرجوه منه أحد، ويفتقر إلى محبّة العالم. أن نعلن البشارة يتطلّب نشر الفضائل الإلهيّة هذه بإشعاعٍ  من خلال التواضع والألم: وهذا لا يمكن أن يأتي إلا من المسيح مخلّصنا حين نشهد له ونتيح للآخرين اللقاء به. فلا نقعنّ في الضلال، لأنّ هؤلاء المصلوبون عبر التاريخ هم المسيح في وسطنا، بالمعنى الأكثر قوّةً : " لأنكّم فعلتموه لي" (متّى 25، 40). المصلوب القائم يُدرك آلامهم إدراكًا عميقًا وهم بدورهم يدركون آلامه. وهكذا أمسوا بدورهم الرسل، والمعلّمين، ومبشّري الأغنياء والأصحّاء. بالطبع يقوم الأمر على معونه القراء، ولكن ينبغي أوّلاً الدخول في علاقةٍ معهم والعيش معهم، لكي نتعلّم منهم: إنّهم يفقهون على نحوٍ أفضل من الجميع، عظمة الهبة التي من نيقيا، عطيّة الابن الذي من جوهر الآب الذي مضى حتّى الصليب، كما يعلن المجمع. إنّهم قادرون على إدراجنا في الرجاء الأقوى من الموت، على خطى كلمة الله الذي نزل إلى الهاوية بيننا ليرفعنا إلى الأعلى معه[182].  

124. أن نعلن أنّ يسوع سلامنا، استنادًا إلى الإيمان الذي عبّر عنه مجمع نيقيا، فذلك إعلان داخل الكنيسة. وهو إعلان يتجلّى في شهادة الأخوّة الفريدة التي أسّسها المسيح، وإعلانٌ عن العجائب التي من خلالها تكون الكنيسة — الواحدة، المقدسة، الجامعة، الرسولية — "السرّ الشامل للخلاص"، الذي يُفضي إلى الحياة الجديدة : كنز الكتب المقدسة التي يُفسّرها قانون الإيمان، وغنى الصلاة والليتورجيا والأسرار المقدسة المنبثقة من المعموديّة التي أعلنها مجمع نيقيا، ونور التعليم الرسوليّ الذي يخدم الإيمان المشترك. غير أنّ هذا الكنز نحمله في آنيةٍ من خزف (2 كور 4، 7). وهذا أمرٌ جوهريٌّ، إذ لا تكون البشارة خصبة بحقّ إلا إذا وُجد انسجام بين شكل الرسالة ومضمونها، بين صورة المسيح وصيغة إعلان الإنجيل. في عالمنا اليوم، لا بدّ أن لا نغفل عن أنّ المجد الذي تأمّلناه هو مجد المسيح "الوديع والمتواضع القلب" (متى 11، 29)، ذاك الذي قال: "طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض" (متى 5: 5).المصلوب والقائم من بين الأموات هو حقًا المنتصر، لكن انتصاره ليس على خصوم من لحم ودم، بل على الموت والخطيئة. فلا خاسر في السرّ الفصحي، سوى ذلك الخاسر الإسخاتولوجيّ: أي الشيطان، المفرِّق[183]. أن نعلن يسوع سلامنا ليس معركة، بل هو تماثل مع المسيح، الذي كان ينظر إلى من يلتقي بهم بمحبّة ورحمة (مرقس 10، 21؛ متى 9،  36)، وكان يستلهم آخر، هو روح الآب (189). "وتَعَلَّمَ الرسلُ من كلام المسيح واقتدوا بهِ، فتَرَسَّموا خُطاهُ، فلم يلجأوا في فجر حياة الكنيسة إلى طرقِ العنفِ ولا إلى وسائل الدهاء التي لا تليقُ بالإنجيل، ليحمِلوا الناس على الإعترافِ بهِ إلهاً، وإنَّما لجأوا قبلَ كلّ شيء إلى قوّة كلمة الله، وأعلَنوا بشجاعةٍ تدابير الله المخلِّصة: ".. الذي يُريدُ أن يَخلُصَ جميعُ الناس فيَبلُغوا إلى معرفةِ الحقّ.." (1 طيم 2، 4)، وفي الوقت نفسه كان موقفهم تجاه الضعفاء يتَّسِمُ بالإحترامِ حتى مَن كانَ منهم يعيشُ في ضلالٍ، فأعلنوا أنّ ".. كلّ واحدٍ منّا سيُؤدّي حساباً لله عن نفسِهِ.." (روم 14، 12)، وأنّه مُلزَمٌ بطاعةِ ضميره الذاتي، واجتهدَ الرسلُ دائماً للسيرِ على نهجِ المسيحِ فشهدوا لحقائقِ الله وقد امتلأوا شجاعةً ونادوا بكلمة الله "بكلّ جرأة" (رسل4، 31)، أمام كلّ الشعب ورؤسائه"[184]. تكون البشارة مثمرة إذا كان المسيح هو الذي يعمل فينا. "يجب أن نتذكّر أنّ الرَّبَّ يسوع لمــَّا أرسل تلاميذه كان "يَعمَلُ مَعَهم" (مرقس 16، 20). إنّه هناك، يعمل، ويكافح ويصنع الخير معنا. بطريقة خفيّة، تظهر محبّته في خدمتنا، وهو نفسه الذي يتكلّم إلى العالم بهذه اللغة التي لا كلام فيها أحيانًا"[185].


 

[1]«In Forma specifica ». وتعني هذه العبارة "بصيغةٍ محدّدةٍ"، وهي تُشير إلى أنّ ما تمّ إقراره أو التصديق عليه في الوثيقة، قد تمّ اعتماده كما هو من قِبَل السلطة العليا، بطريقةٍ مُلزِمةٍ ولا يمكن الرجوع عنها بسهولة.

[2]البابافرنسيس، أسقف روما خادم خدّام الله: الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ. مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025، رقم17.

[3] ÉPHREM de Nisibe, Hymnes de Nativitate, III, 3, éd. et trad. E. Beck, o.s.b., Louvain, 1959 (CSCO 186, p. 21 ; CSCO 187, p. 18-19 trad. modifiée) ; trad. française par F. Cassingena-Trévedy, o.s.b., Paris, Cerf, 2001 (SC 459, p. 64-65).

[4]البابا فرنسيس، خطاب إلى أعضاء اللجنة اللاهوتيّة العالميّة، 30 تشرين الثاني 2023.

[5]" في البداية، كان من المقرّر أن يُعقد مجمع الأساقفة في أنسير في غلاطية. لكن لأسبابٍ عدّة، قرّرنا الآن أن يُعقد في نيقيا، وهي مدينة في بيتينيا. ويعود ذلك إلى قدوم أساقفةٍ من إيطاليا وأجزاءٍ أخرى من أوروبا، وكذلك لطبيعة الهواء المعتدلة هناك، فضلًا عن رغبتي الشخصيّة في أن أتابع ما سيحدث هناك وأشارك فيه بنفسي." من كتاب: قسطنطين، الرسائل والخطابات.راجع :

CONSTANTIN, Lettres et discours, présentés et traduits par P. Maraval, Paris, Les Belles Lettres (coll. « La roue à livres »), 2010, lettre 17 ("convocation à Nicée"), p. 52.

[6] Voir Concile de Chalcédoine, préambule dans (DH, 300).

[7]  Voir Concile d’Éphèse, 6e session des Cyrilliens (DH, 265)

[8] Cité dans K. SCHATZ, Los concilios ecuménicos, Encrucijada en la historia de la Iglesia, Ed. Trotta, Madrid, 1999, p. 41.

[9]"تعترف الكنيسة الكاثوليكيّة بالطابع المجمعيّ المسكونيّ، وبالقوّة القانونيّة الملزمة التي لا رجعة فيها لقانون الإيمان الذي أُعلن باللغة اليونانيّة في القسطنطينيّة سنة 381 من قِبل المجمع المسكونيّ الثاني، بوصفه التعبير الأصيل عن الإيمان الواحد والمشترك للكنيسة ولجميع المسيحيّين. ولا يجوز لأيّ صيغة إيمان، تنتمي إلى تقليدٍ ليتورجيٍّ خاصّ، أن تتعارض مع هذا التعبير الإيمانيّ الذي علّمته الكنيسة غير المنقسمة وأعلنته." راجع :

Conseil Pontifical pour la Promotion de l’Unité des Chrétiens, « Les traditions grecque et latine concernant la procession du Saint-Esprit », 13 septembre 1995, in Documentation Catholique, n° 19, p. 941-945.

[10]  البابا فرنسيس، خطاب إلى دائرة عقيدة الإيمان، 26 كانون الثاني 2024.

[11]نُشير هنا إلى أننا نعتمد النصّ اليونانيّ لقانون الإيمان النيقاويّ-القسطنطينيّ، ما لم يُذكر خلاف ذلك.

[12]إنّ موضوع الله الآب الخالق حاضرٌ بقوةٍ في كتابات آباء الكنيسة الأوائل. يقول عنه إكليمنذُس أسقف روما: "الآب وخالق العالم بأسره". راجع :

Aux Corinthiens, 19,2 et 35,3 (SC 167, p. 133 et 157)

ويتكلم يوستينُس أسقف نابلس عن الله بصفته "آب سيّد الكون". راجع :

Apologie à Antonin, 12,9 ; 61,3, dansB. POUDERON, J.-M. SALAMITO, V. ZARINI, Premiers écrits chrétiens, Paris, Gallimard, La Pléiade, 2016, p. 333 et 376.

كذلك يشير ططيانُس الأشوريّ إلى الله باعتباره "خالق الأرواح" و"آبٌ لما يرى ولا يرى". راجع :

Aux Grecs, IV,3, ibid., p. 591.

إنّ هذه الفكرة ليست جديدة، فقد أوردها الكتّاب اليونان القدماء مثل أفلاطون، الذي وصف الله على أنّه "الخالق والأب لكل الكون". راجع :

Timée, 28c ; 41a ; voir aussi Épictète, Diss. I,9,7.

[13]على عكس ما جاء في نصوص إشيلوس التي تشير إلى "حسد الآلهة" (sine invidia)، راجع (Les Perses, v. 362)، يؤكّد توما الأكوينيّ في كتابه "ضد الوثنيّين" أنّ "الحسد في الله يستحيل وجوده، حتى من حيث طبيعته، ليس فقط لأن الحسد نوع من الحزن، بل أيضًا لأن الحاسد يحزن لخير غيره، فيقبله كما لو كان ضررًا يصيبه هو ذاته."

THOMAS d’Aquin, Contra Gentiles, l. 1 cap. 89, n. 12.

[14] HILAIRE de Poitiers, De Trinitate, IX, 61, CCSL 62A, p. 440-441.

[15] HIPPOLYTE, C. Noet. 10,1-2.

يقول ترتليانوس: "في البدء، كان الله وحده. كان هو نفسه كلّ شيء: العالم، والمكان، والوجود بأسره. كان وحده، لأنه لم يكن هناك شيء خارجًا عنه. غير أنّه، حتى في تلك الحالة، لم يكن وحده حقًا، إذ كان يحمل في ذاته كلمته (أو: فكره)، الذي كان قائمًا فيه منذ الأزل". راجع :

Adversus Praxean, 5,2, CCL 2, p. 1163

[16] Voir le Martyre de saint Polycarpe dans B. POUDERON, J.-M. SALAMITO, V. ZARINI, Premiers écrits chrétiens, p. 254 ; Justin, Apologie à Antonin, 63, ibid., p. 379-380.

[17] Voir l’anathématisme dirigé contre Arius à la fin du symbole de Nicée (DH, 126).

[18] ARIUS, Lettre à Eusèbe de Nicomédie, 5 (H.-G. Opitz, Athanasius Werke, III-1, p. 3 ; Urkunde 1).

[19]في قراءة تأريخيّة لاحقة لمجمع نيقيا، يؤكّد كروماسيوس الأكيليّ قائلًا: "كما كانت أعمال خلقنا الأولى من عمل الثالوث، فكذلك خلقنا الثاني هو من عمل الثالوث: فالآب لا يفعل شيئًا بدون الابن ولا حتى بدون الروح القدس، لأنّ ما هو عمل الآب هو أيضًا عمل الابن، وما هو عمل الابن هو أيضًا عمل الروح القدس". راجع:

CHROMACE d’Aquilée, Sermons, 18, 4, tome II, texte critique, notes et index par J. Lemarié, traduction par H. Tardif, Paris, Cerf, SC 164, 1971, p. 14.

[20]حول هذا "التغافل" المتعلّق بالصلاة إلى الروح القدس، يُرجى الرجوع إلى: إيف كونغار،في كتابه  أؤمن بالروح القدس، حيث ترتكز تحليلاته بصورة أساسيّة على القرنين التاسع عشر والعشرين، غير أنّ الظواهر التي يصفها لا تزال قائمة حتى اليوم، وإنْ بأشكالٍ أكثر تعقيدًا ودقّة.

Y. CONGAR, Je crois en l’Esprit Saint. Cerf, 4e éd., Paris, 2012, t. 1, p. 218-226.

[21]"نؤمن […] بأنّ الآب […] هو نبع وأصل كلّ الألوهة."راجع مجمع توليدا السادس:

Credimus […] Patrem […] fontem et originem totius divinitatis », 6eConcile de Tolède (DH,490).

راجع أيضًا أوغسطينوس الذي يقول إنّ الآب هو مصدر كلّ الألوهة:

Le Père est « principe de toute la divinité », voir Augustin, De Trinitate, t.IV, c.xxix, PL, t.XLII, col. 908.

[22]راجع صيغة مجمع نيقيا بهذا الخصوص.

[23] "لا يوجد إلهٌ من نوعٍ آخر، بل الآب والابن كائنٌ واحد". راجع بهذا الخصوص :

HILAIRE de Poitiers, De Trinitate, VIII, 41, CCSL 62A, p. 354.

[24] Voir B. SESBOÜE, Histoire des Dogmes, T. 1, Le Dieu du Salut, Desclée, Paris, 1994, p. 246.

[25]وفق الترجمة اللاتينيّة لقانون نيقيا-القسطنطنيّة، واستنادًا إلى ترجمة روستيكوس في القرن السادس. راجع بهذا الخصوص:

I. ORTIZ de Urbina, Storia dei Concili Ecumenici vol. I, LEV, 1994,p. 172.

[26] SANT’AMBROGIO, Opere poetiche e frammenti. Inni – Iscrizioni – Frammenti, a cura di G. Banterle, G. Biffi, I. Biffi, L. Migliavacca, Milano-Roma, 1994, Inno II, p. 34-37.

[27]إنّ عقيدة الثالوث ليست إضافةً تُضعف الإيمان، بل هي تعميق أساسيّ لمبدأ التوحيد في المسيحيّة. راجع بهذا الخصوص:

K. RAHNER, « Unicité et Trinité de Dieu en dialogue avec l’islam » (1978), dans Œuvres, 22/1b, Dogmatique après le Concile. Fondement de la théologie, doctrine de Dieu et christologie, trad. de l’allemand, Cerf, Paris, 2022, p. 203-221 (ici : p. 213).

[28] Voir M. WYSCHOGROD, Abraham’s Promise, Judaism and Jewish-Christian Relations, SCM Press, London, 2006, p. 178.

[29] Cf. D. BOYARIN, Le Christ Juif, Cerf, Paris, 2019, p. 42-66 ; P. LENHARDT, L’Unité de la Trinité. À l’écoute de la tradition d’Israël, Éd. Parole et Silence, Paris, 2011 ; P. SCHÄFER, Two Gods in Heaven : Jewish Concepts of God in Antiquity, Princeton University Press, Princeton (NJ), 2020.

[30] Voir D. BOYARIN, Le Christ Juif, p. 55-56.

[31]راجع (أم 1، 9 ،14؛ 8 ، 1 - 36؛ حك 1، 7؛ 7، 22 - 27؛ سِي 24، 1 – 22). يستخدم بعض المفسرين أيضًا مصطلح "الثنائيّة الإلهيّة" للإشارة إلى الحكمة المتجسّدة. أنظر: 

J. Trublet [dir.], La Sagesse Biblique. De l’Ancien au Nouveau Testament, « Lectio Divina 160 », Le Cerf, 1995.

[32] Voir Ode 14 :12-17, in A. RAHLFS, R. HANHART [ed.], Septuaginta: SESB Edition, Stuttgart 2006); Voir aussi: Voir L. W. HURTADO, One God, one Lord. Early Christian Devotion and Ancient Jewish Monotheism, T&T Clark, Edinburg 21998 (1988); R. BAUCKHAM, « God Crucified » (1996), in R. Bauckham, Jesus and the God of Israel, Paternoster, Crownhill (UK) 2008, p. 1-59.

على سبيل المثال، تمّت صياغة جزء من قانون نيقيا في الأدبيّات اليهوديّة-المسيحيّة (أو النصرانيّة) الأولى، وهي ترانيم سليمان، التي تُؤرَّخ تقريبًا بين 70 و125 بعد المسيح.

[33]تميّز النسخة اللاتينيّة من قانون الإيمان بين المسيح الذي تجسّد "بواسطة" الروح القدس و"من" العذراء مريم.

[34] J. RATZINGER, Einführung in das Christentum, Vorlesungen über das Apostolische Glaubenbekenntnis, Kösel-Verlag KG, München, 1968, p. 9.

[35]فنحن إذ نتبع الآباء القديسين، نُعلّم جميعًا باتفاق أن نعترف بابنٍ واحدٍ ووحيد، ربّنا يسوع المسيح، هو نفسه الكامل في الألوهيّة، وهو نفسه الكامل في الإنسانيّة؛، هو نفسه، إلهُ حقّ وإنسان حقّ، له نفسُ عاقلة وجسد، من جوهر الآب في الألوهيّة، وهو نفسه من جوهرنا (طبيعتنا) بحسب الإنسانيّة. شبيهٌ بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة، مولودٌ من الآب قبل الدهور بحسب الألوهيّة، وهو نفسه، في الأيام الأخيرة، من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء، والدة الإله، بحسب الإنسانيّة." (مجمع خلقدونيا المسكونيّ- DH, 301).

[36]"الإنسان، باعتباره كائنًا مخلوقًا، لم يكن ليُؤلَّه لولا أنّ الابن هو إلهٌ حقيقيّ. ولم يكن للإنسان أن يقف في حضرة الآب، لو لم يكن الذي اتخذ الجسد هو الكلمة الحقيقيّ بطبيعته. ولما كان من الممكن أن نتحرّر من الخطيئة واللعنة، لو لم يكن الجسد الذي لبسه الكلمة جسدًا بشريًّا، إذ لا يمكن أن يكون لنا أي نصيب أو ارتباط مع ما هو غريبٌ عنّا". راجع:

ATHANASE d’Alexandrie, Traité contre les Ariens, II, 70, texte de l’édition K. Metzler - K. Savvidis, notes par Lucian Dinca, traduction par Ch. Kannengiesser, Paris, Cerf, SC 599, 2019, p. 237-239

[37] Ibid., III, 7,3, p. 297.

[38]ترد هذه العبارة عند الآباء، حيث تذكر أحيانًا وجوه آخرى من التاريخ إلى جانب بيلاطس، مثل «هيرودس رئيس الربع.

IGNACE d’Antioche, Lettre aux Smyrniotes, I, 2, dans B. POUDERON, J.-M. SALAMITO, V. ZARINI, Premiers écrits chrétiens, p. 213 ; Justin, Apologie à Antonin, 13,3, ibid., p. 334.

[39] الله لم ينقض العهد القديم قطّ، وهو لم يُبطِله يومًا. راجع بهذا الخصوص:

Jean-Paul II, Rencontre avec les représentants de la communauté juive de Mayence, 17 novembre 1980, n. 3 ; Catéchisme de l’Église Catholique, 1992, n° 121 : cf. François, Evangelii Gaudium, 2013, IV, n° 247.

[40]القرار في علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة، رقم 4.

[41] لقد سبق إيريناوس أسقف ليون وقال في كتابه «ضد الهرطقات" : " كيف يُتاح للأنبياء أن يتنبأوا بمجيء الملك، ويعلنوا مسبقًا البشرى الجديدة عن الحريّة التي سيمنحها بشخصه، وأن يكرزوا مسبقًا بكلّ ما فعله المسيح قولًا وفعلًا وكذلك آلامه، ويبشروا بالعهد الجديد قبل حدوثه، لو كانوا قد تلقوا الإلهام النبويّ من إله آخر يجهل الآب الذي لا يُوصف وملكه، وأعماله التي أتّمها ابن الله في هذه الأيام الأخيرة بمجيئه إلى الأرض بحسب قولهم؟" انظر: أ. دي هاليكس، في "اعتراف الروح القدس في قانون القسطنطينيّة؛ كما أنّ قانون الإيمان المنسوب إلى  إبفانيوس السالامينيّ، والذي يعود لعام 374، يتوسّع بهذا الموضوع ويقول:" نحن نؤمن بالروح القدس، الذي تكلّم بالناموس وكرز على لسان الأنبياء، ونزل عند نهر الأردن، وتكلّم في الرسل وهو يسكن في القديسين" (DH, 44). راجع أيضًا :

Irénée de Lyon, Contre les hérésies, IV, 34,3, éd. A. Rousseau, tome II, SC 100, Paris, Cerf, 1965, p. 850-853 ; A. de HALLEUX, « La profession de l’Esprit-Saint dans le Symbole de Constantinople », Revue théologique de Louvain, 10e année, fasc. 1, 1979, p. 5-39.

[42] Jean II, Lettre Olim quidem, mars 534 (DH, 401).

ويؤكّد المجمع القسطنطينيّ الأوّل في حروماته، في الرقم : "من لم يعترف بأنّ ربنا يسوع المسيح، الذي صُلب بالجسد، هو الإله الحقيقيّ وربّ المجد وأحد أقانيم الثالوث المقدس، فليكن مُحرومًا". (DH, 432)

[43]"إنّ ما تحقّق بالفعل في المسيح، يجب أن يتحقّق أيضًا فينا وفي العالم. أما الاكتمال النهائيّ، فسيكون في المنتهى، مع قيامة الأموات، والسماوات الجديدة، والأرض الجديدة. إن الانتظار المسياويّ اليهوديّ ليس عبثًا. بل يمكن أن يصبح لنا نحن المسيحيّين حافزًا قويًا للحفاظ على البُعد الإسكاتولوجيّ لإيماننا حيًّا. نحن، مثلهم، نعيش في انتظار. والفرق هو أن الذي ننتظره نحن، سيأتي بملامح يسوع الذي جاء من قبل، والذي لا يزال حاضرًا ويعمل في ما بيننا." (اللجنة البابوية للأسفار المقدسة، الشعب اليهوديّ وكتبه المقدّسة في الكتاب المقدّس المسيحيّ، 2001، الجزء الثاني، الرقم 21). راجع أيضًا :

Commission Biblique Pontificale, Le peuple juif et ses Saintes Écritures dans la Bible Chrétienne, 2001, II, n° 21

[44] راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 1848.

[45] Voir Concile d’Orange (529), canon 1 (DH, 371) et canon 2 (DH, 372).

[46]وفق قول إيريناوس، يسوع يشير هنا إلى "الذين نالوا البنوة بالتبنّي" به أو بواسطته. راجع :

Contre les hérésies, Dénonciation et réfutation de la gnose au nom menteur, éd. A. Rousseau, Paris, Cerf, 19913, livre III, 6,1, p. 288-289.

[47]المسيح، الإنسان الذي في كنه الله والمتحد به أبدًا، هو في آنٍ واحد الحضور الدائم لله في الإنسان. هو ذاته ما نسميه "السماء"، إذ إنّ السماء ليست مكانًا، بل هي شخصٌ؛ شخص ذلك الذي فيه الله والإنسان متّحدان إلى الأبد بلا انفصال. "ونحن نسير نحو السماء، نعم، ندخل إلى السماء، بقدر ما نسير نحو يسوع المسيح وندخل فيه." راجع:

J. RATZINGER, JRGS 6/2, p. 861. Voir aussi H. U. von BALTHASAR, « Eschatologie », dans J. FEINER, J. TRÜTSCH et F. BÖCKLE (éd.), Fragen der Theologie heute, Einsiedeln, Zurich, Cologne, 1957, p. 403-421 (ici p. 407-408.

[48] الدستور الراعويّ "فرح ورجاء"، الرقم 22.

[49] JEAN de la Croix, Le Cantique Spirituel A 38, 3-7 ; Le Cantique Spirituel B 39, 2-7, dans Jean de La Croix, : Œuvres complètes, trad. M. du Saint-Sacrement, Cerf, Paris, 1997, p. 519-522 ; 1425-1428.

[50] Paul VI, « Allocution finale du Concile Vatican II », 1965, § 8.

[51] Voir Concile de Chalcédoine, DH, 301.

[52] Voir THOMAS d’Aquin, Somme contre les gentils, IV, 81.

[53] Cf. B. PASCAL, Les Pensées, éd. Jacques Chevalier, Paris, Gallimard (« La Pléïade»), 1954, p. 1207, fgt 258 ; voir aussi Pape François, Lettre apostolique Sublimitas et Miseria hominis, 19 juin 2023, pour le 4e centenaire de la naissance de Blaise Pascal.

[54] Lumen Gentium, 48 ; Congrégation pour la Doctrine de la Foi, Dominus Iesus, 2000, VI, n° 20.

[55] HIPPOLYTE de Rome, Traditio Apostolica, 6, Aschendorff, Münster, 1963, p. 19.

[56]كما أنَّ صلاحَ الله الواحد يفيض فعلاً على الخلائق بأنماطٍ مختلفة، كذلك وساطة المُخلِّص الفريدة لا تمنع، بل بالأحرى تَحثُّ الخلائق على التعاون المتنوِّع المشترَك، النابع من مصدرٍ واحد. راجع: نور الأمم، ٦٢.

[57]فرح ورجاء، 24-25.

[58]فرح ورجاء، 22.

[59]نور الأمم، 1.

[60] راجع ملحق الدستور الراعويّ في الليتورجيا المقدّسة. 

[61] THEODORET de Cyr, Histoire ecclésiastique, « Lettre synodale à l’Église d’Alexandrie », I,9, tome I, livre I-II, texte grec (GCS, NF 5, 19983) de L. PARMENTIER et G.C. Hansen, avec annotation par J. Bouffartigue, introduction par A. Martin, traduction par P. Canivet, revue et annotée par J. Bouffartigue, A. Martin, L. Pietri et F. Thelamon, Paris, Cerf, SC 501, p. 220-221 et 227.

[62] Voir Lettera alle Chiese, publiée in H. Pietras, Concilio di Nicea (325) nel suo contesto, GBPress, Roma, 2021, p. 204-208 (Eusèbe, Vita Constantini, 3.17-20) ; « Purtroppo con questa decisione venne abbandonata la data comune di Pasqua tra cristiani ed ebrei », Card. K. Koch, « Verso una celebrazione ecumenica del 1700° anniversario del Concilio di Nicea (325-2025) », L’Osservatore Romano, 30 aprile 2021.

[63] Respectivement Jean-Paul II, Rencontre avec la communauté juive de Rome, 13 avril 1986, n° 4, et Benoît XVI, Lumière du monde. Le pape, l’Église et les signes des temps. Un entretien avec P. Seewald, trad. N. Casanova et O. Mannoni, Paris, Bayard, 2011, p. 114.

[64] ATHANASE d’Alexandrie, Vie et conduite de notre père Saint Antoine, Spiritualité orientale, n° 28, trad. B. Lavaud, o.p., Bégrolles en Mauges, 1979, p. 75.

[65]"لو لم تُمنح لنا أيضًا إمكانيّة اللقاء الحقيقيّ معه تعالى، لكان ذلك بمثابة تأكيدٍ على نفاد جدّة الكلمة المتجسّدة.لكن على العكس من ذلك، إنّ التجسّد، إلى جانب كونه الحدث الجديد الوحيد في تاريخ البشريّة، هو أيضًا الوسيلة التي اختارها الثالوث الأقدس ليُمهّد لنا طريق الشركة. الإيمان المسيحيّ هو إمّا يكون لقاءً حقيقيًّا بالمسيح الحيّ، أو لا يكون. والليتورجيا تضمن لنا إمكانية حدوث هذا اللقاء". راجع أيضًا :

François, Lettre apostolique: Desiderio desideravi, 2022, n. 10-11.

[66] Voir À Diognète, V,10-11, dans B. POUDERON, J.-M. SALAMITO, V. ZARINI, Premiers écrits chrétiens, p. 814.

[67] ATHÉNAGORAS, Legatio (Supplicatio) pro Christianis (176-180 après J.-C.) 12,3 ; cf. 24,2, SC 379, p. 108 s. et p. 160 s.

[68] AMBROISE, De fide ad Gratianum I, 1,8, (CSEL 78, p. 7).

[69] HILAIRE de Poitiers, De Trinitate II,1 (CCSL 62, p. 38).

[70] ÉPHREM de Nisibe, De fide (Against the Disputers), transl. J. B. Morris, Select Works of St. Ephrem the Syrian, 1847, rhythm 52, n° 1 (Morris, p. 273) ; 59, n° 2 (ibid., p. 300) ; 76, n° 1 (ibid., p. 347)

[71] ATHANASE, Traité contre les Ariens, SC 599, II, 41,4, p. 144-145, et 41,5, p. 146-147.

[72] BASILE de Césarée, Sur le Saint-Esprit, 26, SC 17bis, p. 337 ; (Athanasius, Werke I/1 p. 523-526).

يقول باسيليوس: "كيف نصبح مسيحيّين؟ فيجيب الجميع: بالإيمان. ولكن بأيّ سبيل ننال الخلاص؟ لا شكّ في أنّنا وُلدنا من فوق بفضل نعمة المعموديّة. فكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ بعد أن نكون قد اكتسبنا علم هذا الخلاص الذي أتمّه الآب والابن والروح القدس، هل يمكن لنا أن نترك "أصل التعليم" ((τύπον διδαχῆς(روم ٦، ١٧) الذي تسلّمناه؟ (...) فإذا كانت المعموديّة عندي هي أصل الحياة، وإذا كانت أولى الأيام هي أيام التجديد، فمن البديهيّ أنّ الكلمة الأثمن هي تلك التي نُطق بها حين تلقيت نعمة التبنّي الإلهيّ." كذلك الأمر في موضوع الروح القدس عند أثناسيوس، في الرسالة الأولى إلى سيرابيون رقم 30.

[73] ATHANASE, Traité contre les Ariens, SC 599, II, 42,3, p. 149 ; BASILE de Césarée, De Spiritu sancto, 26, SC 17bis, p. 336-339 ; GREGOIRE de Nysse, Discours catéchétique, I,2,e, texte grec de E. Mühlenberg, introduction, traduction et notes par R. Winling, Paris, Cerf, SC 453, 2000, p. 153.

[74] AMBROISE, De fide ad Gratianum I, 9,58 (CSEL 78, p. 25) ; également Zénon de Vérone, Sermones, liber II, serm. II,5,9 (CCSL 22, p. 167).

[75] Voir ATHANASE, De decretis Nicaenae synodi, 33-1 à 33-7, traduction dans L. DINCA, Le Christ et la Trinité chez Athanase d’Alexandrie, Paris, Cerf, Patrimoines, p. 376-377, 2012 et notes 2 et 3, p. 376.

[76] Symbolon =ekthesis= pistis.

[77] HILAIRE de Poitiers, Contre Constance, 16, introduction, texte critique, traduction, notes et index par A. Rocher, Paris, Cerf, SC 334, 1987, p. 200-201.

في هذا المجال، يدافع هيلاريون عن مجمع نيقيا بوجه الاتهام الزاعم بعدم موافقته للكتاب المقدّس، إذ يرى أنّ الأمراض الجديدة تقتضي علاجًا جديدًا. وهكذا، فإنّ عبارة "غير مولود" (innascible) التي كانت من المصطلحات المحوريّة لدى آريوس وأيِّيس وأونوميوس، لم تكن هي أيضًا تعبيرًا واردًا في الكتاب المقدّس لوصف الآب. ويقول: "أنت تقرّر أنّ "الابن مشابهٌ للآب" (similem Patri Filium)، على الرغم من أنّ هذه العبارة لا ترد في الأناجيل: فلماذا لا ترفضها أيضًا؟"

[78] ATHANASE, Epistula ad Afros episcopos, 1,1.3 (Athanasius, Werke II/1, p. 322s.); le credo de Nicée est « suffisant ». Cf. Athanase, Epistula ad Epictetum, 1 (ibid., I/1, p. 705s.).

[79]لقد جرى استخدام عبارة "النيقاويّ" للإشارة أيضًا إلى صياغة اعترافات إيمان توسّعت لاحقًا انطلاقًا من قانون الإيمان النيقاويّ، بشرط أن تبقى ملتزمة بجوهر مضمونه وأن لا تتبنَّى عقائد مخالفة له. راجع DH, 300 وكذلك الفقرة 4 أعلاه.

[80] Concile de Chalcédoine, Actio 3, 10.12 ; 2,1,2, 79 [gr.] ; 2,3,2, 5f [lat.]) (DH, 300).

يستند تعريف "الصيغة العقائدية" (ὅρος =horos) فيمجمع خلقيدونيا إلى مجمع نيقيا، مستعينًا بقانون الإيمان الذي وضعه 150 أبًا مجتمعين في القسطنطينيّة،"وأما من أجل بلوغ المعرفة الكاملة وتثبيت الإيمان القويم، فقد كان هذا القانون الحكيم والخلاصيّ، الموهوب من النعمة الإلهيّة، كافيًا في ذاته؛ إذ يعلّم عن الآب والابن والروح القدس ما هو جازمٌ ونهائيّ، ويعرض سرّ تجسّد الرب أمام أعين الذين هم مستعدون لتقبّله بالإيمان."

[81]فرنسيس أسقف روما، الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ. مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العاديّ لسنة 2025، رقم 17.

[82] ATHANASE, De synodis 5, 1-3 (Athanasius, Werke II/1 p. 234).

[83] BASILE de Césarée, Homilia 16 in illud “In principio erat Verbum, PG 31, col. 471-482.

تجدر الإشارة، في هذا الموضع، إلى أنّ قانون الإيمان، وعلى خلاف مقدّمة الإنجيل بجسب يوحنّا، يتجنّب عمدًا استعمال مصطلح "اللوغوس"، باعتباره مفهومًا مركزيًّا في الفلسفة اليونانيّة، حيث كان يُفهم – لا سيما لدى الآباء المطلعين على الفكر الفلسفيّ اليونانيّ –  فهمًا تبعيًّا (فيه خضوع دونيّ)، بما قد ينسجم مع التأويل الآريوسيّ للعلاقة بين الآب والابن.

[84])"من يُنكر، كما يفعل فوتين أو آريوس، أنّ المسيح هو الله، أو أنّ الابن صادر من الآب، فإنّه يسيء إلى الإنجيليّ يوحنّا"

 CHROMACE d’Aquilée, Sermo 21,3, SC 164, p. 44.؛ "لمن يتبع المسيح، هناك دومًا نور النهار، لأنه يسير في النور الأبديّ. (Sermo 18, 1, SC 164, p. 8)؛ "إنَّ عرش الله وحيد، هو عرش مجد الآب ومجد الابن"، ولا يوجد فرق في الكرامة بينهما."(Sermo 8,4, SC 164, p. 192-195)

[85] ZENON de Vérone, Sermones, liber II, sermo II, 5, n° 9 et 10, CCSL 22, p. 167 ; sermo II, 8, p. 176-178.

[86] JEAN Chrysostome, Trois catéchèses baptismales, III,1, introduction, texte critique, traduction et notes par A. Piedagnel, avec la collaboration de L. Doutreleau, s.j., Paris, Cerf, SC 366, 1990, p. 214-215.

[87] AUGUSTIN d’Hippone, De agone christiano,18, CSEL 41 ; De fide et symbolo, 5 et 18, CSEL 41 ;Augustin dans le De Trinitate I - VII ainsi que dans le Contra sermonem Arianorum et le Contra Maximinum haereticum Arianorum episcopum (Augustinus, Opera – Werke, latein-deutsch : Antiarianische Schriften, 2008).

[88] GREGOIRE de Nysse, Discours catéchétique, 39, 2, texte grec de Mühlenberg, introduction, traduction et notes par Raymond Winling, SC 453, Paris, Cerf, 2000, p. 329-331.

"ينبغي للروح الحكيمة، أن تختار حتمًا بين أحد الخيارين التاليين: إما أنّ تؤمن بأنّ الثالوث القدوس ينتمي إلى طبيعة غير مخلوقة، وأن تتخذه، في الولادة الروحيّة، مصدرًا لحياتها الخاصّة؛ أو تعتبر أنّ الابن والروح القدس غريبان عن طبيعة الله التي هي الأولى، الحقيقية والصالحة، أي طبيعة الآب، فلا تضمّن هذا الاعتقاد في الإيمان الذي تعتنقه عند التجديد، لكي تتجنب أن تدخل عن غير قصد في طبيعة ناقصة تحتاج إلى من يصلحها، وبالتالي تعود، بطريقة ما، إلى ما هو ضد طبيعتها، نتيجة انحراف إيمانها عن الطبيعة الساميّة."

[89] A. GRILLMEIER, « Das “Gebet zu Jesusˮ und das “Jesusgebetˮ », in Fragmente zur Christologie. Studien zum altkirchlichen Christusbild, Fribourg 1997, p. 357-371.

[90]راجع: ٢كو ١٢، ٨ – ٩؛ رو ١٠، ١٢؛ ٢ بط ٣، ١٨؛ كما هناك ابتهالات واردة في الليتورجيا: 1 كو 16، 22؛ رؤ 22، 20؛ ديداخي 10، 6.} ولا سيما أن هناك ترانيم للمسيح (92) {(92)خصوصًا فل ٢، ٦-١١؛ كول ١، ١٥-٢٠؛ أف ١ ، ٣-١٠؛ ١ تيم ٣، ١٦؛ رؤ ٥، ٦-١٤.

[91]راجع خصوصًا : فل ٢، ٦-١١؛ كول ١، ١٥-٢٠؛ أف ١ ، ٣-١٠؛ ١ تيم ٣، ١٦؛ رؤ ٥، ٦-١٤.

[92] Voir De oratione dans Origène, De la prière ; Exhortation au martyre, introduction, traduction et notes par G. BARDY, Paris, Librarie Lecoffre-Gabalda, 1932, X,2, p. 55 ; XV,1, p. 77 ; XVI,1 : p. 81-82 :

"إذا فهمنا ما هي الصلاة، فقد ندرك أنه لا يجوز أن نصلّي لأي كائن مخلوق، ولا حتى للمسيح". راجع :

Contra Celsum, VIII, 13, éd. et trad. M. BORRET, s.j., Paris, Cerf, SC 150, 1969, p. 200-203.

[93] BASILE de Césarée, Sur le Saint-Esprit, 25-29.68, SC 17bis, p. 334-350 ; p. 488-490.

[94]نذكر على سبيل المثال، أثناسيوس الذي يستخدم التمجيد الإلهيّ التقليديّ ضدّ السابيليانيّة، وباسيليوس القيصريّ الذي يوضح في كتابه عن الروح القدس الفرق بين الأيكونوميّا (الشفاعة الخلاصّة للمسيح) واللاهوت ا(لابن المساوي بالقيمة والكرامة).

BASILE de Césarée, Sur le Saint-Esprit, 3.4.16, SC 17bis, p. 256-260 et p. 298-300.

[95] BASILE de Césarée, Sur le Saint-Esprit, XXIX,73, SC 17bis, p. 511.

يُبيّن مثال الأسقف ليونتيوس الأنطاكيّ إلى أي مدى كانت مسألة صيغة الدوكسولوجيا (التمجيد الإلهيّ) تثير التوتر في الحياة الكنسيّة المحليّة: فلكي لا يصطدم بالآريوسيّين ولا بخصومهم، امتنع عن تلاوة كلمات التمجيد بصوت مسموع، حتى لم يكن يُسمع إلا الختام: "إلى دهر الداهرين..."

THEODORET de Cyr, Hist. eccl. 2,24,3, SC 501, p. 446.

[96] BASILE de Césarée, Epistula 159, 2 ; ep. 125, 3, Courtonne II, p. 86 s., puis p. 33s. Voir aussi Sur le Saint-Esprit, VII,16, SC 17bis, p. 298-301 ; X,24, p. 332-335 ; X,26, p. 336-339.

[97] Texte chez A. GRILLMEIER, Fragmente zur Christologie, Fribourg 1997, p. 365.

[98] GREGOIRE de Nysse, Lettres, introduction, traduction et notes par P. Maraval, Paris, Cerf, SC 363, p. 283-285.

[99] CASSIODORE, Expositio psalmorum, prooem. n° 17, CCSL 97, p. 22-23.

[100] يؤكّدالمجمع الثاني في فازيون (524 م): "ليس فقط في الكرسيّ الرسوليّ، بل أيضًا في جميع أنحاء الشرق وأفريقيا وإيطاليا، وبسبب مكر الهراطقة الذين يكفرون بأنّ ابن الله لم يكن دومًا مع الآب، بل بدأ في زمن ما، تُقال في كل خاتمة بعد ”المجد للآب“ وغيرها عبارة: "كما كان في البدء"؛ ونحن أيضًا نقرّر أن تُقال هذه العبارة هكذا في جميع كنائسنا".

IIe synode de Vaison (524 après J.-C.), canon 5, Mansi 8, col. 725

[101] SOZOMENE, Hist. eccl. 8, 8, 1-3, GCS NF 4, p. 360s.; Ambroise, Contra Auxentium sermo de basilicis tradendis n° 34, CSEL, 82/3, p. 105.

[102] De Nativitate IV, 143-214 et XI. Le texte De Nativ. IV, 154-156.

يُظهر هذا النصّ حول سرّ الميلاد وضوحًا كبيرًا: "بينما كان ينام على صدر أمه، كانت جميع المخلوقات تنام بسكون. كان صامتًا كطفل صغير، ومع ذلك كانت تتحرّك الأكوان بأمره. فبدون البكر، لا يستطيع أحد أن يقترب من جوهر الألوهة. لأنّه هو القادر وحده على ذلك."

BECK ed., Louvain 1959, CSCO 186, p. 39; 187, p. 34; trad. fr. F. Cassingena-Trévedy, o.s.b., Paris, Cerf, 2001, SC 459, p. 103).

[103] De fide LXXVI, 1-3. 7, (ed. Beck, Louvain, 1955, CSCO 154, p. 232-233; 155, p. 198-199; trad. anglaise, J. T. Wikes, St. Ephrem the Syrian. The Hymns on Faith, Washington D.C., CUA Press, 2015, p. 361-362); ibid., VI, 1-8 (CSCO 154, p. 24-27; 155, p. 18-20; Wikes, p. 90-93.

[104] Voir les hymnes De fide, XL et LXXIII.

[105] Hymnes De fide, LII, 1-3 (CSCO 154, p. 161-162; CSCO 155, p. 138; Wikes, p. 269)

[106] EPHREM de Nisibe, Hymnes contre les hérésies. Hymnes contre Julien, tome I. Hymnes contre les hérésies I-XXIX, XXII, 20, Texte critique du CSCO de E. Beck, o.s.b.; introduction, traduction, notes et index de D. Cerbelaud, o.p., Paris, Cerf, SC 587, 2017, p. 399.

وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ تعليم القديس أفرام، وإن كان منسجمًا بالتمام مع أإيمان نيقيا الصحيح، إلا أنّ مفرداته ومصطلحاته ليست من صياغة نيقاويّة تقليديّة، ويُعزى ذلك على الأرجح إلى الشكل الشعريّ – لا الجدليّ – الذي اختاره عن وعي لنقل تعليمه.

Cf. Wikes, p. 36-39.

[107] BALAÏ (Balaeus), Gebete, BKV 26, p. 92s.; Isaac d’Antioche, 1er poème sur l’Incarnation (S. Isaaci Antiochi Opera omnia I, ed. G. Bickell, 1873, p. 23).

[108] Venturo in nostram faciem post saecula Christo,

[109] Christus forma Patris, nos Christi forma et imago ; Condimur in faciem Domini bonitate paterna ; Apotheosis, linea 309-311, CCSL 126, p. 87.

[110] Henri de LUBAC : « Omnem novitatem attulit, semetipsum afferens », Irénée de Lyon, Contre les hérésies, IV,34,1, éd. A. Rousseau, tome II, SC 100, Paris, Cerf, 1965, p. 846-847 ; voir aussi François, Evangelii gaudium, 2013, n° 11.

[111]راجع الدستور في الوحي الإلهيّ، I، 2 - 5، وII،  7- 8.

[112]"لا يمكننا أن نعرف الله بدون مساعدته هو لنا" راجع:

IRENEE de LYON, Contre les Hérésies, IV,5,1, tome II, SC100, p. 426-427.

[113]إذا كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم وشهادة الله هي أنّه شهد لابنه. من آمن بابن الله كانت تلك الشهادة عنده" (1يو 5، 9-10)

[114]في الوحي الإلهيّ، رقم 2.

[115] J. RATZINGER, Gesammelte Schriften, Band VI/1, 408f, Herausgeber : Gerhard Ludwig Müller, Freiburg im Breisgau, Herder Verlag, 2014; J. RATZINGER/Benoît XVI, Jésus de Nazareth, 1. Du Baptême dans le Jourdain à la Transfiguration, Paris, Flammarion, 2007, p. 377-378.

[116]دستور عقائدي في الوحي الإلهيّI، 2؛ راجع أيضًا 2 بط 1، 4.

[117] Voir THOMAS D’AQUIN, Somme théologique, II-II, q.25, a.1, Resp.

[118]يؤكّد بولس أنّ المسيح يُدخِلنا في فكر الله ذاته، مستشهدًا بأشعياء 40:13: "من يعرف فكر الربّ ليُعلّمه؟ أما نحن فلنا فكر المسيح" (انظر أيضًا روم 11، 34).راجع أيضًا :

M. QUESNEL, La première épître aux Corinthiens, Commentaire Biblique : Nouveau Testament, Cerf, 2018, p. 88-92.

[119]البابا فرنسيس: نور الإيمان، رقم 2016. فقرة .13

[120] GREGOIRE le Grand, Homiliae in Evangelia, II, 27, 4 : PL 76, 1207 ; Voir François, Discours à Naples à l’occasion de la conférence « La théologie après Veritatis Gaudium dans le contexte méditerranéen », 21 juin 2019, p. 9.

[121] المرجع السابق.

[122]"من خلال عظمة الخليقة وجمالها، يستطيع الإنسان أن يتأمل، بالمماثلة بخالقه" (حك 13، 5). راجع أيضًا:

SANCTI THOMAE DE AQUINO Scriptum super Sententiis liber I, q. 1, a. 2, ad 2, qui évoque l’« analogia creaturae ad creatorem ».

[123] M. LOCHBRUNNER, Analogia Caritatis. Darstellung und Deutung der Theologie Hans Urs von Balthasars, Freiburg im Brisgau – Basel – Wien, Herder, coll. « Freiburger Theologische Studien », n° 120, 1981, p. 62 et p. 292-293. Voir aussi : Commission Théologique Internationale (CTI), Théologie, christologie et anthropologie, 1981, D, n° 1

تقول الوثيقة في الفقرة الأولى:  "إنّ الإعلان الذي يتمحور حول يسوع المسيح، ابن الله، يُعرض تحت الشعار الكتابي: "لأجلكم". ولهذا السبب، يجب أن تُقارب الخريستولوجيا بكاملها من منظور خلاصّي. ومن ثمّ، فليس من الغريب إلى حدّ ما، أن يكون قد حاول بعضُ الباحثين المعاصرين تطوير خريستولوجيا "وظيفيّة". غير أنّه من الضروريّ أيضًا أن نؤكّد أنّ "الوجود من أجل الآخرين" ليسوع المسيح لا يمكن فصله عن علاقته بالآب، ولا عن شركته العميقة معه، وأنّ هذا الوجود لا بدّ له أن يستند بالضرورة إلى بنوّته الأزليّة. إنّ وجود يسوع المسيح الأزليّ،من أجل الآخرين، والذي يتمّ من خلاله تواصل الله مع الإنسان، يفترض وجوده الأزليّ هذا."

[124]في هذا الإطار يؤكّد القديس توما الأكوينيّ على أنّ آدم قد أُعطي النعمة عند خلقه، إذ لولاها لما كان في وسعه أن يحقّق دعوته الإنسانيّة، راجع :

SANCTI THOMAE DE AQUINO Scriptum super Sententiis liber II, d.29, q.1, a.2 ; d.30, q.1, a.1 ; Somme théologique, I, q.95, a.1 ; I-II, q.109, a.5.

[125] J. RATZINGER/Benoît XVI, Ils regarderont celui qu’ils ont transpercé, Contributions à une christologie spirituelle, traduit de l’allemand par R. Kremer et M.L. Wilverth-Guitard, Paris, Éd. Salvator, 2006, p. 29 (JRGS VI/2, p. 701).

[126] Ibid., p. 30-31 (JRGS VI/2, p. 702).

[127]فقال لهم يسوع: "الحقّ الحقّ أقول لكم: لا يستطيع الابن أن يفعل شيئا من عنده بل لا يفعل إلا ما يرى الآب يفعله. فما فعله الآب يفعله الابن على مثاله. لأنّ الآب يحبّ الابن ويريه جميع ما يفعل وسيريه أعمالا أعظم فتعجبون." (يو 5، 19 -20)؛ "فإن البلاغ الذي سمعتموه منذ البدء هو أن يحبّ بعضنا بعضا." (1يو 3، 11)

[128]جوزيف راتسنغر/ بندكتس السادس عشر، سوف ينظرون إلى الذي طعنوه، ص. 38. (JRGS VI/2, p. 707).

[129] Voir Benoît XVI, Lettre Encyclique Caritas in veritate, 2009, n° 33.

[130] P. FLORENSKY, La colonne et le fondement de la vérité, L’Âge d’Homme, Lausanne, 1975, p. 42 (trad. modifiée).

[131] I credo di Nicea, I, 2,1, trad. E. Cattaneo, Roma, Città Nuova, 2001 (cf. PG 25, 425 D-428 A) ; tr. cit. p. 57. Voir aussi ATHANASE, De decretis Nicaenae synodi, dans L. DINCA, Le Christ et la Trinité chez Athanase d’Alexandrie, p. 334-380.

[132] AUGUSTIN, Confessions, III, vi, 11, CCL 27, p. 33 ; THOMAS D’AQUIN, Somme théologique, I, q.104, a.1, Resp.

[133] CTI, Théologie, Christologie et anthropologie, 1982, C.

[134]البابا فرنسيس: فرح الإنجيل، 2013، رقم 115.

[135]يمتاز الشخص البشريّ بأنه لا يرتقي حقًّا وتمامًا الى مستوى الإنسانيّة إلاّ عن طريق الحضارة، أي عندما يستثمر خيارات الطبيعة الإنسانية وقيمها. (الدستور فرح ورجاء، رقم 53)

[136]راجعالبابا فرنسيس، فرح الإنجيل، رقم 115. وفي دور الآداب في التّنشئة، رقم 17. وفي تجديد دراسة تاريخ الكنيسة، 21 تشرين الثاني /نوفمبر 2024.

[137] البابا فرنسيس، فرح الحقيقة، الرقم 2، مستوحىً من رسالة البابا بولس السادس بشارة الإنجيل، الرقم 19.

[138]مرسوم في نشاط الكنيسة الرسوليّ، رقم 11.

[139] نورد على سبيل المثال، تعبير"ἐγώ εἰμι" (أنا هو) في الإنجيل الرابع، أو المصطلحات الموجودة في الرسالة إلى العبرانيّين 1:3، أو في رسالة بطرس الثانية 1:4.

[140]عندما دخلت الكنيسة في حوار مع الحضارات الكبرى التي لم تلتقِ بها من قبل، لم يكن بمقدورها أن تتخلّى عمّا اكتسبته من انغراسها في الفكر اليونانيّ اللاتينيّ. إنّ رفض هذا الإرث يعدّ خروجا عن المقصد الإلهيّ، الذي يرشد كنيسته على مدى دروب الزمن والتاريخ.

[142]راجع موضوع "لاهوت الإصغاء" بوصفه ترياقًا لـ"متلازمة بابل"، خطاب البابا فرنسيس، في نابولي بمناسبة مؤتمر "اللاهوت بعد "فرح الحقيقة" في السياق المتوسطيّ"، 21 حزيران 2019، الرقمان 4-5.

[143]إنّ تطهير الثقافات وتجلّيها في نور الوحي يتيح لها تجاوز خطر النسبيّة، الذي حذّر منه مجمع العقيدة والإيمان في وثيقة "الربّ يسوع"، الرقم 4.

[144]"لقد أفرز لقاء الإيمان مع الثقافات المختلفة في الحقيقة واقعًا جديدًا". البابا يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل، الرقم؛ أنظر أيضًا بخصوص المحافظة على الهويّة الثقافيّة: المرجع نفسه، الرقم 71.

[145] À Diognète, V,1-4, dans B. Pouderon, J.-M. Salamito, V. Zarini, Premiers écrits chrétiens, p.813.

[146]"ويكون في آخر الأيام أنّ جبل بيت الربّ يوطّد في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال. وتجري إليه جميع الأمم. وتنطلق شعوب كثيرة وتقول: هلموا نصعد إلى جبل الربّ إلى بيت إله يعقوب (...) لأنّها من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الربّ. (...) فلا ترفع أمّة على أمّة سيفا ولا يتعلمون الحرب بعد ذلك. (أش 2، 2-4، راجع ايضا ميخا 4، 1 - 4) "لأنّ بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الشعوب." (أش 56، 7؛ راجع أيضًا زك 14، 16).

[147]من الملفت للنظر أن يحتفي بولس، أثناء تبشيره بالإنجيل بعد العنصرة، بوحدة الأسرة الإنسانيّة في خطابه أمام الأريوباغوس قائلاً: "فقد صنع جميع الأمم البشريّة من أصلٍ واحد، ليسكنوا على وجه الأرض كلها، وجعل لسكناهم أزمنة موقوتة وأمكنة محدودة." (أع 17، 26

[148]رسالةالبابا يوحنا بولس الثاني، في الإيمان والعقلة الرقمان 95 – 96.

[149] CTI, La synodalité dans la vie et dans la mission de l’Église, 2018, I, n° 19.

[150] CYPRIEN, Epistula 14, 4 (CSEL III, 2, p. 512).

هذا التعمّق في فكر إغناطيوس الأنطاكيّ وكبريانوس القرطاجيّ، يرد في وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة حول "السينودوسية في حياة الكنسية ورسالتها"، الرقم ٢٥.

[151]راجع وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة حول السينودسيّة، الرقم 28.

[152] J. A. BRUNDAGE, Medieval Canon Law, London-New York, Longman, 1995, p. 5.

[153]السينودس، من حيث المبدأ، "يُحكم وفقًا لمبدأ التوافق والانسجام (ἁρμονία) الذي تُعبّر عنه المشاركة معًا في الاحتفال الإفخاريستيّ، كما توحي بذلك التسبحة الختاميّة في القانون الرسوليّ، راجع: وثيقة رافيننا، الصادرة عن اللجنة العالميّة المشتركة للحوار بين الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة : "الخلاصات الإكليزيولوجيّة والقانونيّة لطبيعة الكنيسة الأسراريّة؛ الشركة الكنسيّة، المجمعيّة والسلطة"، الرقم 26. كانت "الكنيسة تُظهِر ذاتها كنيسة جامعة في الاحتفال الإفخاريستيّ (σύναξις)في كلّ كنيسة محلّيّة" ( المرجع نفسه، الرقم 26).

[154] الدستور في الليتورجيا المقدسة، الرقم 10؛ وثيقة اللجنة اللاهوتية العالميّة، "السينودسية في حياة الكنيسة ورسالتها"، الرقم 47.

[155] وثيقة اللجنة اللاهوتية العالميّة، "السينودسية في حياة الكنيسة ورسالتها"، الرقم 29.

[156]كان روسيلو يرى أنّ بعض أساليب الاستكشاف عند القديس توما تتجلّى في مفهوم «الأسبقيّة والسبق المتبادلين» بين مبدأين لا ينفصلان، بل يرتبط كل منهما بالآخر تنظيمًا ووجوبًا.

P. ROUSSELOT s.j., « Les Yeux de la foi », RSR, 1910, p. 448.

[157] Voir AUGUSTIN d’Hippone : « Crede ut intelligas », Sermo 43, 7 et 9 (CCSL 41, Pars XI,1, Sermones de Vetere Testamento, p. 511 et 512) ; Anselme : « Credo ut intelligam », Proslogion, 1,100, dans ANSELME de Cantorbery, Monologion ; Proslogion, introductions, traduction et notes par M. Corbin,... ; [texte latin établi par Dom F. Schmitt] Paris, Cerf, 1986, p. 242-243.

[158]"ألم يُراد، وبحقّ، أن يُمنح المجمع [الفاتيكانيّ الثاني] هدفًا راعويًّا يتمثل في إدماج الرسالة المسيحيّة في حركة الفكر والتعبير والثقافة والعادات والاتجاهات التي تعيشها البشريّة اليوم على وجه الأرض؟"، بولس السادس، الرسالة العامة: كنيسته، الرقم 70.

[159] الدستور في الوحي الإلهيّ، الرقمان 7-8.

[160] تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، الرقم 156، بالإشارة إلى الدستور العقائديّ "ابن الله" (الفاتيكانيّ الأوّل)، الفصل الثالث.

[161]هذه الشهادة، إما تكون من الإنسان فقط: وهذه لا تُنشئ فضيلة الإيمان، لأنّ الإنسان يمكنه أن يُخطئ وأن يُخدع. أو أن تكون صادرةً عن حكم إلهيّ: وهذه أصدق الشهادات وأثبتها، لأنّها صادرة عن الحقّ ذاته، الذي لا يمكنه أن يُخطئ ولا أن يُخدع. ولذلك يقول: إلى الله، أي ليوافق على ما يقوله الله." (القديس توما الأكوينيّ، شرح رسالة القديس بولس إلى العبرانيّين، الفصل السادس، الدرس الأول)

[162]إن المصطلح المستخدم بالعادة هو "البنوّة"، غير أن المقصود هنا هو التشديد على بَدء هذه البنوّة، أي على الحركة عينها التي يصير بها الإنسان ابنًا لله أو ابنةً له.

[163]"ولتبيان نيَّةِ الكُتَّاب القديسين يجبُ من بين ما يَجبُ اعتباره، اعتبارَ الفنونِ الأدبيَّة أيضًا. فالحقيقةُ تُعرَضُ وتُفَسَّرُ بصورٍ مختلفةٍ، في نصوصٍ تاريخيةٍ متنوّعةٍ، أو نصوصٍ نَبَويّةٍ أو شعريّةٍ أو في غيرها من أنواعِ التعبير(...).بما أنّه لا بدّ من قراءة الكتابِ المقدس وتفسيره بالفكر عينه الذي فيهِ كُتِبَ. المجمع الفاتيكانيّ الثاني، في الوحي الإلهيّ، الرقم 12.

[164]"وتدبيرُ الوحي هذا يقومُ بالأعمال والأقوال التي ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقًا، بحيثُ أنَّ الأعمال التي حقَّقَها الله في تاريخ الخلاص تُبرِزُ العقيدةَ والحقائقَ التي تُعَبِّرُ عنها الأقوالُ وتدعمُها، بينما الأقوالُ تعلنُ الأعمالَ وتوضح السرَّ الذي تَحويه." راجع الدستور في الوحي الإلهيّ، الرقم 2.

[165]رسالة البابا بندكتوس السادس عشر، "كلمة الله"، الرقم 55.

[166]"إنّ سرّ الكنيسة، إن جاز القول، أعمق، بل "أشدّ صعوبةً في الإيمان"، من سرّ المسيح، كما أنّ سرّ المسيح نفسه كان، بدوره، أصعبَ في الإيمان من سرّ الله." راجع:

H. de LUBAC, Catholicisme. Les aspects sociaux du dogme (1938), dans Œuvres complètes VII, éd. M. Sales, s.j. – M.-B. Mesnet, 2003, p. 48-49.

[167]قرار في الحركة المسكونيّة، الرقم 11.

[168]نشير هنا بمفهوم "المحادثة في الروح القدس"؛ راجع: البابا فرنسيس، "خطاب افتتاح الدورة السادسة عشرة لسينودس الأساقفة"، 4 تشرين الأول / أكتوبر 2023، حيث قال: "الكنيسة هي انسجام واحد من الأصوات المتعدّدة، يصنعه الروح القدس: هكذا ينبغي لنا أن نفهم الكنيسة".

[169]راجع وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة حول السينودسيّة، الأرقام 19-21.

[170]الدستور العقائديّ "في الوحي الإلهيّ"، الرقم 10.

[171]وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة، "حسّ الإيمان"، الرقم 77.

[172] قرار في نشاط الكنيسة الإرساليّ، الرقم 15.

[173]" يتجسّد إيماني كلّه في أبسط إشارة، وهي إشارة الصليب، وعندما أنطق بكلمة "أبانا"، أكون قد شملت بالفعل كلّ ما لن تُكشف معرفته لي إلا في إعلان المجد." راجع :

Y. CONGAR, La Tradition et les traditions. Essai théologique, Paris, Fayard, 1e éd.,1963, t. 2, p. 185

[174] وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة، " اللاهوت اليوم: آفاق، مبادئ ومعايير"، الرقم  33:"في خدمة يسوع النبويّة، إذ نال المؤمن المعمّد مسحة الروح القدس (1 يو 2، 20 - 27)، فلا يمكن أن يخطئ في الإيمان".

[175] TERTULLIEN, Liber de praescriptionibus adversus haereticos, XX,8-9, introduction, texte critique et notes de R. F. Refoulé, o.p., traduction de P. de Labriolle, Paris, Cerf, SC 46, p. 113-114.

[176]نور الأمم، الرقم 12.

[177] المرجع السابق، الرقمان 24 و25.

[178]هذا المفهوم القائم على الترويج لمبدأ السياسيّ-الدينيّ تبنّته الكنيسة أثناء توسّعها في الإمبراطورية الرومانيّة. لكنّه اصطدم بمفهوم لاهوت الوثنيّين حيث يحكم الملك بسلطة إلهيّة، حيث الآلهة الوطنيّة تدير الأمور. للردّ على هذه الآراء اللاهوتيّة الوثنيّة التي تمّ تكييفها بما يتناسب مع الإمبراطورية الرومانيّة، أكّد المسيحيّون آنذاك أنّ الآلهة القوميّة لا تملك سلطان الحكم، إذ إنّ تعدّد الآلهة القوميّة قد ألغي. […]  إن إعلان المسيحييّن عن إله في ثلاثة أقانيم يتجاوز اليهوديّة والوثنيّة، لأنّ سرّ الثالوث يكمن في الألوهيّة ذاتها، لا في المخلوق. الأمر نفسه ينطبق على السلام الذي يبحث عنه المسيحيّ، الذي لا يتحقّق بواسطة أيّ إمبراطور، بل هو عطية من الذي هو فوق كل عقل". راجع:

E. PETERSON, Der Monotheismus als politisches Problem. Ein Beitrag zur Geschichte der politischen Theologie im Imperium Romanum, Leipzig, 1935, p. 104s.

[179] وثيقة اللجنة اللاهوتيّة العالميّة، "حسّ الإيمان"، الرقم 26.

Sur Newman et le critère du sensus fidei fidelium contre les divergences des évêques du 4e s. ; au n° 34, sur la conception renouvelée au XIXe s. du caractère actif et non seulement passif du sensus fidei fidelium ; au n° 113 et au n° 118, sur le rapport entre sensus fidei et opinion publique majoritaire, dans et hors de l’Église.

[180] François, Constitution apostolique Veritatis Gaudium, 2017, n° 3.

[181] Lettre 90 « À Natalia Dmitrievna Fonvizina, fin janvier-février 1854, Omsk », dans F.DOSTOÏEVSKI, Correspondance. Édition intégrale, présentée et annotée par J. Catteau. Traduit du russe par Anne Coldefy-Faucard. Tome 1, 1998, p. 341.

[182]"إن لديهم (لدى الفقراء) ما يعلّموننا إياه. علاوة على مشاركتهم في حسّ الإيمان بآلامهم الخاصّة، فهم يعرفون المسيح المتألّم. فلا بدّ إذن من أن ندعهم يبشّروننا جميعًا. البشارة الجديدة بالإنجيل دعوة إلى أن نعرف قوّة وجود الفقراء الخلاصيّة، وأن نضعهم في صميم مسيرة الكنيسة. إنّا مدعوون إلى اكتشاف المسيح فيهم، فنعيرهم صوتنا للدفاع عن قضاياهم، وأن نكون أيضًا أصدقاء لهم، وأن نصغي إليهم، ونفهمهم وأن نتقبّل الحكمة السريّة التي يريد الله أن يبلغنا إياها من خلالهم". راجع "فرح الإنجيل"، الرقم 198.

[183]"تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة"، الرقم 540. "لقد غلب المسيح المجرِّب من أجلنا" (الرقمان 394 و677).

[184] بيانٌ في "الحريّة الدينيّة"، الرقم 11.

[185]البابا فرنسيس، "لقد أحبّنا"، الرقم 214.