Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - KO  - PL  - PT  - UK  - ZH_CN  - ZH_TW ]

رسالة قداسة البابا فرنسيس

بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين واللاجئين

27 مايو/ أيار 2019

 

الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب

 

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

يؤكّد لنا الإيمان أن ملكوت الله هو حاضر على الأرض بطريقة سرّية (را. المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور فرح ورجاء، 39)؛ ولكننا، حتى في عصرنا هذا، نستنتج بألم وجود عقبات وقوى معارضة. فما زالت النزاعات العنيفة والحروب الحقّة تمزّق البشرية؛ ويتتالى الظلم والتمييز؛ ويصعب تخطّي الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية على المستوى المحلّي أو العالمي. والذين يدفعون ثمن ذلك كلّه إنما هم الفقراء والمحرومين بشكل خاصّ.

المجتمعاتُ الأكثر تقدّمًا اقتصاديًا تنمّي في داخلها ميلًا إلى نزعة فرديّة ظاهرة، تُنتِجُ، إذ ترافقها العقليّة النفعيّة وتضاعفها شبكات الإعلام، "عولمةَ اللامبالاة". وأصبح، في هذا السيناريو، المهاجرون واللاجئون والمشرّدون وضحايا الاتّجار بالأشخاص، شعارًا للاستبعاد لأنهم، بالإضافة إلى المصاعب التي تتضمّنها حالتهم، غالبًا ما نحمّلهم أحكامًا سلبية تعتبرهم سببًا للعِلل الاجتماعية. وموقفنا تجاههم يمثّل جرس إنذار يحذّر من التدهور الأخلاقي الذي يواجهه الفرد إذا استمرّينا في إفساح المجال لثقافة الاستبعاد. وكلّ شخص في الواقع لا يتبنّى، من هذا المنطلق، شريعة الرفاه البدني والعقلي والاجتماعي، يصبح عرضة لخطر التهميش والاستبعاد.

ولذا، فإن وجود المهاجرين واللاجئين –كما ووجود الأشخاص الضعيفة عمومًا- يمثّل اليوم دعوة لاستعادة بعض الأبعاد الأساسيّة لوجودنا المسيحي ولإنسانيّتنا، والتي تكاد أن "تغيب" في نمط حياة غاص بالراحة. ولذا فإن "الأمر لا يتعلّق بالمهاجرين وحسب"، أي: إننا، إذ نهتمّ بهم، نهتمّ أيضًا بأنفسنا، بالجميع؛ وإذ نعتني بهم، فإننا جميعنا ننمو. وإذ نصغي إليهم، نعطي صوتًا أيضًا لهذا الجزء من ذواتنا الذي ربما نبقيه خفيًا لأنه ليس مقبولًا في أيامنا.

"ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!" (متى 14، 27). الأمر لا يتعلّق بالمهاجرين وحسب: إنها مخاوفنا أيضًا. فخبث عصرنا وقباحته ينمّيان فينا "الخوف من "الآخرين"، من الغرباء، والمهمشين، والأجانب [...]. وهذا ملحوظ بشكل خاص اليوم، إزاء وصول المهاجرين واللاجئين الذين يطرقون بابنا بحثًا عن الحماية والأمن ومستقبل أفضل. وصحيح أن الخوف مشروع، لأن الاستعداد لهذا اللقاء يتلاشى" (عظة قداسة البابا، ساكروفانو، 15 فبراير/شباط 2019). ليست المشكلة بأنه لدينا شكوك ومخاوف. المشكلة هي عندما تُسِيّر هذه الشكوك والمخاوف طريقتَنا في التفكير والتصرّف لدرجة تجعلنا غير متسامحين، ومنغلقين، وربما حتى -دون أن ندرك ذلك- عنصريين. ويحرمنا الخوفُ بهذه الطريقة من الرغبة والقدرة على لقاء الشخص الآخر، الشخص المختلف عنّي؛ يحرمني من فرصة لقاء الربّ (را. عظة قداسة البابا خلال قداس اليوم العالمي للمهاجرين واللاجئين، 14 يناير/كانون الثاني 2018).

"إِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟" (متى 5، 46). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: إنها المحبّة. فنحن نظهر إيماننا من خلال أعمال المحبّة (را. يع 2، 18). والمحبّة الأسمى هي التي نمارسها تجاه مَن لا يستطيع الردّ بالمثل وربما لا يقدر حتى أن يشكر عليها. "إن الوجه الذي نريد أن نعطيه كمجتمع، هو الذي وُضِعَ على المحكّ، كما وقيمة كلّ حياة. [...] انّ تقدّم شعوبنا [...] يتوقّف قبل كلّ شيء، على قدرتنا بالانفعال وبالتأثّر بفعل مَن يقرع على الباب ويفضح بنظره جميع الآلهة الزائفة التي ترهن الحياة وتستعبدها؛ آلهة تعِد بسعادة وهميّة وزائلة مبنيّة على هامش الواقع وألم الآخرين" (كلمة قداسة البابا أثناء اللقاء مع المهاجرين، الرباط، 30 مارس/آذار 2019).

"وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه" (لو 10، 33). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: بل يتعلّق بإنسانيتنا. إن ما يدفع ذاك السامري –وهو غريب بالنسبة لليهود- إلى التوقّف إنما هي الشفقة، وهو شعور لا يمكن تفسيره فقط على المستوى العقلاني. فالشفقة تلمس الأوتار الأكثر حساسيّة في إنسانيّتنا، وتدفعنا فورًا لأن نكون "أقرباء" الذين نرى أنهم يمرّون بالمحن. كما يعلّمنا يسوع نفسه (را. متى 9، 35- 36؛ 14، 13- 14؛ 15، 32- 37)، أن نشفق يعني أن ندرك معاناة الآخر وأن نبدأ فورًا بالعمل كي نهدّئ ونعتني وننقذ. أن نشفق يعني أن نعطي المجال للعطف، الذي غالبًا ما يطلب منّا المجتمع اليوم أن نحبسه. "إن الانفتاح على الآخرين لا يُفقر، إنما يُثري، لأنه يساعدنا على أن نكون أكثر إنسانية: على أن نتعرف بأننا نشكّل جزءًا ناشطًا من مجموعة أكبر، وعلى أن نعتبر الحياة كعطيّة للآخرين؛ وعلى أن نرى في الهدف، لا المصالح الخاصّة، وإنما مصلحة البشرية" (كلمة البابا في مسجد حيدر علييف، باكو، أذربيجان، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2016).

"إِيَّاكُم أَن تَحتَقِروا أَحَدًا مِن هؤلاءِ الصِّغار. أَقولُ لكم إِنَّ ملائكتَهم في السَّمَواتِ يُشاهِدونَ أَبَدًا وَجهَ أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 18، 10). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: بل بعدم استبعاد أيّ شخص. إنعالم اليوم يزداد يوميًّا نخبويّة وقساوة تجاه المستبعدين. ولا تزال البلدان النامية تستنفد أفضل مواردها الطبيعية والبشريّة لصالح عدد قليل من الأسواق المتمايزة. أمّا الحروب فلا تجتاح بعض مناطق العالم وحسب، ولكن الأسلحة التي تُستخدم يتمّ إنتاجها وبيعها في مناطق أخرى لا ترغب بعد ذلك في تحمّل مسؤوليّة اللاجئين القادمين من هذه الصراعات. والذين يدفعون الثمن هم دائمًا الصغار، والفقراء، والأضعف، الذين يُمنعون من الجلوس على الطاولة ويترك لهم "فتات" الولائم (را. لو 16، 19- 21). "تعرف الكنيسة "المنطلقة" [...] كيف تأخذ المبادرة بدون خوف، وأن تذهب كي تلاقي، وأن تبحث عن البعيدين، وتصل إلى تقاطع الطرق، كي تدعو المُستبعَدين" (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 24). والتنمية الحصرية تجعل الأغنياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقرّا. أمّا التطوّر الحقيقي هو ذاك الذي يهدف إلى احتضان جميع الرجال والنساء في العالم، عبر تعزيز نموّهم المتكامل، والذي يعتني أيضًا بالأجيال الصاعدة.

"مَن أَرادَ أَن يَكونَ كَبيرًا فيكم، فَلْيَكُنْ لَكُم خادِمًا. ومَن أَرادَ أَن يكونَ الأَوَّلَ فيكم، فَلْيَكُنْ لأَجمَعِكم عَبْدًا" (مر 10، 43- 44). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: بل بوضع الآخرين في المقام الأوّل. إنيسوع المسيح يطلب منّا عدم الانصياع لمنطق العالم، الذي يبرّر إساءة معاملة الآخرين بهدف تحقيق مكاسبي الشخصيّة أو مكاسب مجموعتي: أنا أوّلًا ثمّ الآخرين! إن الشعار الحقيقي للمسيحي إنما هو "الأخيرين أوّلًا!". "يشكّل روح الفردانيّة أرضًا خصبة لنضوج حسّ اللامبالاة تجاه القريب والذي يحمل على معاملته كغرض مقايضة يدفعنا إلى عدم الاكتراث بإنسانية الآخرين ويحوّلنا إلى أشخاص جبناء ومُتهكّمين. أليست ربما غالبًا هذه هي المشاعر التي نملكها إزاء الفقراء والمهمّشين والأخيرين في المجتمع؟ وما أكثر الأخيرين في مجتمعنا! من بينهم أفكّر بشكل خاص بالمهاجرين وفي ثقل صعوباتهم وآلامهم التي يواجهونها يوميًّا في البحث، اليائس أحيانًا، عن مكان يعيشون فيه بسلام وكرامة" (كلمة قداسة البابا إلى الدبلوماسيين المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، 11 يناير/كانون الثاني 2016). فالآخِرون بحسب منطق الإنجيل هم أوّلون، وعلينا أن نضع أنفسنا بخدمتهم.

"قَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يو 10، 10). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: إنه مسألة الشخص بكامله، وكلّ شخص. نجدفي تأكيد يسوع هذا، جوهر رسالته: ضمان حصول الجميع على ملء عطيّة الحياة، وفقًا لإرادة الآب. ينبغي علينا، في كلّ نشاط سياسيّ، وفي كلّ برنامج، وفي كلّ عمل رعويّ، أن نركّز دائمًا على الشخص، بأبعاده المتعدّدة، بما في ذلك الأبعاد الروحيّة. وهذا ينطبق على جميع الأشخاص، الذين يجب الاعتراف بمساواتهم الأساسية. لذا، فإن "التنمية لا تقتصر على مجرّد النموّ الاقتصادي. كيما يكون تطوّرًا حقيقيًا، يجب أن يكون متكاملًا، مما يعني تعزيز كلّ شخص والشخص بكامله" (القديس بولس السادس، الرسالة العامّة تـَرَقّي الشعوب، 14).

"لَستُم إِذًا بَعدَ اليَومِ غُرَباءَ أَو نُزَلاء، بل أَنتُم مِن أَبناءَ وَطَنِ القِدِّيسين ومِن أَهْلِ بَيتِ الله" (أف 2، 19). الأمر لا يتعلق بالمهاجرين وحسب: إنه مسألة بناء مدينة الله والإنسان. هناك العديد من الأبرياء الذين، في عصرنا هذا المسمّى أيضًا عصر الهجرات، يقعون ضحيّة "الخداع الكبير"، خداع التطوّر التكنولوجي والاستهلاكي اللامحدود (را. الرسالة العامة كن مسبّحًا، 34). وهكذا يشرعون في رحلة إلى "الجنّة" التي تخون تطلّعاتهم بلا رحمة. إن وجودهم، المزعج في بعض الأحيان، يساعد على وضع نهاية لأساطير التقدّم المُخصّص لقلّة من الناس، والقائم على استغلال الكثيرين. "هي بالتالي أن نرى، نحن أوّلًا، وأن نساعد الآخرين على أن يروا، في المهاجر وفي اللاجئ ليس فقط مشكلة يجب مواجهتها، إنما أخًا وأختًا علينا استقبالهم واحترامهم ومحبتّهم، ومناسبةً تمنحنا إياها العناية الإلهية كي نساهم في بناء مجتمعٍ أكثر عدالةً، وديمقراطية أكثر اكتمالًا، ودولة أكثر اتّحادًا، وعالم أكثر أخوّةً، وجماعة مسيحيّة أكثر انفتاحًا، وفقًا للإنجيل" (رسالة البابا لليوم العالمي للمهاجرين واللاجئين 2014).

أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، يمكن تلخيص الإجابة على التحدّي الذي تمثّله الهجرة المعاصرة في أربعة أفعال: استضافة، وحماية، ومساندة، ودمج. لكن هذه الأفعال لا تنطبق فقط على المهاجرين واللاجئين. فهي تعبّر عن رسالة الكنيسة تجاه جميع سكّان الضواحي الوجودية، الذين يجب أن نستضيفهم ونحميهم ونساندهم وندمجهم. إذا وضعنا هذه الأفعال موضع التنفيذ، فسوف نساهم في بناء مدينة الله والإنسان، ونعزّز التنمية البشريّة المتكاملة لجميع الناس، ونساعد أيضًا المجتمع الدولي على الاقتراب من أهداف التنمية المستدامة التي حدّدها لنفسه، وإلّا، فسيكون من الصعب بلوغها.

لذلك، فإن قضيّة المهاجرين ليست وحدها على المحكّ، وليست المسألة مسألتهم وحسب، بل إن الأمر يتعلّق بجميعنا، بحاضر وبمستقبل الأسرة البشريّة. فالمهاجرون، ولا سيما الأكثر ضعفًا، يساعدوننا على قراءة "علامات العصر". والربّ يدعونا من خلالهم إلى التوبة، إلى تحرير أنفسنا من التفرّد واللامبالاة وثقافة الاستبعاد. يدعونا الربّ من خلالهم، إلى استعادة حياتنا المسيحيّة بأكملها وإلى المساهمة، كلّ حسب دعوته، في بناء عالم أكثر توافقًا مع تدبير الله.

هذه هي أمنيتي التي أرافقها بالصلاة ملتمسًا، بشفاعة العذراء مريم، سيّدة الطريق، بركات وفيرة لجميع المهاجرين واللاجئين في العالم، وللذين يرافقونهم في دربهم.

 

من الفاتيكان، 30 أبريل/نيسان 2019

 

 

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2019

  


Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana