رسالة البابا فرنسيس
بمناسبة اليوم الحادي والخمسين
للصلاة من أجل الدعوات 2014
"الدعوات: شهادة للحقيقة"
الأخوات والإخوة الأعزاء،
1. يخبرنا الإنجيل أن "يسوع كانَ يَسيرُ في جَميعِ المُدُنِ والقُرى ... ورأَى الجُموعَ فأَخذَته الشَّفَقَةُ علَيهم، لأَنَّهم كانوا تَعِبينَ رازِحين، كَغَنَمٍ لا راعيَ لها. فقالَ لِتلاميذِه: «الحَصادُ كثيرٌ ولَكِنَّ العَمَلَةَ قَليلون. فاسأَلوا رَبّ الحَصادِ أَن يُرسِلَ عَمَلَةً إِلى حَصادِه»" (مت 9، 35- 38). تصيبنا هذه الكلمات بالدهشة، لأننا نعرف جميعا أنه يجب علينا أولا أن نحرث الأرض، ونزرعها ونغرسها حتى نتمنكن بعدها، عندما يأتي الوقت الموائم، من جني الحصاد الوفير. لكنَّ يسوع يؤكد، خلافا لذلك، أن "الحصاد وفير". فمَنْ الذي عمل ليكون الحصاد هكذا وفيرا؟ لا توجد سوى إجابة واحدة: إنه الله. لا شك في أن الحقل، الذي يتكلم عنه يسوع، هو البشرية، هو نحن، وأن العمل الفعّال الذي أنتج هذا "الحصاد الوفير" هو نعمة الله، والشَرِكة معه (ق. يو 15، 5). ومن ثمَّ، فالصلاة التي يطلبها يسوع من الكنيسة تتعلق بطلب زيادة أعداد الذين يخدمون ملكوت الله. كان القديس بولس واحدا من "معاوني الله"، لكونه كرس حياتها، بلا كلل، من أجل خدمة الإنجيل والكنيسة، بيقين مَنْ اختبر شخصيا صعوبة وصف إرادة الله الخلاصية، وأن مبادرة النعمة هي أساس كل دعوة، لذا نجده يذّكر مسيحيي كورنتس: "نَحنُ عامِلونَ مَعًا في عَمَلِ الله، وأَنتُم حَقْلُ اللهِ وبُنيانُ الله" (1 كو 3، 9). وبالتالي تغمر قلبنا أولا الدهشة أمام الحصاد الوفرة الذي بوسع الله وحده أن يغدقه؛ ومن ثم الامتنان من أجل محبة تلك التي تسبقنا دائما؛ وأخيرا العبادة لأجل العمل الذي أتمه، والذي يتطلب منا موافقتنا الحرة للعمل معه ومن أجله.
2. لقد صلينا مرات كثيرة بكلمات صاحب المزمور: "الرَّبَّ هو الله، هو صَنَعَنا ونَحنُ لَه نَحنُ شَعبُه وغَنَمُ مَرْعاه" (مز 100، 3)؛ وكذلك: "لأَنَّ الرَّبَّ قدِ أَخْتارَ لَه يَعْقوب وإِسْرائيلَ خاصَّةً لَه" (مز 135، 4). حسنٌ، فنحن "خاصة" الله، وملكيته، لا بمعني الامتلاك الذي يجعلنا عبيدا، وإنما بمعنى الصلة الوثيقة التي تربط بيننا وبين الله، وفقا للعهد القائم للأبد: "لأنَّ إلى الأبدِ رَحمَتَه" (مز 136). يذكر الله، على سبيل المثال، في قصة دعوة النبي أرميا، بأنه يسهر دائما على كل واحد منا حتى تتحقق كلمته فينا. والتشبيه المستخدم هو لغصن شجرة اللوز الذي يزدهر قبل جميع النبتات الأخرى، معلنا ميلاد الحياة الجديد في فصل الربيع (ق. أر 1، 11- 12). فكل شيء ينبع منه، وكل شيء هو عطية منه: العالم، والحياة، والموت، والحاضر، والمستقبل، لكن – كما يؤكد الرسول – "أَنتُم لِلمسيح، والمسيحُ لله" (1 كو 3، 22). وهنا ينجلي معنى طبيعة انتمائنا لله: من خلال العلاقة الفريدة والشخصية مع يسوع، والتي تمنح لنا بواسطة سر المعمودية مع بداية ولادتنا للحياة الجديدة. فيسوع إذا هو الذي يحثنا باستمرارٍ، بواسطة كلمته، حتى نضع ثقتنا فيه، وحتى يُحِبَّه الإِنسان "بِكُلِّ قلبِهِ وكُلِّ عَقلِه وكُلِّ قُوَّتِه" (مر 12، 33). لذلك تتطلب دائما كل دعوة - برغم تعدد الدروب - خروجا من النفس ليتمحور كل الوجود حول المسيح وحول إنجيله، سواء في الحياة الزوجية، أو في مختلف أشكال الحياة الرهبانية المكرسة، أو في الحياة الكهنوتية، مع ضرورة تخطي أنماط التفكير والتصرف التي لا تتوافق مع مشيئة الله. إنه "خروج يحملنا إلى مسيرة عبادة للرب وخدمة له في الإخوة والأخوات" (حديث للرئيسات العامات، 8 مَايو/آيار 2013). ولهذا فنحن جميعا مدعوون لعبادة للمسيح في قلوبنا (ق. 1 بط 3، 15) كي نسمح لنبض النعمة الذي تحتويه بذرة الكلمة بأن يطالنا، وينمو فينا ويحولنا إلى خدمة ملموسة للقريب. يجب علينا ألا نخاف: فالله يتابعنا بشفقة وبمهارة كصُنع يديه، في كل مراحل حياتنا. وهو لا يُهملنا ابدا! ويطوق في قلبه إلى أن يحقق فينا مخططه، ولكنه ينوي تحقيقه بموافقتنا وبتعاوننا.
3. إن اليوم أيضًا يعيش يسوع ويسير في واقع حياتنا اليوميّة ليقترب من الجميع، منطلقا من الأكثر ضُعفًا، ليشفينا من عللنا وأمراضنا. أتوجه الآن لأولئك الجاهزين لسماع صوت المسيح الذي يرن في الكنيسة، حتى يدركوا ما هي دعوتهم الخاصة. أدعوكم للإصغاء ليسوع وإتباعه، وأن تسمحوا لكلماته التي هي "روح وحياة" (يوحنا 6، 62) بأن تحولكم من الداخل. والعذراء مريم، أم يسوع وأمنا، تكرر علينا أيضًا: "إفعلوا ما يأمركم به!" (يو 2، 5). سيكون مفيدا لكم المشاركة في مسيرة جماعية تكزن قادرة على تحرير الطاقات الإيجابية فيكم ومن حولكم. إن الدعوة هي ثمرة تنضج في الحقل المزروع جيدا بالمحبة المتبادلة التي تصبح خدمة متبادلة، في إطار حياة كنسيّة أصيلة. فما من دعوة تولد من ذات نفسها أو تعيش لنفسها. فالدعوة تولد من قلب الله وتُزهر في الأرض الطيّبة للشعب الأمين، وفي خبرة المحبة الأخويّة. ألم يقل لنا يسوع: "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يو 13، 35)؟
4. إخوتي وأخواتي الأعزاء، إن عيش هذا "المعيار السامي من الحياة المسيحية اليومية" (ق. يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية "نحو ألفيةٍ جديدة"، عدد 31)، يعني السير عكس التيار أحيانا ومواجهة الحواجز، سواء الخارجة عنّا أو النابعة منّا. ويسوع نفسه يحذرنا: أن بذرة كلمة الله الجيدة غالبًا ما يسرقها الشرير أو تعيقها الاضرابات، وتخنقها اهتمامات وإغراءات العالم (را. مت 13، 19 – 22). يمكن لكل هذه الصعوبات أن تفقدنا عزيمتنا، وتدفعنا نحو دروب قد تبدو أكثر راحة. لكن فرح المدعوين الحقيقي يقوم في الإيمان بالله واختبار أن الرب هو أمين وبأنه يمكننا السير معه، وأن نكون تلاميذًا وشهودًا لمحبة الله، وأن نفتح قلوبنا للمُثل السامية وللأشياء العظيمة! "فالرب لم يختارنا نحن المسيحيين من أجل أمور صغيرة، وإنما لنسير ونذهب دائما أبعد منها، نحو الأشياء العظيمة. لذا راهنوا بحياتكم من أجل هذه المثل السامية!" (عظة في قداس التثبيت، 28 أبريل/نيسان 2013). أما أنتم أيها الأساقفة، والكهنة، والرهبات، والجماعات والعائلات المسيحي، فإني أدعوكم لتوجيه العمل الرسولي لتنشيط الدعوات في هذا الاتجاه، باصطحاب الشباب ليسلكوا طرق القداسة، ولكونهم اشخاصا، "ومن الواضح أن طرق القداسة هي شخصية تتطلّب تربية على القداسة كفيلة بأن تتكيف مع ميول كل واحد. وعلى هذه التربية أن تضمّ إلى غنى العرض الموجّه إلى الجميع الأمور التقليدية التي تساعد الأفراد والجماعات كما الأمور الحديثة التي تقدّمها الجمعيات والأنشطة التي تقرّها الكنيسة" (يوحنا بولس الثاني، رسالة رسولية "نحو ألفيةٍ جديدة"، عدد 31)
لنحضر قلوبنا إذًا لتكون "أرضًا طيّبة" للإصغاء وقبول وعيش الكلمة فنحمل عندها ثمارًا. فبقدر ما نتحد بيسوع بواسطة الصلاة والكتاب المقدس، والإفخارستيا والأسرار التي نحتفل بها ونعيشها في الكنيسة، وبالأخوة المعاشة، سينمو فينا فرح التعاون مع الله في خدمة ملكوت الرحمة والحق والعدالة والسلام. وسيكون الحصاد كثيرًا على مقدار النعمة التي قبلناها بوداعة في داخلنا. بهذه التمنيات، أسألكم أن تصلوا من أجلي، وأمنحكم من كل القلب بركتي الرسوليّة
حاضرة الفاتيكان، 15 يناير / كانون الثاني 2014
البابا فرنسيس
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2014
Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana