Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PT ]

التأمّل الثالث:

رائحة المسيح الطيّبة ونور رحمته

بازيليك القديس بولس خارج الأسوار

بمناسبة يوبيل الكهنة

الخميس 2 يونيو/حزيران 2016

[Multimedia]


 

نرجو أن يمنحنا الرب ما طلبنا في صلواتنا: أن نتمثّل بصبر يسوع، ونتخطّى، بفضل الصبر، كل الصعوبات. 

عنوان هذا التأمل الثالث هو: "رائحة المسيح الطيبة ونور رحمته"

في هذا اللقاء الثالث أقترح عليكم أن نتأمّل حول أعمال الرحمة، سواء من خلال التوقف عند بعضها، التي نشعر بأنها متعلّقة أكثر بموهبتنا، أو من خلال التأمل بها كلها معًا من خلال عيني العذراء الرحيمتين اللتين تجعلاننا نكتشف الخمر التي تنقص وتشجّعنا "لنفعل كل ما يأمرنا به يسوع" (را. يو 2، 1- 12)، لكي تحقق رحمته الآيات التي يحتاج إليها شعبنا.

ترتبط أعمال الرحمة كثيرًا بالـ "معاني الروحيّة". عندما نصلّي نطلب نعمة أن "نشعر ونتذوّق" الإنجيلَ بشكلٍ يجعلنا حسّاسين تجاه الحياة. وإذ يحركنا الروح القدس ويقودنا يسوع يمكننا أن نرى من بعيد، بأعين الرحمة، الشخصَ المُمدّد على الأرض على قارعة الطريق، ويمكننا أن نسمع صرخة برتيماوس، وأن نشعر كيف شعر الرب على طرف ردائه لمسة النازفة الخجولة وإنما القاطعة، يمكننا أن نطلب النعمة بأن نتذوّق معه على الصليب مرارة جميع المصلوبين، لنتنشق هكذا رائحة البؤس القويّة – في المستشفيات الميدانيّة والقطارات والمراكب المليئة بالناس -؛ تلك الرائحة التي لا يتغلّب عليها زيت الرحمة، ولكن بدهنه يوقظ الرجاء.

يخبر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بحديثه عن أعمال الرحمة أن القديسة روزا دا ليما، في اليوم الذي وبّختها فيه أمها على استقبالها للفقراء والمرضى في البيت، قالت لها القديسة روزا دا ليما بدون تردّد: "عندما نخدم الفقراء والمرضى نكون رائحة المسيح الطيّبة" (عدد 2449). إن رائحة المسيح الطيّبة هذه –الاعتناء بالفقراء– تُميِّز الكنيسة، وهكذا كان الأمر على الدوام. لقد ركّز بولس هنا لقاءه مع "أعمدة الكنيسة"، كما يسمّيهم، أي مع بطرس ويعقوب ويوحنا. لقد "سألونا فقط أن نتذكّر الفقراء" (غل 2، 10). يذكّرني هذا بأمر قلته بعض الأحيان: حين انتخبت بابا، وبينما كانوا ما يزالون يتابعون الاقتراع، اقترب مني أحد الكرادلة إخوتي، عانقني وقال لي: "لا تنسى الفقراء". كانت هذه أوّل رسالة يوصلها الرب إلي في هذه اللحظات. يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أيضًا وبشكل معبّر أن "الذين يعانون من الفقر والبؤس هم موضوع حبٍّ وتفضيل من قبل الكنيسة التي ما برحت منذ بدايتها، ورغمًا عن أوهان الكثيرين من أعضائها، تعمل على مساعدتهم والدفاع عنهم وتحريرهم" (عدد 2448). وهذا دون أيديولوجيات، بقوة الإنجيل فقط.

كان لدينا في الكنيسة وما زال، الكثير من الأمور غير الصالحة والعديد من الخطايا، لكن وفي إطار خدمة الفقراء من خلال أعمال الرحمة، ككنيسة، قد تبعنا الروح القدس على الدوام، وقديسونا قد قاموا بذلك أيضًا بأسلوب مبدع وفعّال جدًّا. لقد كانت محبّة الفقراء العلامة والنور التي تجعل الناس يمجدّون الآب. إن شعبنا يقدّر هذا الأمر: أي الكاهن الذي يعتني بالفقراء والمرضى ويسامح الخطأة ويعلّم ويؤدّب بصبر... إن شعبنا يسامح الكهنة على العديد من نواقصهم ولكن لا يسامحهم على تعلُّقهم بالمال. الشعب لا يسامح هذا. وليس بسبب الغنى بذاته، وإنما لأنّ المال يجعلنا نفقد غنى الرحمة. إن شعبنا يشعر عن طريق الحدس أي من خطايا الراعي هي خطيرة، وتلك التي تقتل خدمته لأنّها تجعله موظّفًا لا بل وأسوء من ذلك أجيرًا، وتلك التي، لن أسميها خطايا ثانويّة، -لأني لست أدري إن كان هذا صحيحًا لاهوتيًّا- وإنما خطايا يمكن احتمالها وحملها كصليب إلى أن يطهّرها الرب في النهاية كما سيفعل مع الزؤان. لكن ما يُسيء إلى الرحمة هو تناقض جوهري. يُسيء إلى ديناميكيّة الخلاص وإلى المسيح الذي "افتَقَرَ لأَجلنا وهو الغَنِيُّ لِنغتني بِفَقرِه" (را. 2 كور 8، 9). والأمر هو هكذا لأنّ الرحمة تعتني بالآخر "من خلال فقدان شيء من ذاتها": قطعة صغيرة من القلب تبقى مع الشخص المجروح؛ وقت من حياتنا، كنا نرغب بأن نقوم بشيء ما خلاله، نخسره عندما نقدّمه للآخر، في عمل رحمة.

لذلك ليست المسألة أن يستعمل الله الرحمة معي في نقص معيّن، كما ولو أنني أكفي ذاتي في الباقي، أو أنني أحيانًا أقوم بعمل رحمة مميّز تجاه معوز ما. إن النعمة التي نطلبها في هذه الصلاة هي أن نسمح لله بأن يرحمنا في جميع جوانب حياتنا وأن نكون رحماء مع الآخرين في جميع تصرّفاتنا. إن الرحمة بالنسبة لنا نحن الكهنة والأساقفة الذين نمنح الأسرار، فنعمّد ونعرِّف ونحتفل بالإفخارستيا... تشكّل الأسلوب لتحويل حياة شعب الله بأسرها إلى سرّ. أن نكون رحماء ليس أسلوب حياة وحسب، وإنما هو ما نحن عليه: وما من خيار آخر كي نكون كهنة. لقد كان الكاهن بروشيرو يقول: "إن الكاهن الذي لا يشعر بالشفقة تجاه الخطأة هو نصف كاهن. ليست الخرق المباركة التي أرتديها هي التي تجعل مني كاهنًا؛ إن لم أحمل المحبة في قلبي فلست حتى بمسيحي".

ميزة من ميزات نظرة الأب هي أن أرى ما ينقص كي أصحح الوضع، لا بل وأفضل من ذلك، هي أن أستبقه. هذه النظرة الكهنوتيّة – لمن يقوم بدور الأب في قلب الكنيسة الأم – التي تحملنا لنرى الأشخاص في منظار الرحمة، هي التي يجب أن تُعلَّم انطلاقًا من الإكليريكية وينبغي أن تغذّي جميع الخطط الراعوية. نرغب ونطلب من الرب نظرةً تعلِّمنا أن نميّز علامات الأزمنة في مجال "أعمال الرحمة التي يحتاج إليها اليوم شعبنا"، ليتمكّن من أن يشعر ويتذوّق إلهَ التاريخ الذي يسير في وسطه. لأنَّه، وكما تقول وثيقة آباريسيدا مستشهدة بالقديس ألبرتو هورتادو: "من خلال أعمالنا يعرف شعبنا أننا نفهم ألمه" (عدد 386).

إن العلامة لفهم شعبنا هذا هو أن الله يباركنا دائمًا في أعمال الرحمة التي نقوم بها، وأننا نحصل على مساعدة وتعاون شعبنا. لكن الأمر ليس كذلك في انواع أخرى من المشاريع التي تسير أحيانًا على ما يرام وأحيانًا لا، وبالتالي يسعى بعض الذين لا يدركون سبب عدم سير الأمور، إلى البحث عن خطط راعوية جديدة، فيما يكفي أن يقولوا ببساطة: إن الأمور لا تسير لأن الرحمة تنقصها؛ بدون الحاجة للدخول في التفاصيل. إن لم تكن مباركة فلأنَّ الرحمة تنقصها؛ تنقصها تلك الرحمة التي تنتمي إلى مستشفى ميداني أكثر منه إلى عيادة فخمة، تلك الرحمة التي، وإذ تقدّر ما هو صالح، تحضّر الأرض للقاء مستقبلي للإنسان مع الله بدلاً من أن تبعده من خلال انتقاده في نقطة معيّنة.

أقترح عليكم أن نصلي مع الخاطئة التي غُفر لها (را. يو 8، 3- 11)، لطلب نعمة أن  نكون رحماء في الاعتراف، ونعمة أخرى تخصّ البعد الاجتماعي لأعمال الرحمة.

يؤثّر فيَّ على الدوام مقطع الرب مع المرأة الزانية، كيف أنه، عندما لا يحكم عليها، "ينتهك" الشريعة؛ في تلك الحالة المحدّدة التي طلبوا منه أن يبُتَّ فيها –إن كان يجب رجمها أم لا؟- لم يتكلّم ولم يطبّق الشريعة. تظاهر بأنّه لم يفهم –وفي هذا أيضًا، الرب هو معلّم لنا جميعا- وفي تلك اللحظة بيّن لهم شيءً آخر. بدأ هكذا عمليّة في قلب المرأة التي كانت تحتاج لهذه الكلمات: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ". وإذ مدّ لها يده جعلها تقف، وهذا الأمر سمح لها بأن تلتقي بنظرة مُفعمة بالعذوبة غيّرت لها قلبها. يمد الرب يده لابنة يائير: "أطعموها". وإلى الصبي الميت، في نايين: "قم"، ويمدها إلى أمه. وإلى هذه المرأة الخاطئة: "قومي". الرب يقيمنا تماما كما أراد الله أن يكون الإنسان: وافقًا، أبدًا ملقًا على الأرض. أشعر أحيانًا بمزيج من الأسى والامتعاض عندما يجتهد أحد ما في شرح الوصيّة الأخيرة "لا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" ويستعمل هذه الجملة "للدفاع" عن يسوع، كي لا يكون الأمر كما لو أنه قد انتهك الشريعة. أعتقد أن الكلمات التي يستعملها الرب لا تنفصل عن تصرفاته. إن انحناءه ليخط بِإِصبَعِه في الأَرض لمرتين، خالقًا بذلك وقفة قبل أن يتوجّه إلى الذين أرادوا أن يرجموا المرأة، ووقفة أخرى قبل أن يتوجّه إليها، يحدّثنا عن الوقت الذي يأخذه الرب لنفسه كي يحكم ويغفر. وقتٌ يعيد كل فرد إلى ذاته، ويحمل الذين يدينون على الانسحاب.

في حواره مع المرأة يفتح الرب فسحات أخرى: وإحداها فسحة عدم الإدانة. والإنجيل يشدّد على هذه الفسحة التي بقيت مفتوحة. يضعنا تحت أنظار يسوع ويقول لنا إنه "لم يرَ أحدًا حوله إلا المرأة وحدها"، ومن ثمّ يحمل يسوع المرأة على النظر حولها من خلال السؤال: "أين هم أولئك الذين صنّفوكِ؟" (هذه الكلمة مهمّة لأنها تُخبر عما نرفضه بشدّة، كحين يتمّ تصنيفنا أو الاستهزاء بنا...). وعندما جعلها تنظر إلى الفسحة الحرّة من حكم الآخرين، قال لها إنه لن يرجمها أيضًا: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ". وفي تلك اللحظة فتح لها فسحة حرّة أخرى: "اذهبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة". أعطيت لها هذه الوصية للمستقبل، كي تساعدها على التقدم، وكي "تسير في المحبة". هذه هي رقّة الرحمة التي تنظر بشفقة إلى الماضي وتشجّع على المستقبل. هذا الـ "لا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" ليس أمرًا مسلَّمًا به. فالرب يقوله "معها"، يساعدها لتعبِّر من خلال الكلمات عما كانت تشعر به، تلك الـ "لا" الحرّة للخطيئة التي تشبه "نعم" مريم للنعمة. فالـ "لا" تُقال بالنسبة إلى جذور خطيئة كل فرد. في حالة المرأة كان الأمر يتعلّق بخطيئة اجتماعيّة، بخطيئة شخص يقترب الناس منه إما ليكونوا معه أو ليرجموه. لم يكن هناك من نوع آخر للتقرب من هذه المرأة.  لذلك فالرب لا يُحرِّر لها الدرب وحسب وإنما يضعها في المسيرة أيضًا لكي لا تبقى بعد الآن "غاية" نظر الآخرين وتصبح رائدة حياتها. أعتقد أن الـ "لا تَعودي إِلى الخَطيئة" لا يتعلّق فقط بالجانب الخلقي وإنما أيضًا بنوع خطيئة لا يسمح لها بعيش حياتها. فيسوع قد قال أيضًا لكسيح سيلو: "لا تَعُد إِلى الخَطيئَة" (يو 5، 14)؛ لكن لهذا الرجل الذي كان يبرّر نفسه بالأمور التعيسة التي كانت تحصل له وكان يتصرّف كالضحية –لكن المرأة، كلا-، يثيره قليلاً بقوله: "لِئَلاَّ تُصابَ بِأَسوَأَ". فالرب يستفيد من أسلوبه في التفكير، وممّا يخيفه، ليجعله يخرج من شلله. لنقُل إنّه يحرّكه بالخوف. هكذا ينبغي على كل منا أن يسمع هذا الـ "لا تَعُد إِلى الخَطيئَة بعد الآن" بطريقة حميمة وشخصيّة.

إن هذه الصورة للرب الذي يضع الأشخاص في مسيرة هي حقا خاصة به: إنه الله الذي يسير مع شعبه والذي يقود تاريخنا ويرافقه. لذلك فالهدف الذي تتوجّه إليه الرحمة هو واضح جدًّا: تتوجّه إلى ما يجعل كل رجل وامرأة لا يراوحان مكانهما في مسيرتهما مع أحبائهما وبإيقاعهما نحو الهدف الذي يدعوهما الله للذهاب نحوه. ولكن ما يؤلمنا هو أن يضيّع المرء نفسه أو أن يبقى في الخلف أو أن يتيه بسبب الإدعاء. أو أن يفقد مكانه. ألا يكون في خدمة الرب، ومستعدًّا للمهمّة التي يريد أن يوكلها إليه. أو ألا يسير بتواضع في حضرة الله (را. مي 6، 8) ولا يسير في المحبّة (أف 5، 2).  

 

فسحة كرسي الاعتراف، حيث الحق يحررنا

لننتقل الآن إلى فسحة كرسي الاعتراف، حيث الحق يحررنا. إن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يقدم لنا كرسي الاعتراف كمكان يُحررنا فيه الحقُّ بهدف اللقاء. يقول: "عندما يقوم الكاهن بخدمة سر التوبة، إنما يقوم بخدمة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالة، وخدمة السامري الرحيم الذي يضمد الجروح، والأب الذي ينتظر الابن الشاطر ويرحب به عند عودته، والقاضي الذي لا يحابي أحداً، ويصدر حكماً عادلاً ورحيماً. وقصارى القول أن الكاهن هو علامة محبة الله ورأفته بالخاطئ وأداتها" (رقم 1465). ويذكّرنا بأن " ليس المعرف سيد الصفح الإلهي بل خادمه. خادم هذا السر يجب أن يتّحد بنيّة المسيح ومحبته" (رقم 1466).

علامة اللقاء وأداته. هذا ما نحن عليه. اجتذاب فعّال بهدف اللقاء. علامة: تعني أنه علينا أن نجذب، تماما كما يستخدم المرءُ الإشارة ليجذب الانتباه. على العلامة أن تكون مترابطة وواضحة، لكن قبل كل شيء مفهومة. لأنه هناك علامات ليست واضحة إلّا للأخصائيين، وهي غير مفيدة. علامة وأداة. علة وجود الأداة تكمن في فعاليتها –أتفيد أم لا؟- وفي كونها متوفرة ومؤثّرة على الواقع بشكل دقيق ومناسب. نحن أداة إذا ما التقى الناسُ فعلا مع الله الرحوم. علينا أن "نجعلهم يلتقون به"، أن يقفوا معه وجها لوجه. وما يفعلون بعد ذلك هو شأنهم وحدهم. هناك ابن ضال في مزرعة الخنازير وأب يخرج كل مساء إلى شرفة المنزل ليرى إذا ما رجع الابن؛ هناك خروف ضال وراع ذهب ليبحث عنه؛ هناك جريح متروك على قارعة الطريق وسامري قلبه طيب. ما هي إذا خدمتنا؟ أن نكون علامات وأدوات كي يلتقي هؤلاء. لندرك جيدا أننا لسنا الأب ولا الراعي ولا السامري. بل إننا نقف إلى جانب هؤلاء الثلاثة لكوننا خطأة. على خدمتنا أن تكون علامة وأداة لهذا اللقاء. لذا نضع أنفسنا في إطار سر الروح القدس الذي يخلق الكنيسة ويصنع الوحدة ويُحْيي اللقاء في كل مرة.

والأمر الآخر المتعلق بالعلامة والأداة هو ألا نكون "مرجعيين"، لنقولها بطريقة معقدة. لا أحد يتوقف عند العلامة، حين يفهم الأمر؛ لا أحد يتوقف للنظر إلى المطرقة أو المفك، بل ينظر إلى اللوحة التي قد ثُبّتت بإتقان. نحن خدَمةٌ عديمو الفائدة. إننا أدوات وعلامات كانت مفيدة جدا لشخصين التقيا في عناق جميل، مثل الأب مع ابنه.

أما الميزة الثالثة للعلامة والأداة فهي تَوفُّرُهما. أن تكون الأداة جاهزة للاستخدام وأن تكون العلامة مرئية. جوهر العلامة والأداة هو أن تكونا وسيطتين، متوفرتين. هذا هو على الأرجح مفتاح رسالتنا في هذا اللقاء بين رحمة الله والإنسان. ربما من الأوضح أن نستخدم عبارة سلبية. القديس اغناطيوس يقول أنه "لا ينبغي أن نكون عائقا". إن الوسيط الجيد هو من يسهّل الأمور ولا يضع العراقيل. كان يوجد معرّف عظيم في بلدي هو الأب كولّن الذي كان يجلس في كرسي الاعتراف، وعندما لم يكن هناك من أحد، كان يهتم بأمرين: الأول بأن يُصلح كريات الجلد للفتيان الذين يلعبون كرة القدم، والثاني أن يقرأ قاموسا صينيا كبيرا. كان قد عاش لوقت طويل في الصين، ويريد الحفاظ على اللغة. وكان يقول إن الناس وعندما يرونه منغمسا في نشاطات عديمة الفائدة كتصليح الكريات القديمة وقراءة القاموس الصيني، كانوا يفكرون أن بإمكانهم الاقتراب من هذا الكاهن والتحدث إليه لأنه من الواضح أنه ليس لديه شيء يفعله. كان حاضرًا للأمور الأساسية. كان لديه وقت محدّد لكرسي الاعتراف، ولكنه كان هناك. كان يتفادى عائق أن يبدو كثير الانشغال. هنا تكمن المشكلة. فالناس لا تقترب حين ترى الراعي منشغلا للغاية، للغاية، يعمل على الدوام. 

لقد تعرّف كلّ منا على معرّفين جيدين. وعلينا أن نتعلّم من معرّفينا الجيدين؛ الناس تقترب منهم، ولا يخيفونهم ويعرفون كيف يتكلمون إلى أن يُروي الآخر ما جرى معه، كما فعل يسوع مع نيقوديموس. من المهم أن نفهم لغة "التصرف"؛ لا يجب أن نطلب أمورا هي واضحة للتصرّف. إذا ما اقترب شخص من كرسي الاعتراف فهذا يعني أنه تائب، وأن التوبة موجودة. وإذا ما اقترب فهذا يعني أنه يرغب في التغيير. أو على الأقل يرغب في هذه الرغبة، وإذا ما بدا الأمر مستحيلا، فكما يقول المثل "لا أحد مجبر على فعل المستحيل". لغة التصرف. قرأت في حياة قديس حديث، من زمننا هذا، فقير، كان يعاني أثناء الحرب، المسكين! كان هناك جندي على وشك أن يُعدَم، وذهب هو ليعرّفه. وكان واضحا أن هذا الجندي كان فاجرًا بعض الشيء، وكان يمضي الكثير من وقته محتفلًا مع النساء ..."ولكن هل ندمت على هذا؟ "-" كلا، كان الأمر جميلا جدا، أبتي". ولم يكن يعرف هذا القديس كيف يجد مخرجًا لهذا. ووصلت الفصيلة لإطلاق النار عليه، فقال له: "قل لي على الأقل: هل تأسف لأنك لم تندم؟" "هذا، نعم" - "آه، حسنا!". الكاهن المعرّف يبحث دومًا عن السبيل، ولغة التصرف هي لغة الإمكانيات للوصول إلى هذه النقطة.

علينا أن نتعلّم من المعرّفين الجيدين، أولئك الذين يتعاملون بدقة مع الخطأة ومن تكفيهم كلمة صغيرة ليفهموا كل شيء، كما فعل يسوع مع المرأة النازفة، وفي تلك اللحظة ينالون قوة منح الغفران. لقد علّمني درسًا أحد كرادلة الكوريا والذي بداهة كنت أعتقد أنه صارمًا جدًّا. قال أنه، عندما كان هناك تائب قد اقترف خطيئة يخجله الاعتراف بها، ويبدأ بكلمة أو كلمتين، كان يفهم هو على الفور ما كان الأمر عليه، ويقول له: "أكمِل، لقد فهمت، لقد فهمت!". يوقفه عن الكلام، لأنه فهم. هذا رقيق جدا. ولكن هؤلاء الكهنة المعرّفون – اغفروا لي- يسألون ... ويسألون: "ولكن قل لي، من فضلك ...". أتحتاج إلى الكثير من التفاصيل لتمنح الغفران أو "أنك تصنع الفيلم"؟ لقد علّمني الكاردينال درسًا عظيمًا. إن اكتمال الاعتراف ليس عبارة عن مسألة حسابية –كم من مرة؟ كيف؟ أين؟...-. يكمن الحياء أحيانا بالعدد، أكثر منه باسم الخطيئة نفسها. لكن لا بد من أن نترك أنفسنا نتأثر أمام أوضاع الناس، والتي تكون أحيانا مزيجا بين أمور عدة: المرض، الخطيئة والعوامل المؤثرة التي يستحيل تخطّيها، كما كان يسوع يتأثر لدى رؤيته الناس، ويحس بهذا الشعور في أحشائه وأمعائه، وكان يشفي ويشفي حتى إن لم يُحسِن الآخر طلب الشفاء، شأن الأبرص، أو كان يدور حول الموضوع، شأن السامرية التي تصرفت كطير الزقزاق الشامي الذي يُصدر الأصوات من جهة لكن عشه موجود في الجهة الأخرى. يسوع كان صبورًا.

علينا أن نتعلّم من المعرفين الذين يتصرفون بشكل يُشعر التائب بالتأديب فيقوم بخطوة إلى الأمام، مثل يسوع، الذي يطلب عمل توبة كافٍ ويعرف كيف يقدّر من يعود ليشكره، ومن يمكنه أن يتحسّن. لقد طلب يسوع من المخلّع أن يحمل سريره، أو كان يترك العميان أو المرأة السورية الفينيقية يتوسلون إليه قليلا. لم يهتم إن لم يكترث هؤلاء له بعد ذلك، شأن مخلع سلوام، أو إن أخبروا أمورا طلب منهم عدم الإفصاح عنها، فصار من ثم وكأنه هو الأبرص لأنه لم يكن يستطيع دخول القرى، أو عندما كان أعداؤه يبحثون عن أسباب لإدانته. كان يشفي، يغفر، يمنح الراحة والسكينة وكان يجعل الناس يتنفسون نفحة الروح المعزي.

ما سوف أقوله الآن، قد قلته مرارا، وربما قد سمعه أحدكم سابقًا. لقد تعرفتُ على راهب كبوشي في بوينوس أيريس –وما زال حيًّا-، أفوقه سنا بعض الشيء، وكان معرفا عظيما. وكان الناس يصطفون أمام كرسي الاعتراف، الكثير من الأشخاص –جميعهم: أشخاص متواضعون، ميسورون، كهنة، راهبات؛ صفّ... أشخاص تتعاقب، طوال النهار، ليعرفهم. وكان يغفر كثيرًا. فهو يجد دوما السبيل لمنح الغفران ولكي يجعلهم يقومون بخطوة إلى الأمام. وهذه عطية من الروح القدس. إنما كان يعتريه أحيانا هاجس أن يكون قد غفر كثيرا. وكان يحدثني مرة فقال لي "يعتريني أحيانا هذا الهاجس"، فسألته "ماذا تفعل عندما تشعر بهذا الهاجس؟" فأجاب "أذهب إلى بيت القربان وأنظر إلى الرب وأقول له: اغفر لي يا رب، لقد غفرتُ اليوم كثيرا. لكن لنكن واضحين –هاه؟- أنتَ المذنب لأنك أنت من أعطيتني المثال السيئ! أي الرحمة". كان يحسّن الرحمة بمزيد من الرحمة.

في الختام ثمة نصيحتان حول موضوع الاعتراف. أولا، لا تكن لكم أبدا نظرة الموظّف، الذي يرى "حالات" وحسب، ويعمل على التخلّص منها. إن الرحمة تحررنا من كوننا كهنة "قضاة – موظفين" الذين، ولكثرة إدانتهم "للحالات"، فقدوا المشاعر حيال الأشخاص والوجوه. أتذكر حين كنت في السنة الثانية من دراسة اللاهوت، ذهبت مع أصدقائي لحضور فحص "سماع الاعترافات"، الذي كان طلاب السنة الثالثة يخضعون له، قبل الرسامة. ذهبنا لنتعلم بعض الشيء، فالمرء يتعلم على الدوام. وفي إحدى المرات، أذكر أنه طرح سؤالا على أحد رفاقنا، كان حول العدالة، بحكم القانون، ولكنه معقد للغاية واصطناعي للغاية ... فقال هذا الرفيق بكل تواضع: "ولكن يا أبتي، لا توجد هذه الحالة في الحياة" - "ولكنها في الكتب! ". أخلاقية "الكتب" هذه، دون أية خبرة. إن القاعدة التي قدمها يسوع هي "أن ندين كما نريد أن ندان"؛ هذا المقياس الحميمي الذي نملك كي نميز إن كنا قد تمت معاملتنا بكرامة، أو تم تجاهلنا أو إساءة معاملتنا، أو تمت مساعدتنا على الوقوف ... هذا هو المفتاح لإدانة الآخرين، ولنتنبه أن الرب يثق بهذا المقياس الذي هو شخصي وذاتي. ليس لأن هذا المقياس هو الأفضل، بل لأنه صادق وانطلاقا منه يمكن أن نبني علاقة جيدة. أما النصيحة الثانية: لا تكونوا فضوليين في كرسي الاعتراف. لقد سبق وقلته. تروي القديسة تيريزيا أنها عندما كانت تستمع إلى أسرار مبتدآتها كانت تتفادى أن تسأل عن تطور الأمور لاحقا. لم تكن تبحث بفضول داخل نفوس الأشخاص (را. سيرة نفس، مخطوط c، إلى الأم غونزاغا، الفصل الحادي عشر 32). من ميزة الرحمة أن "تُغطي بالرداء"، تغطّي الخطيئة كي لا تجرح الكرامة. جميل هو ذاك المقطع حول ابني نوح اللذين غطيا بالرداء عري والدهما عندما كان ثملا (را. تك 9، 23).

 

البُعد الاجتماعي لأعمال الرحمة

ننتقل الآن لنقول كلمتين حول البعد الاجتماعي لأعمال الرحمة.

في نهاية الرياضات الروحيّة، يضع القديس اغناطيوس "التأمل لبلوغ المحبة" التي تجمع بين ما تم عيشه في الصلاة والحياة اليومية. وهذا يجعلنا نتأمل في كيفية وضع المحبة في الأعمال أكثر منه في الأقوال. وهذه الأعمال هي أعمال رحمة، تلك التي أعدّها الآب "بسابق إعداده لنمارسها" (أف 2، 10)، تلك التي يوحيبها الروح القدس إلى كل واحد لأجل الخير العام (را. 1 قو 12، 7). وفيما نرفع الشكر للرب على العطايا الكثيرة التي نلناها من صلاحه، نطلب نعمة أن نحمل لجميع الناس الرحمة التي خلّصتنا.

أقترح عليكم، في هذا البعد الاجتماعي، التأمل في بعض المقاطع الأخيرة من الأناجيل. فهناك، يقيم الرب بنفسه الصلة هذه بين ما نلناه وما ينبغي أن نعطيه. ونستطيع أن نقرأ هذه الاستنتاجات في ضوء "أعمال الرحمة" التي تجعل ملموسًا زمنَ الكنيسة الذي يعيش فيه يسوع القائم، ويرافق، ويرسل ويجذب حريتنا التي تجد فيه تحقيقها الملموس والمتجدد كل يوم.

يقول لنا متى، في ختام إنجيله، أن الرب يرسل التلاميذ ويقول لهم: "عَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به" (را. 28، 20). إن "تعليم من لا يعرف" هو في حدّ ذاته من بين أعمال الرحمة. ويتشعب كالنور في الأعمال الأخرى: تلك المذكورة في متى 25، والتي تتمثّل أكثر في أعمال الرحمة الجسدية، وفي جميع الوصايا والمشورات الإنجيلية، في "المغفرة" و"التصحيح الأخوي"، وتعزية الحزين، واحتمال الاضطهاد، وهلم جرا...

يختم مرقس بصورة الرب الذي "يتعاون" مع التلاميذ و"يؤيّد كلمته بما يصحبها من الآيات" (را. 16، 20). وهذه "الآيات" لها ميزة أعمال الرحمة. ويتحدث مرقس،في جملة الأمور أيضًا عن شفاء المرضى وطرد الأرواح الشريرة (را. 16، 17 ـ 18).

ويواصل لوقا إنجيله بكتاب "أعمال" الرسل، متحدثا عن طريقة عملهم والأعمال التي قاموا بها، بإرشاد من الروح القدس.

ويختم يوحنا متحدثا عن "أمور أخرى كثيرة" (21، 25) أو "آيات" (20، 30) صنعها يسوع. إن أفعال الرب، أعماله، ليست مجرّد أعمال بل هي علامات تظهر فيها محبته ورحمته، بشكل شخصي وفريد لكل واحد.

نستطيع أن نتأمل الرب الذي يرسلنا إلى هذا العمل من خلال صورة يسوع الرحوم كما أوحى بها إلى الراهبة فاوستينا. ففي هذه الصورة، نستطيع أن نرى الرحمة كنور وحيد نابع من أعماق الله والذي من خلال مروره بقلب المسيح، يخرج متنوعًا، مع لون خاص بكل عمل رحمة.

إن أعمال الرحمة لامتناهية، لكل منها بصمتها الخاصة، مع قصة كل وجه. ليست فقط الأعمال الجسدية السبعة والأعمال الروحية السبعة بشكل عام. أو بالأحرى، فإنها، وكما هي مذكورة، كالمواد الأولية ـ مواد الحياة نفسها ـ التي وحين تلمسها يدا الرحمة وتجبلها، تتحوّل كل منها إلى عمل يدوي. عمل يتكاثر كالخبز في السلال، وينمو بكثرة كحبة الخردل. لأن الرحمة هي خصبة وشاملة. هاتان الميزتان المهمتان: الرحمة هي خصبة وشاملة. صحيح أننا نفكّر غالبًا في أعمال الرحمة، كل على حدة، وبكونها مرتبطة بعمل: المستشفيات للمرضى، مراكز لإطعام الجائعين، مراكز لاستقبال المشردين، مدارس للمحتاجين إلى التعليم، كرسي الاعتراف والتوجيه الروحي للمحتاج إلى نصيحة ومغفرة... ولكن، إذا نظرنا إليها كلها، فالرسالة هي أن غرض الرحمة هو الحياة البشرية نفسها بكليتها. إن حياتنا نفسها كـ "جسد" هي جائعة وعطشى، تحتاج إلى لباس ومسكن وزيارات، كما ولدفن لائق، وهو أمر لا يستطيع أحد أن يقدّمه لنفسه. وحتى الغنيّ، عندما يموت، يتحول إلى بؤس، وليس هناك من شاحنة لنقل ممتلكاته خلف موكب دفنه. إن حياتنا نفسها كـ "روح" تحتاج إلى أن تُهذّب وتصحح وتشجّع وتُعزّى. هذه الكلمة هي كلمة مهمة للغاية في الكتاب المقدس: لنفكر في نص تعزية إسرائيل من سفر النبي أشعيا. نحتاج إلى أن ينصحنا آخرون، ويغفروا لنا ويساعدونا ويصلوا من أجلنا. إن العائلة هي التي تمارس أعمال الرحمة هذه بطريقة ملائمة جدا ومتجرّدة لدرجة أننا لا نلاحظها، ولكن يكفي أن تغيب الأم عن العائلة والأطفال ما زالوا صغار، حتى يتحوّل كل شيء إلى شقاء. إن البؤس المطلق والأكثر قسوة هو بؤس طفل في الشارع، دون أهل، فريسة للنسور.

لقد طلبنا نعمة أن نكون علامة وأداة؛ وينبغي الآن "العمل"، وليس القيام بلفتات فقط وإنما القيام بأعمال، وإضفاء طابع مؤسسي لها، وأن نخلق ثقافة الرحمة، وهي تختلف عن ثقافة الإحسان، علينا أن نميّز (بينهما). ومن خلال العمل، نشعر فورًا بأن الروح القدس هو الذي يدفع هذه الأعمال ويقودها إلى الأمام. ويفعل ذلك مستخدمًا العلامات والأدوات التي يشاؤها، حتى وإن لم تكن الأكثر ملاءمة أحيانًا في حد ذاتها. وإضافة إلى ذلك، يُقال إنه ولممارسة أعمال الرحمة، يختار الروح القدس الأدوات الأكثر فقرًا وتواضعًا وبساطة، والتي هي نفسها أكثر حاجة إلى أول شعاع من الرحمة الإلهية. وتلك هي الأدوات التي تسمح بشكل أفضل بأن تُنشأ وتُحضّر للقيام بخدمة فعالة حقًا وذات نوعية. إن فرح الشعور بأننا "خدم لا خير فيهم" بالنسبة للذين يباركهم الرب بكثرة نعمته، والذي هو نفسه يُجلسهم إلى مائدته ويقدّم لهم الافخارستيا، لهو تأكيد بأننا نقوم بأعماله، أعمال الرحمة.

إن شعبنا الأمين يحب أن يجتمع حول أعمال الرحمة. يكفي أن نأتي إلى مقابلة عامة نهار الأربعاء ونرى عددهم: لفيف من الناس يتجمعون للقيام بأعمال الرحمة. في احتفالات ـ التوبة والأعياد ـ كما في عمل التضامن والتنشئة، يجتمع شعبنا تلقائيًا ويسمح بأن يتم إرشاده ورعايته بشكل لا يتنبّه إليه الجميع ولا يقدرونه، فيما تفشل برامج رعوية كثيرة أخرى ترتكز إلى ديناميكيات نظرية. إن الحضور الكثيف لشعبنا الأمين في المزارات وفي زيارات الحج، يجب أن يكون محط اهتمام وتقدير وتشجيع من قبلنا؛ هو حضور مجهول، مجهول أوّلًا بسبب كثرة الوجوه، والرغبة بأن يراه فقط الذي أو التي تنظر إليه برحمة، كما وهو مجهول أيضًا في التعاون المتنوع الذي يدعم، من خلال العمل، العديد من أعمال التضامن. وقد كانت مفاجأة بالنسبة لي كيف أن هذه المنظمات، هنا في إيطاليا، هي قوية وتجمع الشعب بكثرة.

ككهنة، لنطلب نعمتين من الراعي الصالح: أن نعرف كيف نسمح لحس الإيمان لدى شعبنا الأمين بأن يقودنا، و"لحس الفقر" أيضًا. إن هذين "الحسين" يرتبطان "بحس المسيح"، الذي يتكلم عنه القديس بولس، وبمحبة شعبنا وإيمانه بيسوع.

نختم بتلاوة صلاة "يا روح المسيح"، وهي صلاة جميلة لطلب رحمة الرب الذي جاء في الجسد، كي يرحمنا في جسده وروحه. نسأله أن يرحمنا ويرحم شعبه: نسأل روحه: "قدّسنا"؛ نسأل جسده: "خلّصنا"؛ نسأل دمه: "أسكرنا"؛ انزع منا كل عطش ليس منك؛ نسأل ماء جنبه: "اغسلنا"؛ نسأل آلامه: "قونا"؛ عزّ شعبك؛ أيها الرب المصلوب، في جراحك، نرجوك: "خبئنا"... لا تسمح يا رب بأن يُفصل شعبك عنك. لا تسمح بأن يفصلنا شيء أو أحد عن رحمتك التي تحفظنا من شراك العدو الخبيث. وهكذا نستطيع أن ننشد مراحم الرب مع جميع قديسيك عندما تأمرنا بأن نأتي إليك.

[صلاة يا روح المسيح]

 [وفي نهاية الرياضة قرأ البابا على الحاضرين رسالةً كانت قد وصلته من أحد الكهنة]

 

سمعت أحيانًا بعض تعليقات الكهنة الذين يقولون: ''ولكن هذا البابا يؤنبنا جدًا، إنه يوبّخنا''. كم من الضربات، والتأنيب! ولكن يجب أن أقول إنني قد تعلمت دروسا من قبل العديد من الكهنة، العديد من الكهنة الجيدين! ومن بينهم -وقد عرفت العديد- مَن كان ينام، واضعًا الهاتف على طاولة قرب السرير، عندما لم يكن هناك بعد من جهاز للرد على الهاتف، حتى لا يموت أحد دون نيل الأسرار؛ وكان يمكن الاتصال به في أي وقت، وكان ينهض ويذهب. كهنة جيدين! وأشكر الله على هذه النعمة. كلنا خطأة، ولكن يمكننا القول إن هناك الكثير من الكهنة الصالحين، والقديسين الذين يعملون في صمت وفي الخفاء. قد نسمع بحدوث أمر مشين في بعض الأحيان، ولكننا نعرف أن سقوط شجرة يتسبب بضجة أكثر من الغابات التي تنمو.

قد وصلتني أمس رسالة، وضعتها جانبًا، مع الرسائل الشخصية. وفتحتها قبل مجيئي، وأعتقد أن الرب هو من اقترح علي ذلك. إنها من كاهن رعية في إيطاليا، مسؤول عن ثلاث قرى صغيرة. وأعتقد أن سماع شهادة أحد إخوتنا سوف يفيدنا.

 

 كتبت الرسالة في 29 مايو/أيار، منذ أيام قليلة.

"آسف للإزعاج. أود أن أغتنم فرصة وجود صديق لي كاهن في روما في هذه الأيام لليوبيل الكهنوتي، كي أرسل، بكل تواضع -كمجرد راع لثلاث رعايا جبلية صغيرة، وأنا أفضّل أن أسمّي نفسي «القس صغير»- بعض الأفكار حول خدمتي الرعوية البسيطة، التي ولّدتها -وأشكرك من كلّ قلبي- بعض الأمور التي قلتها، والتي تدعوني كل يوم إلى التوبة. وأنا أدرك بأن ما أكتبه ليس شيئا جديدا. لقد سمعتَ بالتأكيد بأمور كهذه. ولكني أشعر بالحاجة إلى أن أجعل نفسي أنا أيضًا «ناطق باسم آخرين». هذه الدعوة التي قمتَ بها مرارًا وتكرارًا بأن نحمل رائحة الأغنام قد لمستني، وتلمسني أيضًا. أنا في الجبال، وأنا أعرف ما تعنيه هذه العبارة. المرء يصبح كاهنا كي يحمل هذه الرائحة، التي هي أيضا رائحة القطيع الحقيقية. كم قد يكون جميلا إذا، كانت المهام الإدارية والبيروقراطية الرعوية وأطفال المدارس وغيرها، لا تحلّ محلّ السبب الحقيقي لدعوتنا، أي التواصل اليومي مع قطيعنا والتخالط به بانتظام. أنا محظوظ لوجود علمانيين صالحين وجيدين يتابعون عن كثب هذه الأمور. ولكن هناك دائما تلك الوظيفة القانونية للكاهن، كممثل قانوني وحيد. ففي نهاية المطاف، عليه أن يعمل دائما، تاركا للمكان الأخير، في بعض الأحيان، زيارة المرضى، والأسر، وربما يقوم به على عجل وبأي حال. أقول هذا لنفسي، أنه لمحبط حقا في بعض الأحيان، أن أرى كيف يمكن في حياة الكاهن أن أعمل بجهد للتنظيم البيروقراطي والإداري، وأترك جانبا الناس في نهاية المطاف، هذا القطيع الصغير الذي أوكل إلي، ويكاد أن يُترك لحاله. صدقني، أيها الأب الأقدس، إنه لأمر محزن، وكثيرا ما أشعر بالرغبة بالبكاء بسبب هذا النقص. إننا نسعى إلى تنظيم أمورنا، ولكن في نهاية المطاف، لا يوجد سوى دوامة الأمور اليومية. الأمر نفسه بالنسبة لجانب آخر قد ذكرتَه أيضًا: عدم وجود الأبوة. يقال إن المجتمع المعاصر يفتقر إلى آباء وأمهات. أعتقد بأني استنتج كيف يمكننا التخلي أحيانا عن هذه الأبوة الروحية، جاعلين من أنفسنا مجرد بيروقراطيّي الأمور المقدسة، مع نتيجته الحزينة: أن نشعر بأننا متروكون لأنفسنا. أبوة صعبة، وتؤثر حتما أيضًا على رؤسائنا، المنهمكين في مهام مفهومة ودقيقة، ما قد يجعلهم يحافظون على علاقات رسمية معنا، متعلقة بإدارة جماعاتنا أكثر منها بحياتنا كأشخاص ومؤمنين وكهنة. كل هذا –وهنا أختم- لا يسلب بأي حال شغفنا وفرحنا لكوننا كهنة للشعب ومع الناس. وإذا، في بعض الأحيان، ليس لي ككاهن رائحة الخراف، أبقى على الدوام متأثرا أمام قطيعي الذي لم يفقد رائحة راعيه! كم هو جميل، أيها الأب الأقدس، عندما ندرك أن الأغنام لا تتركنا لوحدنا، وأن لديهم مقياس «حرارة وجودنا» هنا، من أجلهم، وإذا كان عن طريق الصدفة، يخرج الكاهن من الحس ويضيع، فهي تأخذه وتمسكه بيده. لن أكلّ من شكر الرب، لأنه يخلّصني على الدوام بواسطة قطيعه، هذا القطيع الذي أوكل إلينا، وهؤلاء الناس البسيطة، والطيبة، والمتواضعة، والهادئة، هذا القطيع هو نعمة حقيقية للكاهن. لقد أرسلت إليك هذه الاعتبارات الصغيرة والبسيطة بطريقة سرية، لأنك قريب من القطيع، ولأنك قادر على الفهم وتستطيع الاستمرار بمساعدتنا ودعمنا. إني أصلي من أجلك وأشكرك، وأيضا من أجل «التوبيخات» التي هي ضرورية لمسيرتي. باركني، بابا فرنسيس، وصلّي من أجلي ولرعاياي". يوقّع الرسالة، وفي النهاية يضع هذه اللفتة الخاصة بالرعاة: "أرسل لك هبة صغيرة. صلّي من أجل جماعاتي، خاصة من أجل بعض المرضى وبعض العائلات التي لا تعاني اقتصاديا وحسب ... شكرا لك!''.

إنه أحد إخوتنا. هناك العديد من أمثاله، وهم كثيرون. بالتأكيد هنا أيضا. الكثير! إنه يدلنا على الطريق. لنمضي قدما! يجب علينا ألا نفقد [حسّ] الصلاة. صلّوا كما تستطيعون، وإذا كنتم تغفون أمام بيت القربان المقدس، ليكن مباركًا. ولكن صلّوا! لا يجب أن نفقد هذا: لا يجب أن نفقد واقع أن نترك العذراء تنظر إلينا وأن ننظر إليها كأم. يجب علينا ألا نفقد الحماس، علينا أن نحاول... يجب علينا ألا نفقد قرب الناس واستعدادنا لهم، وأود أن أقول لكم لا تفقدوا الروح المرح. امضوا قدما!

 

 



Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana