عظة قداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر
في القدَّاس الإلهيّ في يوبيل الشَّبيبة
(الأحد الثَّامن عشر من زمن السَّنة)
3 آب/أغسطس 2025
روما - تور فيرغاتا (Tor Vergata)
________________________________________
تحيَّة قداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى الشَّباب قبل بدأ القدَّاس الإلهيّ في يوبيل الشَّبيبة
صباح الخير للجميع! أحد مبارك!
أتمنّى أن تكونوا قد استرحتم قليلًا. سنبدأ بعد قليل أكبر احتفال تركه لنا المسيح، حضوره الحقيقيّ في القربان المقدّس. ليبارككم الله جميعًا. وليكن هذا حقًّا مناسبة لا تُنسى لكلّ واحد منّا، عندما نتبع معًا، ككنيسة المسيح، ونسير معًا، ونعيش مع يسوع المسيح.
احتفال مبارك للجميع!
* * *
أيّها الشّباب الأعزّاء،
بعد عشيّة الصّلاة التي قضيناها مساء أمس معًا، نلتقي اليوم لنحتفل بالإفخارستيّا، سرّ عطاء الرّبّ يسوع ذاته عطاءً كاملًا من أجلنا. يمكننا أن نتخيّل أنّنا نعيد، في هذه الخبرة، المسيرة التي قام بها تلميذا عِمواس مساء الفصح (راجع لوقا 24، 13-35): أوّلًا ابتعدا عن أورشليم خائفَين ومُحبَطَين، ومضيا في طريقهما مقتنعَين بأنّه لم يَعُدْ هناك ما ينتظرانه، ولا أمل لهما بعد، بعد موت يسوع. ولكنّهما التقيا به هو بالذّات، وقَبِلاه رفيقَ طريق، وأصغيا إليه وهو يشرح لهما الكتب المقدّسة، وأخيرًا عرفاه عند كسر الخبز. عندئذٍ انفتحت عيونهما، وحلّت البشارة الفصحيّة المفعمة بالفرح في قلبيهما.
الليتورجيّا اليوم لا تتكلّم مباشرةً على هذا الحدث، لكنّها تساعدنا لنتأمّل في ما يرويه هذا الحدث: اللقاء مع الرّبّ القائم من بين الأموات الذي يُغيّر حياتنا، ويُنير كلّ مشاعرنا، ورغباتنا، وأفكارنا.
القراءة الأولى، من سفر الجامعة، تدعونا إلى أن نعرف ونختبر حدودنا، وزوال الأشياء الفانية، مثل تلميذَي عِمواس اللذين ذكرناهما (راجع الجامعة 1، 2؛ 2، 21-23). ومزمور الرّدّة، الذي يكرّر المعنى نفسه، يُقدّم لنا صورة "العُشبِ النَّابِتِ في الصَّباح. في الصَّباحِ يُزهِرُ ويَنبُت، وفي المَساءِ يَذبُلُ ويَيبَس" (مزمور 90، 5-6). نداءان قويّان، وربّما صادمان بعض الشّيء، لكن يجب ألّا يخيفانا، وكأنّهما مواضيع ”ممنوع ذكرها“ ويجب أن نتجنّبها. فالضّعف والهشاشة التي يتحدّثان عنها هي في الحقيقة جزء من روعة جمالنا نحن. لنفكّر في رمز العُشب: أليست المروج المزهرة جميلة؟ بالتّأكيد، لكنّ العُشب رقيق، وينبت بسيقان نحيلة، قابلة للجفاف والانحناء والانكسار، لكنّها، في الوقت نفسه، تُستبدَل بسرعة بأخرى تنبت بعدها، وتُصير السّيقان الأولى غذاءً وسمادًا لها بعد فنائها على الأرض. هكذا تعيش الحقول، بتجدّد دائم، وحتّى خلال أشهر الشّتاء الباردة، عندما يبدو كلّ شيء صامتًا، تَنبِض طاقتها تحت الأرض وتتهيّأ لتتفجّر وتنطلق، في الرّبيع، بألوانها الكثيرة.
كذلك نحن، أيّها الأصدقاء الأعزّاء، خَلقنا الله على هذه الحال: خَلقنا من أجل هذا. لا لحياة راكدة حيث كلّ شيء ثابت، بل لحياة تتجدّد باستمرار بالعطاء، والمحبّة. ولهذا نتوق دائمًا إلى ”المزيد“، إلى ما لا تستطيع أيّة خليقة أن تُعطينا إيّاه. نشعر بعطش عميق ومُتّقد إلى درجة أنّه لا شراب في هذا العالم يمكن أن يُطفئه. أمام هذا العطش، لا نخدع قلوبنا فنحاول إسكاتها ببدائل عقيمة! بل لنُصغِ إلى عطشنا! ولنجعله بمثابة سُلَّمٍ نقف عليه لنطلّ، مثل الأطفال، من نافذة اللقاء مع الله. سنجد أنفسنا أمامه، هو الذي ينتظرنا، بل يضرب برفق على زجاج نفسنا (راجع رؤيا يوحنّا 3، 20). وما أجمل، حتّى في سنّ العشرين، أن نفتح له قلوبنا، ونسمح له بأن يدخل، لنغامر معه في المساحات الأبديّة التي لا حدّ لها.
القدّيس أغسطينس، وهو يتكلّم على بحثه العميق عن الله، كان يتساءل: "ما هو إذًا موضوع رجائنا [...]؟ هل هي الأرض؟ لا. هل هو شيء من الأرض، مثل الذّهب، أو الفضة، أو الشّجر، أو الحصاد، أو الماء [...]؟ هذه الأشياء فيها مسرّة، هذه الأشياء جميلة، هذه الأشياء صالحة" (عظة 313/ف، 3). وكان يُتابع ويقول: "ابحث عن الذي خلقها، فهو رجاؤك" (المرجع نفسه). وعندما كان يتأمّل في المسيرة التي قطعها، كان يُصلّي ويقول: "أنت [يا ربّ] كنتَ في داخلي، وأنا كنت خارجًا. هناك كنتُ أبحث عنك [...]. ناديتَني، وصرختك مزّقت صمتي. ومضيتَ أمامي مثل البرق، وبدَّد نورك عماي. نشرتَ عطرك، فتنفّستُ واشتقتُ إليك، وتذوّقتُك (راجع مزمور 33، 9؛ 1بطرس 2، 3)، وها أنا جائع وعطشان (راجع متّى 5، 6؛ 1قورنتس 4، 11). لمَستَني، فاشتعلتُ شوقًا إلى سلامك" (الاعترافات، 10، 27).
إنّها كلمات رائعة، تذكّر بما قاله البابا فرنسيس في لشبونة، خلال اليوم العالمي للشّبيبة، لشباب آخرين مثلكم: "كلّ واحد مدعوٌ إلى أن يواجه أسئلة كبيرة ليس لها جواب بسيط أو فوريّ، فهي تدعونا إلى أن نقوم برحلة، وأن نتجاوز أنفسنا، وأن نذهب إلى ما هو أبعد من أنفسنا [...]، إلى إقلاع عن الأرض، وإلّا لا يمكننا الطّيران. لذلك لا نخَفْ إن وجدنا في أنفسنا عطشًا، وقلقًا، وأنّنا غير مكتملين، ونريد معنى ومستقبلًا [...]. نحن لسنا مرضَى، بل أحياء!" (كلمة في اللقاء مع الشّباب الجامعيّين، 3 آب/أغسطس 2023).
في قلبنا يكمن سؤال مهمّ، الحاجة إلى الحقيقة لا يمكننا تجاهلها، بل تدفعنا إلى أن نتساءل: ما هي السّعادة الحقيقيّة؟ ما هو طعم الحياة الحقيقي؟ ما الذي يحرّرنا من مستنقعات اللامبالاة، والملل، والفتور؟
في الأيام الماضيّة، عشتم خبرات عديدة جميلة. التقيتم برفقائكم القادمين من مختلف أنحاء العالم، المنتمين إلى ثقافات متعدّدة. وتبادلتم المعارف، وتشاركتم التّطلّعات، وتحاورتم مع المدينة بالفنّ، والموسيقى، والمعلوماتيّة، والرّياضة. ومن ثمّ، في ساحة ”“Circo Massimo، عندما اقتربتم من سرّ التّوبة، نلتم مغفرة الله وطلبتم عونه من أجل حياة صالحة.
من كلّ هذا يمكنكم أن تستخلصوا جوابًا مهمًّا: ملء حياتنا لا يعتمد على ما نُراكمه، ولا على ما نملكه، كما سمعنا في الإنجيل (راجع لوقا 12، 13-21)، بل على ما نعرف كيف نقبله ونشارك غيرنا فيه بفرح (راجع متّى 10، 8-10؛ يوحنّا 6، 1-13). أن نقتني، ونراكم، ونستهلك، لا يكفي. نحن بحاجة إلى أن نرفع عيوننا، وأن ننظر إلى العُلى، إلى "الأُمورِ الَّتي في العُلى" (قولسي 3، 2)، لكي ندرك أنّ كلّ شيء يأخذ معناه، في واقع هذا العالم، فقط بقدر ما يساعدنا على أن نتّحد بالله وبالإخوة في المحبّة، فتنمو فينا "عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر" (قولسي 3، 12)، والمغفرة (راجع المرجع نفسه، الآية 13)، والسّلام (راجع يوحنّا 14، 27). "ليَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضًا في المَسيحِ يَسوع" (فيلبي 2، 5). وعلى مثل هذه الطّريق، سنفهم دائمًا بصورة أفضل ماذا يعني أنّ "الرَّجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحِبَه، لأَنَّ مَحَبَّةَ الله أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5، 5).
أيّها الشّباب الأعزّاء، رجاؤنا هو يسوع. وكما قال القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني: هو "الذي يوقظ فيكم الرّغبة في جعل حياتكم شيئًا أسمى [...]، لكي تحسِّنوا أنفسكم والمجتمع، فتجعلوا فيه مزيدًا من الإنسانيّة والأخوّة" (اليوم العالمي الخامس عشر للشّبيبة، عشيّة الصّلاة، 19 آب/أغسطس 2000). فلنتمسّك بيسوع، ولنثبت في صداقته دائمًا، فننمو فيها بالصّلاة، والسّجود، ومناولة القربان الأقدس، والاعتراف المتكرّر بخطايانا، والمحبّة السّخيّة، كما علّمنا الطّوباويان بييرجورجيو فراسّاتي وكارلو أكوتيس، اللذان سيُعلنان قريبًا قدّيسَين. تطلّعوا إلى العُلى، وإلى القداسة، أينما كنتم. لا ترتضوا بالقليل! إذّاك سترَون نور الإنجيل ينمو كلّ يوم في داخلكم وحولكم.
أُوكلكم إلى مريم العذراء، سيّدة الرّجاء. وبمعونتها، وأنتم عائدون في الأيام المقبلة إلى بلادكم، في كلّ أنحاء العالم، واصلوا السّير بفرح على خطى المسيح المخلِّص، وانقلوا إلى كلّ من تلتقونه حماسكم وشهادة إيمانكم! مسيرة مباركة!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
Copyright © دائرة الاتصالات - Libreria Editrice Vaticana