الإرشاد الرّسوليّ
لقد أَحبَبتُكَ
DILEXI TE
لقداسة البابا لاوُن الرّابع عشر
في محبّة الفقراء
_________________________
1. "لقد أَحبَبتُكَ" (رؤيا يوحنّا 3، 9)، قال الرّبّ يسوع لجماعة مسيحيّة لم يكن لها، مثلَ غيرها، أيّ أهمّيّة أو أموال، وكانت معرّضة للعنف والاحتقار: "على قِلَّةِ قُوَّتِك [...] ها إِنِّي أَجعَلُهم يَأتونَ ويَسجُدونَ عِندَ قَدَمَيك" (رؤيا يوحنّا 3، 8-9). هذا النّص يذكّرنا بكلمات نشيد مريم العذراء: "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش، ورَفَعَ الوُضَعاء. أَشبَعَ الجِياعَ مِنَ الخَيرات، والأَغنِياءُ صَرَفَهم فارِغين" (لوقا 1، 52-53).
2. إعلان المحبّة هذا في سفر الرّؤيا يشير إلى السّرّ الذي لا يُستَقصَى الذي تعمّق فيه البابا فرنسيس في الرّسالة البابويّة العامّة ” لقد أحَبَّنا - Dilexit nos“، في الحبّ الإنسانيّ والإلهيّ في قلب يسوع المسيح. تأمّلنا فيها كيف كان يسوع يساوي نفسه مع "أصغر أفراد المجتمع"، وكيف أظهر كرامة كلّ إنسان بمحبّته التي بذلها حتّى النّهاية لكلّ إنسان، لا سيِّما "لأكثرهم ضعفًا وبؤسًا وعذابًا" [1]. التّأمّل في محبّة المسيح "يحملنا على مزيد من الاهتمام بآلام واحتياجات الآخرين، ويقوِّينا للمشاركة في عمله لتحرير الإنسان، فنكون أدوات لنشر محبّته" [2].
3. لهذا السّبب، وبالارتباط مع الرّسالة البابويّة العامّة ” لقد أحَبَّنا - Dilexit nos“، كان البابا فرنسيس يُعِدُّ، في الأشهر الأخيرة من حياته، إرشادًا رسوليًّا في اهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء، بعنوان ” لقد أَحبَبتُكَ - Dilexit te“، فتصوَّرَ أنّ المسيح يخاطب كلّ واحد منهم، فيقول له: أنت لا قوّة لك، ولا قدرة لك، لكنّي "أَحبَبتُكَ" (رؤيا يوحنّا 3، 9). وقد تسلّمت هذا المشروع بمثابة إرثٍ يسعدني أن أتبنّاه – وقد أضفتُ عليهِ بعض الأفكار- وأقدّمه من جديد في بداية حبريّتي، فأشارك في رغبة سلفي المحبوب بأن يدرك جميع المسيحيّين الارتباط العميق بين محبّة المسيح ودعوته لنا لكي نكون قريبين من الفقراء. أنا أيضًا أعتقد أنّه من الضّروريّ أن أوكّد على هذا الطّريق نحو القداسة، لأنّه "في هذه الدّعوة إلى التّعرف عليه في الفقراء والمتألِّمين يظهر قلب المسيح نفسه، ومشاعرُه وخياراتُه العميقة، التي يسعى كلّ قدّيس إلى التّشبّه بها" [3].
الفصل الأوّل
بعض الكلمات الأساسيّة
4. انتقد تلاميذ يسوع المرأة التي سكبت الطِّيب الثّمين جدًّا على رأسه، فقالوا: "لِمَ هذا الإِسْراف؟ فقد كانَ يُمكِنُ أَن يُباعَ غالِيًا، فيُعْطى الفُقَراءُ ثَمَنَه". فقال لهم الرّبّ يسوع: "الفُقَراء عِندَكم دائمًا أَبدًا، وأَمَّا أَنا فلَستُ عِندَكم دائمًا أَبدًا" (متّى 26، 8-9. 11). لقد فهمت تلك المرأة أنّ يسوع كان المسيح المتواضع والمتألّم وفيه تضع حبّها: يا لها من تعزية، إنّها تسكب الطِّيب على الرّأس الذي سيتعرّض بعد أيّام قليلة لعذاب الشّوك! كانت تلك علامة بسيطة، بلا شكّ، لكن الذي يتألّم يعرف ويقدِّر أصغر علامة من المودة، والعزاء الكبير الذي تحمله له. فَهِمَ يسوع ذلك وأبَّدَ ذكراها: "حيثُما تُعلَنْ هذِه البِشارَةُ في العالَمِ كُلِّه، يُحَدَّثْ بِما صَنَعَت إِحياءً لِذِكرِها" (متّى 26، 13). بساطة هذه العلامة تكشف عن شيء كبير. لن تنسى أيّة علامة محبّة، مهما كانت صغيرة، خاصّة إن كانت موجّهة إلى إنسان متألِّم، أو إلى من هو في العزلة والخذلان، أو إلى المحتاج، كما كان حال الرّبّ يسوع في تلك السّاعة.
5. ومن هذا المنظور، تتّحد محبّة الرّبّ يسوع مع محبّة الفقراء. قَول يسوع: "الفُقَراء عِندَكم دائمًا أَبدًا" (متّى 26، 11)، له المعنى نفسه مثل كلماته: "هاءَنذا معَكم طَوالَ الأَيَّام" (متّى 28، 20). وفي الوقت نفسه، نسمع كلماته تخاطبنا: "كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متّى 25، 40). نحن لسنا في أفق الإحسان، بل في أفق الوحي: فالتواصل مع مَن لا سلطان له ولا عظمة هو طريق أساسيّ للّقاء مع ربّ التّاريخ. ففي الفقراء، يريد الله أن يقول لنا شيئًا.
القدّيس فرنسيس
6. عندما ذكَّرَنا البابا فرنسيس باختياره لاسمه، قال إنّ أحد الكرادلة الأصدقاء عانقه بعد انتخابه، وضمّه إليه وقال له: "لا تنسَ الفقراء!" [4]. إنّها التّوصية نفسها التي أعطتها سلطات الكنيسة للقدّيس بولس عندما صعد إلى أورشليم للتحقّق من رسالته (راجع غلاطية 2، 1-10). وبعد سنوات، استطاع الرّسول أن يؤكّد، فقال: "هذا ما اجتَهَدتُ أَن أَقومَ بِه" (غلاطية 2، 10). وهذا ما اختاره أيضًا القدّيس فرنسيس الأسيزي: ففي ذاك الأبرص، كان المسيح نفسه هو من عانقه وغيّر حياته. فشخصيّة ”فقير أسيزي“ المضيئة لن تكفّ أبدًا عن إلهامنا.
7. قبل ثمانيَة قرون، كان هو الذي أثار نهضة إنجيليّة بين المسيحيّين وفي مجتمعه. فبعد أن كان فرنسيس شابًّا غنيًّا وجريئًا، وُلد من جديد عندما التقى بواقع إنسان مُبعَدٍ عن العيش مع النّاس. هذا الدّافع الذي أثّر فيه لم يتوقّف عن تحريك نفوس المؤمنين وغير المؤمنين الكثيرين، و"قد غيّر التّاريخ" [5]. فالمجمع الفاتيكانيّ الثّاني نفسه، وفقًا لكلام القدّيس البابا بولس السّادس، كان يسير على هذا النّهج: "قصّة السّامري الرّحيم القديمة كانت النّموذج المثالي لروحانيّة المجمع" [6]. وأنا مقتنع بأنّ الخيار الأولويّ للفقراء يخلق تجديدًا استثنائيًّا في الكنيسة والمجتمع، عندما نكون قادرين على أن نتحرّر من المرجعيّة إلى الذّات، فنقدر أن نصغي إلى صراخهم.
صراخ الفقراء
8. في هذا الصّدد، هناك نصّ من الكتاب المقدّس يجب دائمًا أن نعود إليه كنقطة انطلاق. إنّه وحي الله لموسى عند العلّيقة المشتعلة، عندما قال له: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه [...]. فالآن، اِذهَبْ! أُرسِلُكَ إِلى فِرعَون" (خروج 3، 7-8. 10). [7] الله يُبيِّن عنايته واهتمامه باحتياجات الفقراء: "فصَرَخَ بَنو إِسْرائيلَ إِلى الرَّبّ، فأَقامَ الرَّبُّ لَهم مُخَلِّصًا" (قضاة 3، 15). لذا، عندما نسمع صراخ الفقير، نحن مدعوّون إلى أن نتّحد مع قلب الله، الذي يهتمّ بحاجات أبنائه، ولا سيِّما أكثرهم حاجةً. أمّا إن بقينا غير مبالين لهذا الصّراخ، فإنّ الفقير "سيصرُخُ إِلى الرَّبِّ علَينا وتَكونُ علَينا خَطيئَة" (راجع تثنيَة الاشتِراع 15، 9)، وهكذا نبتعد عن قلب الله نفسه.
9. حالة الفقراء صرخة تمتدّ على تاريخ البشريّة، ولا تكفّ عن مخاطبة حياتنا ومجتمعاتنا والأنظمة السّياسيّة والاقتصاديّة، والكنيسة أيضًا وليس آخرًا. على وجوه الفقراء الجريحة نرى مطبوعة آلام الأبرياء، ومن ثمَّ آلام المسيح نفسه. وفي الوقت نفسه، لعلَّه من الأدقّ أن نتكلّم على الوجوه الكثيرة للفقراء والفقر، لأنّه ظاهرة ولها أوجه عديدة، في الواقع، ثَمّة أشكال عديدة للفقر: فقر من لا يملك وسائل العيش المادّيّ، وفقر من هو مُهمّش في المجتمع ولا يملك الوسيلة التي تمكّنه من التّعبير عن كرامته وقدراته، والفقر الأخلاقيّ والرّوحيّ، والفقر الثّقافيّ، وفقر من هو في حالة ضعف أو هشاشة فرديّة أو اجتماعيّة، وفقر من لا حقوق له، ولا مكان، ولا حرّيّة.
10. بهذا المعنى، يمكننا أن نقول إنّ الالتزام من أجل الفقراء وإزالة الأسباب الاجتماعيّة والبنيويّة للفقر، على الرّغم من أنّه اكتسب أهمّيّة في العقود الأخيرة، إلّا أنّه ما زال غير كاف، وذلك أيضًا لأنّ المجتمعات التي نعيش فيها، تؤيّد مرارًا معايير لتوجيه الحياة والسّياسة تتّسم بعدم مساواة كثيرة، ولذلك، تُضاف إلى أشكال الفقر القديمة، التي عرفناها ونسعى إلى مقاومتها، أشكال جديدة، تكون أحيانًا أكثر خفاء وخطورة. من هذا المنظور، علينا أن نرحّب بتقدير لأنّ الأمم المتّحدة جعلت القضاء على الفقر واحدًا من أهداف الألفيّة.
11. إلى جانب الالتزام العمليّ من أجل الفقراء، لا بدّ من تغيير في العقليّة يؤثِّر على الصّعيد الثّقافي. في الواقع، وهْمُ السّعادة النّابع من حياة ميسورة يدفع أشخاصًا كثيرين إلى تبنِّي نظرة إلى الحياة تتمحور حول تكديس المال وتحقيق النّجاح الاجتماعيّ بأيّ ثمن، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، وهم يستغلّون أيضًا مُثُلًا اجتماعيّة وأنظمة سياسيّة واقتصاديّة جائرة تُفضِّل الأقوياء. وهكذا، في عالم يزداد فيه عدد الفقراء، نرى من جهة أخرى ظاهرة عكسيّة وهي زيادة بعض النُّخب من الأغنياء الذين يعيشون في إطار من الظّروف المريحة والفاخرة جدًّا، وكأنّهم في عالم آخر منفصل عن عامّة الناس. هذا يعني أنّ ثقافة إقصاء الآخرين – أحيانًا مخفّية بشكل جيّد – ما زالت قائمة، حتّى دون أن تدرك ذلك، وتقبل، بل لا تبالي بأن يموت ملايين الأشخاص جوعًا أو أن يعيشوا في ظروف لا تليق بالإنسان. منذ بضع سنوات، أثارت صورة طفل مُلقًى بلا حياة على شاطئ البحر المتوسّط صدمة كبيرة، وللأسف، باستثناء بعض المشاعر المؤقّتة، صارت الأحداث المماثلة عديمة التأثير وكأنّها أخبار هامشيّة.
12. يجب ألّا نتهاون في ما يختصّ بالفقر. وبشكل خاصّ، علينا أن نهتمّ بالظّروف الخطيرة التي يُعاني منها أشخاص كثيرون بسبب نقص الطّعام والماء. آلاف الأشخاص يموتون يوميًّا بسبب سوء التّغذية. حتّى في الدّول الغنيّة، فإنّ أرقام الفقر مقلقة جدًّا. في أوروبا، يزداد عدد العائلات التي لا تتمكّن من تغطية نفقاتها حتّى نهاية الشّهر. وبشكل عام، يمكن أن نلاحظ أنّه ازدادت أشكال الفقر المختلفة. ولم يعد الفقر محصورًا في حالة واحدة متشابهة، بل بات يظهر بأشكال متعدّدة من التّدهور الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ما يعكس ظاهرة تزايد التفاوت حتّى في البيئات الميسورة عمومًا. فلنتذكّر "أنّ فقر النّساءِ اللواتي تعاني من أوضاع الإقصاء وسوءِ المعاملة والعنف هو فقر مضاعف، لأنّهنّ يكنَّ مرارًا في أضعف الإمكانات للدّفاع عن حقوقهنَّ. إلّا أنّا نجد عندهنَّ أيضًا أبدعَ أعمال البطولة اليوميّة في صيانة هشاشة أسَرهنَّ والعناية بها" [8]. ورغم وجود بعض التّغيّرات المهمّة في بعض البلدان، "فإنّ تنظيم المجتمعات في كلّ العالم لا يزال بعيدًا عن أنْ يعكس بوضوح أنّ المرأة تتمتّع بنفس كرامة الرّجل وحقوقه الكاملة. أحيانًا يقولون أمورًا كثيرة، ولكن القرارات والواقع يُظهِران شيئًا آخر" [9]، خاصّة إن فكّرنا في أكثر النّساء فقرًا.
أحكام إيديولوجيّة مسبقة
13. وما عدا البيانات – التي ”تُفسَّر“ أحيانًا بطريقة تقنعنا بأنّ وضع الفقراء ليس سيِّئًا إلى هذا الحدّ -، فإنّ الواقع العامّ واضح نوعًا ما وهو: "هناك قواعد اقتصاديّة أثبتت فعّاليّتها في عمليّة النّموّ، ولكنّها ليست فعّالة لتنمية بشريّة متكاملة. فقد ازداد الغنى، ولكن دون مساواة، وبالتّالي إنّ ما يحدث هو ولادة أشكال جديدة من البؤس. عندما يقولون إنّ العالم الحديث قد حدّ من الفقر، إنّما يقيسون بمعايير من عصور أخرى لا يمكن مقارنتها بالواقع الحاليّ. ففي عصور أخرى في الواقع، لم يكن عدم الحصول على الكهرباء، مثلًا، علامة على الفقر، ولم يكن سببًا للانزعاج الشّديد. يجب تحليل الفقر وفهمه دائمًا في سياق الإمكانيّات الحقيقيّة في زمن تاريخيّ محدّد" [10]. مع ذلك، ما عدا بعض الأوضاع المحدّدة والموجودة في بعض السّياقات، أكّدت الوثيقة الصّادرة عن المجموعة الأوروبيّة في سنة 1984 أنّ "الفقراء هم الأفراد أو العائلات أو المجموعات الذين تكون مواردهم (الماديّة والثّقافيّة والاجتماعيّة) محدودة جدًّا لدرجة تمنعهم من العيش وفق الحدّ الأدنى المقبول في الدّولة العضو التي يعيشون فيها" [11]. وإن اعترفنا بأنّ جميع البشر يتمتّعون بالكرامة نفسها، بغضّ النّظر عن مكان ولادتهم، فينبغي ألّا نتجاهل الاختلافات الكبيرة الموجودة بين البلدان والمناطق.
14. الفقراء لا يوجدون بمحض الصّدفة أو بسبب مصير أعمى وقاسٍ. وبالتّأكيد، فإنّ الفقر، بالنّسبة لمعظم هؤلاء، ليس خيارًا. ومع ذلك، لا يزال هناك من يجرؤ على قول ذلك، فيُظهر العمى والقسوة. بالطّبع، هناك بعض الفقراء الذين لا يريدون أن يعملوا، ربّما لأنّ أجدادهم، الذين عملوا طوال حياتهم، ماتوا فقراء. ولكن هناك كثيرين – رجالًا ونساءً – يعملون من الصّباح حتّى المساء، ربّما بجمع الكرتون أو بالقيام بأعمال أخرى شبيهة، وهم يعلَمون أنّ هذا الجهد لن يساعدهم إلّا على البقاء على قيد الحياة ولن يحسّن حياتهم حقًّا. لا يمكننا أن نقول إنّ غالبيّة الفقراء فقراء لأنّهم لم يحقّقوا أيّ ”استحقاق“: هذه رؤية خاطئة للاستحقاق حيث يبدو أنّ المستحقّين هم فقط الذين نجحوا في الحياة.
15. في كثير من المناسبات، المسيحيّون أيضًا يتأثّرون بمواقف مشبعة بالأيديولوجيّات الدّنيويّة أو التّوجّهات السّياسيّة والاقتصاديّة التي تؤدّي إلى تعميمات غير عادلة واستنتاجات مضلّلة. إنّ احتقار ممارسة المحبّة أو الاستهزاء بها، كما لو أنّها هَوَس بعض الأشخاص وليست جوهر رسالة الكنيسة المتّقد، يدفعني إلى القول إنّه يجب علينا أن نقرأ من جديد الإنجيل، حتّى لا نوشك أن نستبدله بعقليّة دنيويّة. لا يمكن أن ننسى الفقراء إن كنّا لا نريد أن نخرج ونبتعد عن تيّار الكنيسة الحيّ الذي ينبع من الإنجيل ويُخصِب كلّ لحظة تاريخيّة.
الفصل الثّاني
الله يختار الفقراء
اختيار الفقراء
16. الله حبّ رحيم، ومشروع حبّه الذي يمتدّ ويتحقّق في التّاريخ، هو قبل كلّ شيء أنّه نزل وجاء بيننا ليحرّرنا من العبوديّة والمخاوف والخطيئة وسلطان الموت. وبنظرة مملوءة رحمة، وبقلب مفعم بالحبّ، توجّه إلى خليقته، واعتنى بحالتها الإنسانيّة، ومن ثَمَّ بفقرها. ومن أجل أن يشاركنا حدود طبيعتنا الإنسانيّة وضعفنا، صار هو نفسه فقيرًا، ووُلد في الجسد مثلنا، وعرفناه طفلًا صغيرًا في مذود، ثمّ حمل أقصى الإهانة على الصّليب، حيث شاركنا فقرنا الجذريّ، أي الموت. ومن هنا يتّضح جيّدًا لماذا يمكننا أن نتكلّم لاهوتيًّا ونقول إنّ الله اختار الفقراء، وهو تعبير وُلد في سياق قارّة أمريكا اللاتينيّة، لا سيّما في اجتماع بويبلا (Puebla)، ثمّ صار جزءًا من تعليم الكنيسة فيما بعد. [12] هذا ”التّفضيل“ لا يعني أبدًا إقصاءً أو تمييزًا تجاه جماعات أخرى: هذا أمر مستحيل لله، إنّما يُظهِر هذا التّفضيل عمل الله الذي يميل بعطف تجاه فقر وضعف البشريّة بأسرها، والذي يهتمّ على وجه خاصّ بالمهمّشين والمظلومين، لأنّه يريد أن يفتتح ملكوت عدلٍ وأخُوّةٍ وتضامن، ويطلب منّا نحن أيضًا، كنيسته، أن نتّخذ خيارًا حاسمًا وجذريًّا لصالح الأضعفين.
17. من هذا المنظور، يُمكننا أن نفهم صفحات العهد القديم الكثيرة التي فيها يُصوَّر الله صديقًا للفقراء ومُحرِّرًا لهم، والذي يسمع صراخ الفقير ويتدخَّل ليحرّره (راجع المزمور 34، 7). الله، ملجأ الفقير، من خلال الأنبياء - نتذكّر بشكلٍ خاصّ عاموس وأشعيا – كان يُدين الظّلم المُرتكب ضدّ الأضعفين، ويحثّ إسرائيل على تجديد عبادتها من الدّاخل، لأنّه لا يمكن أن نصلّي ونقدّم التّقادم ونحن نقمع الأضعفين وأكثر النّاس فقرًا. منذ البداية، ظهرت محبّة الله في الكتاب المقدّس بحيويّة شديدة في حمايته للضّعفاء والمحتاجين، لدرجة أنّه يمكنّنا أن نقول إنّ في الله ميلًا خاصًّا إليهم. "في قلب الله يوجد مكان مفضّل للفقراء [...]. كلّ مسيرة فدائنا تتميّز بالفقراء" [13].
يسوع، المسيح الفقير
18. كلّ أحداث العهد القديم حول تفضيل الله للفقراء ورغبته الإلهيّة في الإصغاء إلى صراخهم – التي ذكرتها بإيجاز – تتحقّق كاملة في يسوع النّاصري. [14] في تجسّده، "تَجَرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد، وصارَ على مِثالِ البَشَر، وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2، 7)، وفي تلك الصّورة حمل لنا الخلاص. إنّه فقر جذريّ، قائم على رسالته في كشف الوجه الحقيقيّ لمحبّة الله (راجع يوحنّا 1، 18؛ 1 يوحنّا 4، 9). لذلك، قال القدّيس بولس، في إحدى عباراته البليغة: "فأَنتُم تَعلَمونَ جُودَ رَبِّنا يسوعَ المسيح: فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه" (2 قورنتس 8، 9).
19. في الواقع، الإنجيل يبيِّن أنّ هذا الفقر كان يشمل كلّ جوانب حياة يسوع. فمنذ أن دخل يسوع إلى العالم، اختبر صعوبات الرّفض. قال الإنجيليّ لوقا بحزن عندما روى وصول يوسف ومريم إلى بيت لحم، وهي على وشك أن تَلِد: "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في المَضافة" (لوقا 2، 7). وُلِدَ يسوع في ظروف متواضعة، ولمَّا وُلِد وُضع في مذود، وسرعان ما اضطرّ والداه إلى الهرب به إلى مصر ليخلّصوه من الموت (راجع متّى 2، 13-15). وفي بداية حياته العلنيّة، طُرد من النّاصرة، بعدما أعلن في المجمع أنّ سنة النّعمة التي يَفرح فيها الفقراء قد تحقّقت فيه (راجع لوقا 4، 14-30). ولم يكن له موضع مناسب حتّى في موته: فقد اقتيد خارج أورشليم للصّلب (راجع مرقس 15، 22). في هذه الحالة، يتجلّى بوضوح فقر يسوع، وهو في نفس حالة الاقصاء التي تميِّز الفقراء، المستبعدين من المجتمع. يسوع هو وَحيُ الامتياز الإلهيّ للفقراء. وقد أتى هو إلى العالم ليس فقط ”مسيحًا فقيرًا“، بل أيضًا ليكون ”مسيح الفقراء والمسيح من أجل الفقراء“.
20. نجد في الإنجيل بعض المؤشّرات إلى الحالة الاجتماعيّة ليسوع. أوّلًا، كان يُمارس مهنة النّجّار، (τέκτων) (راجع مرقس 6، 3)، وكان الصّنائعيّون فئة من النّاس يعيشون من عملهم اليدويّ. ولأنّهم لم يكونوا من ملّاكِي الأرض، كانوا يُعتبَرون أدنى مرتبة من الفلّاحين. وعندما قَدَّمَ مريم ويوسف الطّفل يسوع في الهيكل، قدَّما عنه زَوجَي يَمَام أو فَرخَي حَمام (راجع لوقا 2، 22-24)، وهي، بحسب سفر الأحبار (راجع 12، 8)، تقدمة الفقراء. ومن الأحداث الإنجيليّة اللافتة في هذا الصّدد، حادثة التّلاميذ مع يسوع يسيرون في الحقول ويقلعون السّنبُل ليأكلوا (راجع مرقس 2، 23-28)، وكان جمع السّنابل المتبقّية في الحقل مخصَّصًا للفقراء. وقال يسوع مرّة عن نفسه: "إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرة، ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكارًا، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (متّى 8، 20؛ لوقا 9، 58). في الواقع، هو مُعلِّم متجوِّل، وفقره وعدم استقراره علامة على صِلتِه بالآب، وهو ما يُطلَب أيضًا من الذين يريدون اتّباعه على طريق التّلمذة، لكي يصير التجرّد من الممتلكات والثّروات وضمانات هذا العالم علامة منظورة على الاتّكال على الله وعنايته.
21. في بداية رسالته العلنيّة، في مجمع النّاصرة، بعد أن قرأ سفر النّبيّ أشعيا، طبّق يسوع على نفسه كلام النّبي: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّه مَسَحَني لأُبَشِّرَ الفُقَراء" (لوقا 4، 18؛ راجع أشعيا 61، 1). فأعلن عن نفسه، كالذي يأتي، في التّاريخ الحاضر، ليُحقّق قرب محبّة الله، وهو أوّلًا تحرير لمن هم أسرى الشّرّ، وللضّعفاء، والفقراء. وفي الواقع، الآيات التي رافقت كرازة يسوع كانت إعلانًا للمحبّة والرّحمة التي ينظر بها الله إلى المرضى والفقراء والخطأة، الذين كانوا مُهمّشين في المجتمع، ومن الدّيانة أيضًا، بسبب حالتهم. وفتح يسوع عيون العُميان، وشفى البُرص، وأقام الموتى، وأعلن للفقراء البشرى السّارّة: اللهُ اقتربَ منكم، اللهُ يحبُّكم (راجع لوقا 7، 22). وهذا يفسِّر لماذا أعلن: "طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله" (لوقا 6، 20). فقد أظهر اللهُ محبّة خاصّة للفقراء: إليهم أوّلًا وجّه كلمة الله، كلمة رجاء وتحرير. ولذلك، رغم حالة الفقر أو الضّعف، يجب ألّا يشعر أحد بعد بأنّه متروك. والكنيسة، إن أرادت أن تكون كنيسة المسيح، عليها أن تكون كنيسة التّطويبات، كنيسة تفسح المجال للصّغار، وتسير فقيرةً مع الفقراء، ويجد الفقراء فيها مكانًا وموقعًا مميَّزًا (راجع يعقوب 2، 2-4).
22. كان المحتاجون والمرضى، غير القادرين على تأمين ضروريّات الحياة، يُجبرون مرارًا على التّسوّل. وإلى حالهم هذا كان يضاف عبء الخزْي الاجتماعيّ، الذي يغذّيه الاعتقاد بأنّ المرض والفقر مرتبطان بالخطيئة الشّخصيّة. قاوم يسوع بشدّة هذا التّفكير، فقال: "الله يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشْرارِ والأَخْيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبْرارِ والفُجَّار" (متّى 5، 45). بل إنّه قَلَبَ هذا المفهوم رأسًا على عقب، كما يتجلّى بوضوح في مثل الغنيّ ولَعازَر المسكين: "يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعازَرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنتَ تُعَذَّب" (لوقا 16، 25).
23. إذًا، يتّضح أنّ "مِن إيماننا بيسوعَ المسيح الذي افتقر، والذي هو دائمًا قريبٌ من الفقراء والمنبوذين، ينجم اهتمامُنا بالنّموّ الكامل لأشدِّ المنبوذين في المجتمع" [15]. أتساءل أحيانًا لماذا، رغم هذا الوضوح في الكتب المقدّسة بشأن الفقراء، لا يزال الكثيرون يعتقدون أنّهم يستطيعون استبعاد الفقراء من اهتماماتهم. ولكن الآن، لنبق في إطار الكتب المقدّسة، ولنحاول أن نفكّر في علاقتنا مع الأخيرين في المجتمع وفي مكانتهم الأساسيّة في شعب الله.
الرّحمة تجاه الفقراء في الكتاب المقدّس
24. كتب الرّسول يوحنّا: "الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1 يوحنّا 4، 20). وبنفس الطّريقة، عندما أجاب يسوع على عالِم الشّريعة، أعاد التّذكير بالوصيَّتَين القديمتَين: "أَحبِب الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ" (تثنية الاشتراع 6، 5)، و"أَحْبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (الأحبار 19، 18)، فدمجهما في وصيّة واحدة. وأورد الإنجيلي مرقس جواب يسوع بهذه الكلمات: "الوَصِيَّةُ الأُولى هيَ: «اسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد. فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهنِكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ». والثَّانِيَةُ هي: «أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ». ولا وَصِيَّةَ أُخرى أَكبرُ مِن هاتَيْن" (مرقس 12، 29-31).
25. المقطع المذكور من سِفر الأحبار يدعو إلى احترام المواطنين، بينما نجد في نصوص أخرى تعاليم تدعو إلى احترام العدوّ، بل حتّى إلى محبّته: "إِذا لَقِيتَ ثَورَ عَدُوِّكَ أَو حِمارَه ضالًّا، فرُدَّه إِلَيه. وإِذا رَأَيتَ حِمارَ مُبغِضِكَ ساقِطًا تَحتَ حِملِه، فكُفَّ عن تَجَنُّبِه، بل أَنهِضْه معَه" (خروج 23، 4-5). من هذا نستشفّ القيمة الجوهريّة لاحترام الإنسان: فأيّ شخص، حتّى العدوّ، عندما يكون في ضيق، يستحقّ مساعدتنا دائمًا.
26. لا يمكن الإنكار أنّ أولويّة الله في تعليم يسوع تترافق مع حقيقة راسخة أخرى وهي أنّه لا يمكن أن نحبّ الله دون أن نوسّع محبّتنا لتشمل الفقراء. فمحبّة القريب هي الدّليل العمليّ على صدق وحقيقة محبّتنا لله، كما يشهد الرّسول يوحنّا: "إِنَّ اللهَ ما عايَنَه أَحَدٌ قَطّ. فإِذا أَحَبَّ بَعضُنا بَعضًا، فاللهُ فينا مُقيمٌ ومَحبَّتُه فينا مُكتَمِلَة. [...] اللهُ مَحبَّة، فمَن أَقامَ في المَحبَّةِ أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه" (1 يوحنّا 4، 12. 16). هما محبّتان متميّزتان ولكنّهما غير منفصلتَين، حتّى في الحالات التي لا تكون فيها العلاقة مع الله واضحة، فإنّ الله نفسه يعلِّمنا أنّ كلّ فعل محبّة تجاه القريب هو نوعًا ما انعكاس للمحبّة الإلهيّة: "الحقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متّى 25، 40).
27. لهذا السّبب يُوصينا يسوع بأعمال الرّحمة علامة على أصالة العبادة، التي تهدف، بينما تُقدّم التّسبيح لله، إلى أن تجعلنا منفتحين على التبدّل الذي يمكن أن يصنعه الرّوح القدس فينا، لكي نصير جميعًا على صورة المسيح ورحمته تجاه الأضعفين. بهذا المعنى، فإنّ علاقتنا مع الرّبّ يسوع، التي نُعبِّرُ عنها في العبادة، ترمي أيضًا إلى تحريرنا من خطر عيشنا لعلاقاتنا مع الله ضمن منطق الحساب والمنفعة، لكي نفتح أنفسنا على المجّانيّة التي تسود بين من يحبُّون بعضُهم بعضًا، فيجعلون كلّ شيءٍ مشتركًا بينهم. في هذا الصّدد، يُوصي يسوع ويقول: "إِذا صَنَعتَ غَداءً أَو عَشاءً، فلا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ وَلا أَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء، لِئَلَّا يَدْعوكَ هُم أَيضًا فتَنالَ المُكافأَة على صنيعِكَ. ولكِن إِذا أَقَمتَ مَأدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان. فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ لأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ" (لوقا 14، 12-14).
28. دعوة الرّبّ يسوع إلى الرّحمة تجاه الفقراء وجدت تعبيرًا كاملًا في المَثَل الكبير عن الدّينونة الأخيرة (راجع متّى 25، 31-46)، الذي هو أيضًا مثال حيّ على إعلان الطّوبى للرّحماء. هنا قدّم لنا الرّبّ يسوع المفتاح لنحقّق كمالنا، لأنّه "إن بحَثنا عن هذه القداسة المَرْضِيّة في عينَي لله فسنجد في هذا النّص تحديدًا قاعدة سلوك سنحاسَب على أساسها" [16]. الكلمات القويّة والواضحة في الإنجيل يجب أن نعيشها "بدون تعليقات، وبدون تبريرات وذرائع تجرّدها من قوّة معناها. لقد أوضح لنا الرّبّ يسوع أنّ القداسة لا يمكن أن نفهمها أو أن نعيشها بتجاهل هذه المطالب" [17].
29. في الجماعة المسيحيّة الأولى، لم يَنجُمْ برنامج المحبّة والرّحمة عن تحليلات أو مخطّطات، بل نَجَمَ مباشرة من مثال يسوع ومن كلام الإنجيل نفسه. رسالة يعقوب تكرِّس مساحة كبيرة لمشكلة العلاقة بين الأغنياء والفقراء، وتوجِّه إلى المؤمنين نداءَين شديدَيْن يدعوانهم إلى التّساؤل في صحّة إيمانهم: "ماذا يَنفَعُ، يا إِخوَتي، أَن يَقولَ أَحَدٌ إِنَّه يُؤمِن، إِن لم يَعمَل؟ أَبِوُسْعِ الإِيمانِ أَن يُخَلِّصَه؟ فإِن كانَ فيكُم أَخٌ عُريانٌ أَو أُختٌ عُريانَةٌ يَنقصُهما قُوتُ يَومِهِما، وقالَ لَهما أَحدُكم: «اذْهَبا بِسَلامٍ فاستَدفِئا واشبَعا» ولم تُعطوهما ما يَحتاجُ إِلَيه الجَسَد، فماذا يَنفَعُ قَولُكُم؟ وكَذلِكَ الإِيمان، فإِن لم يَقتَرِنْ بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه" (يعقوب 2، 14-17).
30. "ذَهَبُكم وفِضَّتُكم صَدِئا، وسَيَشهَدُ الصَّدَأُ علَيكم ويأكُلُ أَجسادَكم كأَنَّه نار. جَمَعتُم كُنوزًا في الأَيَّامِ الأَخيرة. ها إِنَّ الأُجْرَةَ الَّتي حَرَمتُموها العَمَلَةَ الَّذينَ حَصَدوا حُقولَكم قدِ ارتَفَعَ صِياحُها، وإِنَّ صُراخَ الحَصَّادينَ قد بَلَغَ أُذُنَي رَبِّ القُوَّات. عِشتُم على الأَرضِ في التَّنعُّمِ والتَّرَف وأَشبَعتُم أَهواءَكم يَومَ التَّذبيح" (يعقوب 5، 3-5). إنّه كلام شديد وصعب، حتّى لو فضّلنا أن نصمّ آذاننا عنه! نجد في رسالة يوحنّا الأولى نداءً مشابهًا: "مَن كانَت لَه خَيراتُ الدُّنْيا، ورأَى بِأَخيهِ حاجَةً، فأَغلَقَ أَحشاءَه دونَ أَخيه، فكَيفَ تُقيمُ فيه مَحبَّةُ الله؟" (1 يوحنّا 3، 17).
31. كلمة الله التي أوحيت إلينا "هي رسالةٌ واضحةٌ، مباشرةٌ، بسيطةٌ وبليغة ولا يحقّ لأيّ تفسيرٍ كنسيٍّ أن يخفّف من معناها. تفكيرُ الكنيسة في هذه النّصوص يجب ألّا يعتّم أو يُضعف معناها الذي يحذّرنا وينبّهنا، بل يجب أن يساعدنا على الاضطلاع بها بشجاعة وحرارة. لماذا تعقيدُ ما هو بسيط؟ صُنعتِ الأدواتُ الفكريّة كي تؤيِّد الاتّصال بالواقع الذي يحتاج إلى تفسير، لا للابتعاد عنه" [18].
32. من جهة أخرى، نجد في الحياة اليوميّة وأسلوب الجماعة المسيحيّة الأولى، مثالًا كنسيًّا واضحًا في المشاركة في الخيرات والاهتمام بالفقراء. يمكنُنا أن نتذكّر خاصّة الطّريقة التي بها حَلُّوا مسألة توزيع المعونات اليوميّة على الأرامل (راجع أعمال الرّسل 6، 1-6). لم تكن المشكلة سهلة. فبعض تلك الأرامل جئنَ من بلدان أخرى، وكُنَّ مهملات لكونهنَّ غريبات. في الواقع، الحادثة التي يرويها سفر أعمال الرّسل تُبيِّن نوعًا من التذمُّر من قِبَلِ اليونانيّين، اليهود ذوي الثّقافة اليونانيّة. لم يُجِب الرّسل ببعض الكلام المجرّد، بل جعلوا في المقام الأوّل المحبّة نحو الجميع وأعادوا تنظيم مساعدة الأرامل، وطلبوا من الجماعة أن تبحث عن أشخاص حكماء ومشهود لهم، ليوكلوا إليهم إدارة الموائد، فيما هم يتفرّغون للكرازة بالكلمة.
33. عندما ذهب بولس إلى أورشليم ليستشير الرُّسل "مَخافَةَ أَن يسْعى أَو يكونَ قد سَعى عَبَثًا" (راجع غلاطية 2، 2)، طلبوا منه ألّا ينسى الفقراء (راجع غلاطية 2، 10). لذلك، نظَّمَ تبرّعات مُختلفة لمساعدة الجماعات الفقيرة. ومن بين الدّوافع التي قدّمها لهذا العمل، دافعٌ يستحقّ التّوقّف عنده: "الله يُحِبُّ مَن أَعْطى مُتَهَلِّلًا" (2 قورنتس 9، 7). إلى الذين لا يميلون كثيرًا إلى تقديم الأعمال المجّانيّة دون مقابل، كلمة الله تشير إلى أنّ السّخاء والكرم تجاه الفقراء هو خير حقيقيّ لمن يمارسه، لأنّنا عندما نتصرّف هكذا، نحظى نحن بمحبّة الله لنا. في الواقع، الوعود كثيرة في الكتاب المقدّس الموجّهة إلى من يعطي بسخاء، منها: "مَن يَرحَم الفَقيرَ يُقرِض الرَّبّ، فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (الأمثال 19، 17). "أَعطُوا تُعطَوا: [...] لأَنَّه يُكالُ لَكم بِما تَكيلون" (لوقا 6، 38). "حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ، ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعًا" (أشعيا 58، 8). وكان المسيحيّون الأوائل مقتنعين بهذه الوعود.
34. حياة الجماعات الكنسيّة الأولى، كما يرويها الكتاب المقدّس والتي وصلت إلينا في الوَحي، تُعرَض علينا على أنّها مثال نقتدي به، وشهادة صادقة على الإيمان العامل بالمحبّة، وتبقى تنبيهًا دائمًا للأجيال القادمة. لقد ألهمت هذه الصّفحات عبر العصور قلوب المسيحيّين لمحبّة الآخرين وتقديم أعمال الرّحمة لهم، وكانت مثل بِذار خصبة لم تكفّ عن إعطاء ثمرًا.
الفصل الثّالث
كنيسة للفقراء
35. بعد ثلاثة أيّام من انتخابه، أعرب سلفي لممثّلي وسائل الإعلام عن رغبته في أن يكون الاهتمام بالفقراء حاضرًا بشكل أوضح في الكنيسة: "كم أتمنّى أن تكون كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء!" [19].
36. تعكس هذه الرّغبة إدراك الكنيسة على أنّها "ترى في الفقراء والمتألّمين صورة مؤسّسها الفقير والمتألّم، فتحرص على تخفيف معاناتهم، وتسعى لخدمة المسيح فيهم" [20]. في الواقع، ولأنّها دُعيت لتكون خادمة وشبيهة بالأخيرين، فيجب ألّا يكون فيها "أيّ شكّ، ولا تفسيرات تضعف هذه الرّسالة الواضحة جدًّا [...]. يجب التّأكيد صراحةً، بدون لفٍّ ودوران، على وجود رابط لا ينفصم بين إيماننا وبين الفقراء" [21]. في هذا الصّدد، لدينا شهادات عديدة مدّة ألفي سنة من تاريخ تلاميذ يسوع. [22]
غنى الكنيسة الحقيقيّ
37. يذكر القدّيس بولس أنّه بين مؤمني الجماعة المسيحيّة النّاشئة، لم يكن فيهم "كَثيرٌ مِنَ الحُكَماء، ولا كَثيرٌ مِنَ المُقتَدِرين، ولا كَثيرٌ مِن ذَوي الحَسَبِ والنَّسَب" (1 قورنتس 1، 26). ومع ذلك، ورغم فقرهم، كان المسيحيّون الأوائل يدركون تمامًا ضرورة الاهتمام بمن كانوا يعانون من حرمان أشدّ. فمنذ فجر المسيحيّة، وضع الرّسل الأيدي على سبعة رجال مختارين من الجماعة، وضمُّوهم إلى خدمتهم، وعيّنوهم لخدمة أفقر النّاس (الشّمّاسيّة باليونانيّة) (راجع أعمال الرّسل 6، 1-5). ومن الجدير بالذّكر أنّ أوّل تلميذ شهد لإيمانه بالمسيح حتّى سفك الدّم كان إسطفانس، وهو من تلك المجموعة التي اختاروها لتوزيع الحسنات. فجمع في شهادة حياته بين خدمة الفقراء وبين الاستشهاد.
38. بعد أكثر من قرنين بقليل، أظهر شمّاس آخر إيمانه بيسوع المسيح بطريقة مماثلة، جامعًا في حياته بين خدمة الفقراء والاستشهاد: هو القدّيس لاورنسيوس. [23] من رواية القدّيس أمبروزيوس نعرف أنّ لاورنسيوس، الشّماس في روما في عهد البابا سيكستس الثّاني، أجبرته السُّلطات الرّومانيّة على تسليم كنوز الكنيسة، جاء "في اليوم التّالي ومعه الفقراء. وعندما سُئل عن الكنوز الموعودة، أشار إليهم قائلًا: هذه كنوز الكنيسة" [24]. ويعلِّق أمبروزيوس فيقول: "أيّ كنوز يملكها يسوع أثمن من الكنوز التي يحِبُّ أن يُظهر نفسه فيها؟" [25] ثمّ يذكر أنّ خدّام الكنيسة يجب عليهم ألّا يهملوا رعاية الفقراء، ولا يراكموا الأموال لمصلحتهم الخاصّة، فيقول: "يجب القيام بهذه المهمّة بإيمان صادق وحكمة بعيدة النّظر. من المؤكّد أنّ من يجني من ذلك منفعة شخصيّة يرتكب خطيئة. أمّا إذا وزّع العائدات على الفقراء، أو فدى سجينًا، فإنّه يقوم بعمل رحمة" [26].
آباء الكنيسة والفقراء
39. منذ القرون الأولى، رأى آباء الكنيسة في الفقراء وسيلةً مميّزةً للوصول إلى الله، وطريقًا خاصًّا للقائه. لم يروا في المحبّة للمحتاجين فضيلةً أخلاقيّةً بسيطة فقط، بل تعبيرًا عمليًّا عن الإيمان بالكلمة المتجسّد. وقد تأصّلت جماعة المؤمنين، مؤيَّدةً بقوّة الرّوح القدس، في القرب من الفقراء، فلم تعتبرهم أمرًا ملحقًا بهم، بل جزءًا لا يتجزّأ من جسد الكنيسة الحيّ. فعلى سبيل المثال، حثّ القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، وهو سائر نحو الاستشهاد، مؤمني جماعة إزمير على عدم إهمال واجب المحبّة تجاه من هم في أمسّ الحاجة، محذّرًا إيّاهم ألّا يتصرّفوا مثل الذين يعارضون لله: "انظروا إلى الذين يخالفوننا الرّأي في نعمة يسوع المسيح الذي جاء إلينا كيف يعارضون تدبير الله. إنّهم لا يهتمّون بالمحبّة، ولا بالأرملة، ولا باليتيم، ولا بالمظلوم، ولا بالسّجين أو الحرّ، ولا بالجائع أو العطشان" [27]. وقد أوصى أسقف إزمير، بوليكاربس، صراحة خدّام الكنيسة بأن يهتمّوا بالفقراء: "ليكن الكهنة لطفاء ورحماء مع الجميع، وليعيدوا الضّالّين، ويزوروا جميع المرضى، ولا يهملوا الأرملة، واليتيم، والفقير، بل ليهتمُّوا بالإحسان أمام الله والنّاس" [28]. من هاتين الشّهادتين، نرى أنّ الكنيسة تظهر أُمًّا للفقراء، ومكانًا للتّرحيب والعدالة.
40. أوضح القدّيس يوستينس، من جهته، في كتابه ”الدّفاع الأوّل“، الموجَّه إلى الإمبراطور هادريانس وإلى مجلس الشّيوخ والشّعب الرّوماني، أنّ المسيحيّين يقدّمون كلّ ما يقدرون أن يقدّموه إلى المحتاجين، لأنّهم يرون فيهم إخوة وأخوات في المسيح. وكتب عن اجتماعهم للصّلاة في اليوم الأوّل من الأسبوع، قال: في جوهر الليتورجيّا المسيحيّة، لا يمكن فصل عبادة الله عن الاهتمام بالفقراء. لذلك، في لحظة معيّنة من الاحتفال، "يُعطي الأغنياء والرّاغبون في ذلك ما يريدون. وما يُجمع يُقدَّم للرّئيس، وهو يُساعد الأيتام والأرامل والمحتاجين بسبب المرض أو لأيّ سبب آخر، والسّجناء والغرباء الذين بيننا: باختصار، إنّه يهتمّ بكلّ محتاج" [29]. يُظهر هذا أنّ الكنيسة النّاشئة لم تفصل الإيمان عن العمل الاجتماعيّ: فالإيمان الذي لا ترافقه شهادة الأعمال، كما يُعلّم القدّيس يعقوب، يُعتبر ميّتًا (راجع يعقوب 2، 17).
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم
41. من بين آباء الكنيسة الشّرقيّة، كان القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، رئيس أساقفة القسطنطينيّة، وقد عاش بين القرن الرّابع والقرن الخامس، أكثر الواعظين حماسةً للعدالة الاجتماعيّة. كان يحثّ المؤمنين، في عظاته، على أن يروا المسيح في المحتاجين: "أتريدون تكريم جسد المسيح؟ لا تُهملوا عُريه، لا تكرّموه هنا بألبسة من حرير وتهملوه في الخارج يعاني من البرد والعري [...]. [جسد المسيح الموجود على المذبح] لا يحتاج إلى ثياب، بل إلى نفوس طاهرة. وأمّا المسيح في الخارج فيحتاج إلى عناية كثيرة. فلنتعلّم إذًا أن نكون حُكماء ونكرّم المسيح كما يريد هو. أفضل طريقة لتكريم من نكرِّمُه هو أن نكرِّمَه بالطّريقة التي يريدها هو، لا بحسب ما نفكِّر فيه نحن [...]. كرّموه إذًا بهذا التّكريم الذي هو نفسه أمر به، وأعطوا أموالكم للفقراء. الله لا يحتاج إلى أوانٍ من ذهب، بل إلى نفوس من ذهب" [30]. ويؤكّد بوضوحٍ شديد أنّه إن لم يلتقِ المؤمنون بالمسيح في الفقراء عند الباب، فلن يتمكّنوا من عبادته على المذبح، ويتابع: "ما الفائدة إذا امتلأت مائدة ذبيحته بكؤوسٍ من ذهب، وهو مُنهك من الجوع؟ أوّلًا أشبِع جوعه، وبعد ذلك زيّن مائدته" [31]. كان يعني ذبيحة الإفخارستيّا، وهي تعبير أسراريّ عن المحبّة والعدالة التي تسبقها وترافقها، ومن المفترض أن تستمرّ بعد ذلك أيضًا، في محبّة الفقراء والاهتمام بهم.
42. ولهذا ليست المحبّة أمرًا اختياريًّا، بل هي الدّليل على العبادة الحقيقيّة. وقد ندَّد القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم بشدّة بالتّرَف المفرط الذي كان منتشرًا مع اللامبالاة بالفقراء. فالاهتمام الواجب لهم، هو أكثر من مطلب اجتماعيّ، هو شرط للخلاص، وهو يُلقي على الغنى الجائر عبء الخطيئة: "هناك برد قارس، والفقير ذو الملابس البائسة مَرمي على الأرض، شبه مَيْت بسبب الجليد، تصطكّ أسنانه، ويكفي أن تراه حتّى تتحرّك مشاعرك. وأنت، مستدفئ جيّدًا وثمِل، تمُرّ بجانبه وتُكمل سَيرك. وكيف تتوقّع من الله أن يُنقذك عندما تَحِلُّ بك المصيبة؟ [...] كثيرًا ما تُزيّن جثةً بلا إحساس، لم تعد تُدرك معنى الكرامة، بثيابٍ كثيرة وثمينة. أمّا الجسد الذي يُعاني من الألم، والعذاب، والتّشنّجات والأوجاع بسبب الجوع والبرد، فأنت تحتقره. أنت تهتمّ بالمجد الباطل أكثر من اهتمامك بمخافة الله" [32]. هذا الإحساس العميق بالعدالة الاجتماعيّة يجب أن يفهمك أنّ "عدم إعطاء الفقراء جزءًا من خيراتنا، هو حرمانهم حياتهم نفسها، وأنّ ما نملكه هو ليس ملكنا، بل ملكهم" [33].
القدّيس أغسطنيس
43. كان القدّيس أمبروزيوس المعلّم الرّوحيّ للقدّيس أغسطينس، وقد شدّد على الإلزام الأخلاقيّ لتقاسم الخيرات: "أنت لا تُعطي الفقير ممّا تملك، بل تُعيد إليه ما هو له: لأنّ ما أُعطي للجميع ليستخدموه معًا، أنت استوليت عليه لنفسك فقط" [34]. بالنّسبة لأسقف ميلانو، الصّدقة هي الرّجوع إلى العدل، وليست لفتة ترحُّم على مسكين. في عظاته، تتّخذ الرّحمة طابعًا نبويًّا: فهو يندّد بهيكليّات التّراكم، ويؤكّد على أنّ الوَحدة والشّركة هي دعوة الكنيسة.
44. نشأ أسقف عنَّابة القدّيس على هذا التّقليد، وعلّم بدوره أفضليّة المحبّة للفقراء. وكان راعيًا يقظًا ولاهوتيًّا ذا بصيرة نادرة، فأدرك أنّ الشّركة الكنسيّة الحقيقيّة تتجلّى أيضًا في المشاركة في الخيرات. وفي تفسيره للمزامير، يُذكّر بأنّ المسيحيّين الحقيقيّين لا يُهمِلون محبّة الذين هم في أمسّ الحاجة: "أنتم، إذ تنظرون إلى إخوتكم، تعلَمون هل هم بحاجة إلى شيء، وإن كان المسيح مقيمًا فيكم، فأحسنوا حتّى إلى الغرباء" [35]. لذا، فهذه المشاركة في الخيرات تنجم عن المحبّة اللاهوتيّة، وغايتها الأخيرة هي محبّة المسيح. بالنّسبة للقدّيس أغسطينس، ليس الفقير إنسانًا للمساعدة فقط، بل هو حضور أسراريّ للرّبّ يسوع.
45. معلِّم الكنيسة في النّعمة رأى أنّ الاهتمام بالفقراء دليل ملموس على صدق الإيمان. كلّ من يدّعي محبّة الله ولا يرحم المحتاجين فهو كاذب (راجع 1 يوحنّا 4، 20). في شرحه للقاء يسوع مع الشّاب الغني و”كنز السّماء“ المحفوظ للذين يعطون مالهم للفقراء (راجع متّى 19، 21)، وضع أغسطينس الكلمات التّالية على لسان الرّبّ: "أنا نلتُ الأرض، وسأعطي السّماء، نلتُ خيرات زمنيّة، وسأعطي خيرات أبديّة، أخذت خبزًا، وسأعطي الحياة. [...] وجدت الضّيافة في بيت، أمّا أنا فسأعطي البيت، زاروني مريضًا، وسأعطي الصّحّة، زاروني في السّجّن، وسأعطي الحرّيّة. الخبز الذي أعطيتموه لفقرائي تمّ استهلاكه، أمّا الخبز الذي سأعطيه أنا، فلن يغذِّيكم فقط، بل لن ينفد أبدًا" [36]. الله تعالى لا يغلبه أحد في الكرم تجاه الذين يخدمونه في الذين هم في أشدّ الحاجة: بقدر ما تزداد محبّة الفقراء، يزداد الأجر من قبل الله.
46. هذه الرّؤية المركّزة على المسيح، والمرتبطة ارتباطًا عميقًا بالكنيسة، حملت على القول إنّ التّقادم التي تولد من المحبّة لا تُخفّف فقط من احتياجات إخوتنا، بل تُنقّي أيضًا قلب من يُعطي، إن كان مستعدًّا للتّغيير: "في الواقع، الصّدقة تمحو خطايا الحياة الماضية، إن غيّر الإنسان حياته" [37]. فهي، إن صحّ القول، الطّريق العاديّ للتّوبة لمن يريد أن يتبع المسيح بقلبٍ غير منقسم.
47. في كنيسةٍ ترى وجه المسيح في الفقراء، وترى في الخيرات أداة المحبّة، يبقى الفكر الأغسطينيّ نورًا ساطعًا. واليوم، الأمانة لتعاليم أغسطينس تقتضي ليس فقط دراسة كتاباته، بل أيضًا الاستعداد للعيش بصورة جذريّة بحسب دعوته إلى التّوبة، التي تتضمّن بالضّرورة خدمة المحبّة.
48. عبّر العديد من آباء الكنيسة، الشّرقيّين والغربيّين، عن أولوّيّة الاهتمام بالفقراء في حياة ورسالة كلّ مؤمن مسيحي. ومن هذا المنظور، وباختصار، يمكن القول إنّ لاهوت آباء الكنيسة كان عمليًّا، إذ سعى إلى بناء كنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء، مُذكّرًا بأنّ الإنجيل لا يُعلن على نحوٍ صحيح إلّا عندما يدفع إلى لمس عذاب الأقلّ حظًّا، ومُحذّرًا من أنّ التّشدّد في العقيدة، بدون رحمة، إنّما هو كلام فارغ.
الاهتمام بالمرضى
49. تجلّت الرّحمة المسيحيّة بشكل مميّز في الاهتمام بالمرضى والمتألّمين. فبالاستناد إلى العلامات الواضحة في خدمة يسوع العلنيّة – شفاء العميان والبرص والمقعدين – الكنيسة تدرك أنّ الاهتمام بالمرضى، الذين ترى فيهم الرّبّ يسوع المصلوب، هو جزءٌ جوهريّ من رسالتها. وخلال وباء اجتاح مدينة قرطاجة، وكان القدّيس كبريانوس أسقفًا عليها، ذكّر المسيحيّين بأهمّيّة الاهتمام بالمرضى قال: "هذا الوباء، الذي يبدو مرعبًا وقاتلًا، هو امتحان للعدل في الأفراد واختبار للمشاعر الإنسانيّة! هذا الوباء يبيِّن هل يساعد الأصّحاءُ المرضى، وهل يحبّ الأقارب أقاربهم كما يجب، وهل يرأف الأسياد بعبيدهم المصابين بالمرض، وهل لا يُهمِل الأطباء المرضى الذين هم بحاجة إلى المساعدة" [38]. التّقليد المسيحيّ في زيارة المرضى، وغسل جراحهم، وتعزية المحزونين، ليس فقط تعبيرًا عن حبّ بشري، بل هو عمل كنسيّ، من خلاله يريد أعضاء الكنيسة أن "يلمسوا، في المرضى، جسد المسيح المتألّم" [39].
50. في القرن السّادس عشر، أنشأ القدّيس يوحنّا لله رهبنة تختصّ بالمستشفيات تحمل اسمه، وأسّس مستشفيّات نموذجيّة كانت تستقبل الجميع بغضّ النّظر عن وضعهم الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ. وصارت عبارته المعروفة: ”اصنعوا الخير، إخوتي!“ (Fate bene, fratelli) شعارًا للمحبّة الفعّالة تجاه المرضى. وفي الوقت نفسه، أسّس القدّيس كاميلّو دي ليلّيس (Camillo de Lellis) رهبنة ”خدّام المرضى“ – المعروفة بالكاميليانيّين (Camilliani) – وتبنّى رسالة خدمة المرضى بتفانٍ كامل. ويأمر القانون فيقول: "ليطلب كلّ واحد من الرّبّ يسوع النّعمة ليمنحه محبّة مثل محبّة الأمّ نحو قريبه، لكي نستطيع أن نخدمه بكلّ محبّة، نفسًا وجسدًا، لأنّنا نريد، بنعمة الله، أن نخدم جميع المرضى بالمودّة نفسها التي تبديها الأمّ الحنون تجاه وحيدها المريض" [40]. وفي المستشفيات، وميادين المعارك، والسّجون، والشّوارع، جسّد الكاميليانيّون رحمة المسيح الطّبيب.
51. وبالاهتمام بالمرضى بمثل محبّة الأمّ، كما تهتمّ الأمّ بطفلها، قامت نساء مكرّسات كثيرات بخدمة واسعة في مجال رعاية الفقراء الصّحّيّة. منهنّ، راهبات المحبّة اللواتي أسّسهنَّ القدّيس منصور دي بول (Vincenzo de’ Paoli)، والرّاهبات الممرّضات، وراهبات العناية الإلهيّة الصّغيرات، وغيرها من الرّهبنات النّسائيّة، أصبحن حضورًا والديًّا رقيقًا في المستشفيات، ودور الرّعاية، ومراكز الإيواء. فقدّمن تخفيفًا من المرض، وإصغاء، ومرافقة، وكثيرًا من الحنان. وشيَّدن أحيانًا بأيديهنّ، مرافق صحّيّة في مناطق محرومة من الخدمات الطّبّيّة. وعلّمن الوقاية الصّحّيّة، وأشرفن على الولادات، ووزّعن الأدويّة بحكمة عفويّة وإيمان عميق. وصارت بيوتهنّ واحات للكرامة لا يُستثنى منها أحد. وكانت لمسة الحنان أوّل العلاج. وقد كتبت القدّيسة لويزا دي مارياك (Luisa de Marillac) إلى راهباتها، بنات المحبّة، تُذكّرهنّ بأنهنّ "نِلن بركة خاصّة من الله لخدمة الفقراء المرضى في المستشفيات" [41].
52. واليوم، هذا الإرث يستمرّ في المستشفيات الكاثوليكيّة، وفي مراكز الرّعاية المفتوحة في المناطق النّائية، وفي البعثات الصّحّيّة العاملة في الغابات، وفي مراكز استقبال المدمنين على المخدّرات، وفي المستشفيات الميدانيّة في مناطق الحروب. الحضور المسيحيّ إلى جانب المرضى يكشف أنّ الخلاص ليس فكرة تجريديّة، بل عمل ملموس. وفي تضميد الجراح، تُعلن الكنيسة أنّ ملكوت الله يبدأ مع أشدِّ النّاس ضعفًا. وهكذا، تبقى أمينة لذاك الذي قال: "كنتُ [...] مَريضًا فعُدتُموني" (متّى 25، 35. 36). وعندما تجثو الكنيسة إلى جانب أبرص، أو طفل يعاني من سوء التّغذية، أو محتضر مجهول الاسم، فإنّها تحقّق أعمق ما في دعوتها: أن تحبّ الرّبّ يسوع حيثما يكون في أشدّ حالات التشوّه.
الاهتمام بالفقراء في الحياة الرّهبانيّة
53. نشأت الحياة الرّهبانيّة في صمت الصّحاري، وكانت منذ بدايتها شهادة حيّة على روح التّضامن. فقد ترك الرّهبان كلّ شيء – الغنى، والشّهرة، والعائلة – لا لمجرّد ازدرائهم خيرات العالم (contemptus mundi)، بل لكي يلتقوا، بهذا التجرّد الجذريّ، بالمسيح الفقير. القدّيس باسيليوس الكبير، في قانونه، لم يكن يرى أيّ تناقض بين حياة الرّهبان في الصّلاة والاعتكاف والتّأمّل، وبين عملهم في خدمة الفقراء. فبالنّسبة له، كانت الضّيافة والاهتمام بالمحتاجين جزءًا لا يتجزّأ من الرّوحانيّة الرّهبانيّة، وكان الرّهبان، حتّى بعد أن تركوا كلّ شيء ليعتنقوا الفقر، مدعوّين إلى أن يساعدوا أشدّ الفقراء بعملهم. كان يقول: "لكي يكون لنا ما يكفي لمساعدة المحتاجين، […] من الواضح أنّنا يجب أن نعمل باجتهاد […]. فقانون الحياة هذا لا يفيدنا فقط لإخضاع الجسد، بل لمحبّة القريب أيضًا، حتّى يعطي الله، من خلالنا، لإخوتنا الأضعفين ما يحتاجون إليه" [42].
54. وفي قيصريّة، حيث كان القدّيس باسيليوس أسقفًا، أنشأ مكانًا عُرف باسم ” “Basiliade، يضمّ ملاجئ ومستشفيات ومدارس للفقراء والمرضى. وهكذا، لم يكن الرّاهب ناسكًا فقط، بل خادمًا. وبيَّن باسيليوس أنّه حتّى نكون قريبين من الله علينا أن نكون قريبين من الفقراء. فالمحبّة العمليّة كانت معيار القداسة. والصّلاة والاهتمام، والتّأمّل والشّفاء، والكتابة والاستقبال، كلّها كانت تعبيرًا عن حبّ المسيح نفسه.
55. في الغرب، وضع القدّيس بندكتس من نورسيا (Benedetto da Norcia) قانونًا صار العمود الفقريّ للرّوحانيّة الرّهبانيّة في أوروبا. وفيه، احتلّ استقبال الفقراء والحجّاج مكانة واضحة: "يجب أن نهتمّ بصورة خاصّة باستقبال الفقراء والحجّاج، لأنّ المسيح يُستَقبَل فيهم أكثر من غيرهم" [43]. ولم تكن هذه مجرّد كلمات، فقد كانت أديرة رهبان البندكتيّين، على مرّ العصور، ملجأً للأرامل والأطفال المتروكين والحجّاج والمتسوّلين. وكان بندكتس يرى في الحياة الجماعيّة مدرسةً للمحبّة. فالعمل اليدوي لم يكن مجرّد نشاط عمليّ، بل كان يهيّئ القلب أيضًا على الخدمة. فالمشاركة بين الرّهبان، والاهتمام بالمرضى، والإصغاء إلى الأضعفين، كانت تهيّئهم لاستقبال المسيح الذي يأتي في شخص الفقير والغريب. ولا تزال ضيافة رهبان البندكتيّين حتّى اليوم علامة للكنيسة التي تفتح أبوابها، وتستقبل بلا شروط، وتشفي بدون أن تطلب أيّ شيء بالمقابل.
56. ومع مرور الزّمن، صارت أديرة رهبان البندكتيّين أماكن تعارض ثقافة الإقصاء. فقد كان الرّهبان يفلحون الأرض، وينتجون الغذاء، ويحضّرون الأدوية، ويقدّمونها ببساطة لأكثر النّاس احتياجًا. كان عملهم الصّامت خميرة لحضارة جديدة، حيث لا يُنظر إلى الفقراء على أنّهم مشكلة يجب حلّها، بل إخوة وأخوات يجب قبولهم واستقبالهم. وكان قانون المشاركة، والعمل المشترك، وخدمة الضّعفاء، بمثابة قاعدة لاقتصاد تضامنيّ، بدل منطق تراكم الأموال. لقد أظهرت شهادة الرّهبان أنّ الفقر الاختياريّ، ليس شقاء، بل هو طريق للحرّيّة والوَحدة والشّركة. ولم يكتفوا بمساعدة الفقراء، بل صاروا قريبين منهم، إخوة لهم في الرّبّ يسوع نفسه. ونشأت في صوامعهم وأديرتهم، خبرة صوفيّة لحضور الله في الصّغار.
57. بالإضافة إلى تقديم المساعدة الماديّة، لعبت الأديرة دورًا أساسيًّا في التّنشئة الثّقافيّة والرّوحيّة لأكثر النّاس فقرًا وضعة. ففي أوقات الطّاعون والحروب والمجاعات، كانت الأديرة أماكن يجد فيها المحتاجون الخبز والدّواء، وأيضًا الكرامة والكلمة الطّيّبة. هناك كان الأيتام يتلقّون التّربية، والمتدرّبون يكتسبون التّنشئة، والفلاحون يتعلّمون تقنيّات الزراعة وفنون القراءة. كانت المعرفة موضوع مُشاركة فهي عطيّة ومسؤوليّة. وكان رئيس الدّير (الأباتي) معلّمًا وأبًا معًا، وكانت المدرسة الرّهبانيّة مكان تحرُّرٍ بالحقّ. في الواقع، كما كتب يوحنّا كاسيانو (Giovanni Cassiano)، يجب أن يتّسم الرّاهب بـ"تواضع القلب [...]، الذي لا يقود إلى معرفة تنفخ، بل إلى معرفة تنير بكمال المحبّة" [44]. وبتنشئة الضّمائر ونقل الحكمة، ساهم الرّهبان في نهج تربوي مسيحيّ يقوم بقبول الجميع. كانت الثّقافة، التي تتَّسِمُ بالإيمان، مشاركة ببساطة مع الجميع. والمعرفة التي أنارتها المحبّة صارت خدمة. وهكذا ظهرت الحياة الرّهبانيّة كأسلوب قداسة وطريق عملي لتغيير المجتمع.
58. وهكذا، فإنّ التّقليد الرّهبانيّ يعلّم أنّ الصّلاة والمحبّة، والصّمت والخدمة، وصوامع الرّهبان والمستشفيات، تشكّل نسيجًا روحيًّا واحدًا. فالدّير هو مكان للإصغاء والعمل، والعبادة والمشاركة. وقد شدّد القدّيس برناردس دي كليرفو (Bernardo di Chiaravalle)، المصلح الكبير لرهبنة السّيسترسيّين (cistercense)، على "ضرورة حياة متقشّفة ومتّزنة، في المائدة كما في الملابس، وفي الأبنية الرّهبانيّة، وأوصى بإعالة الفقراء والاهتمام بهم" [45]. فبالنّسبة له، لم تكن الرّحمة خيارًا ثانويًّا، بل طريقًا حقيقيًّا لاتّباع المسيح. لذا، فإنّ الحياة الرّهبانيّة، إن بقيت أمينة لدعوتها الأولى، بيَّنت أنّ الكنيسة لا تكون عروسًا كاملة للرّبّ يسوع إلّا عندما تكون أيضًا أختًا للفقراء. فالدّير ليس مجرّد ملجأً من العالم، بل هو مدرسة تعلّم خدمته على نحو أفضل. وحيثما فتح الرّهبان أبوابهم للفقراء، بيَّنت الكنيسة بتواضع وثبات أنّ التّأمّل لا يستبعد الرّحمة، بل يطلبها كأطهر ثماره.
تحرير المأسورين
59. منذ العصور الرّسوليّة، رأت الكنيسة في تحرير المظلومين علامة من علامات ملكوت الله. فالمسيح نفسه، في بداية رسالته العلنيّة، أعلن قال: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّه مَسَحَني لأُبَشِّرَ الفُقَراء، وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم" (لوقا 4، 18). وكان المسيحيّون الأوائل، رغم أوضاعهم الصّعبة، يصلّون ويساعدون إخوتهم وأخواتهم المأسورين، كما يشهد سفر أعمال الرّسل (راجع 12، 5؛ 24، 23) وعدد من كتابات الآباء. وقد استمرّت رسالة التّحرير هذه عبر القرون بمساهمة عمليّة، ولا سيّما حين كانت مأساة العبوديّة والأَسر حالَّةً في كلّ المجتمعات.
60. بين أواخر القرن الثّاني عشر وبدايات القرن الثّالث عشر، حين كان المسيحيّون الكثيرون يُؤسَرون في البحر المتوسّط أو يُستَعبدون في الحروب، نشأت رهبنتان: رهبنة الثّالوث الأقدس لتحرير الأسرى (Trinitari)، التي أسّسها القدّيس يوحنّا دي ماثا (Giovanni de Matha) والقدّيس فيليتشي دي فالوا (Felice di Valois)، ورهبنة سيّدتنا مريم العذراء سيّدة الرّحمة (Mercedari)، التي أسّسها القدّيس بطرس نولاكسو (Pietro Nolasco) بدعم من القدّيس رايموندو دي بينيافور (Raimondo di Peñafort)، الدّومينيكاني. وقد نشأت هذه الرّهبنات للمكرّسين، ولهم موهبة خاصّة هي تحرير المسيحيّين الواقعين في العبوديّة، فكرّست لهم الأموال [46]، وقدّم الرّهبان مرارًا أنفسهم فدية عن الأسرى. وكان شعار رهبنة الثّالوث الأقدس: ”المجد لك أيّها الثّالوث الأقدس، وللمأسورين الحرّيّة“، فيما أضافت رهبنة سيّدة الرّحمة نذرًا رابعًا [47] إلى نذور الفقر والطّاعة والعفّة، هو المحبّة، ليشهدوا أنّ المحبّة يمكن أن تكون بطوليّة. فتحرير الأسرى هو تعبير عن المحبّة الثّالوثيّة: إله يحرّر لا من العبوديّة الرّوحيّة فقط، بل من الظّلم الواقعيّ أيضًا. ويُنظَر إلى التّحرير من العبوديّة أو الأَسر على أنّه امتداد لذبيحة المسيح الفدائيّة، الذي كان دمه ثمن فدائنا (راجع 1 قورنتس 6، 20).
61. كانت الرّوحانيّة الأصليّة لهذه الرّهبنات متجذّرة تجذُّرًا عميقًا في التّأمّل في الصّليب. فالمسيح هو الفادي الأسمى للأسرى، والكنيسة، وهي جسده، تواصل هذا السّر عبر الزّمن. [48] ولم يكن الرّهبان ينظرون إلى الفدية كعمل سياسيّ أو اقتصاديّ، بل كعمل شبه ليتورجيّ، أي تقدمةً للذّات التي هي أشبه بسرّ تقدمة المسيح لذاته. وقد قدّم كثيرون منهم أجسادهم ليحلّوا محلّ الأسرى، متمّمين كلمة السّيّد المسيح: "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنّا 15، 13). لم ينتهِ تقليد هذه الرّهبنات، بل ألهم أشكالًا جديدة من العمل مع عبوديّات العصر الحديث: الاتجار بالبشر، والعمل القسريّ، والاستغلال الجنسيّ، وأشكال الإدمان المتعدّدة. [49] فالمحبّة المسيحيّة، حين تتجسّد، تصير محرِّرة. ورسالة الكنيسة، حين تبقى أمينة لربّها، تكون دائمًا إعلان التّحرير. وحتّى اليوم، حين "يُحرَم ملايين الأشخاص – من أطفال ورجال ونساء من جميع الأعمار – من حرّيّتهم ويُجبرون على أن يعيشوا في ظروف تماثل العبوديّة" [50]، تواصل هذه الرّهبنات وغيرها من المؤسّسات والجماعات في حمل هذا الإرث والعمل في الضّواحي المهمّشة، ومناطق النّزاعات، وطرق المهاجرين. عندما تنحني الكنيسة لتكسر القيود الجديدة التي تكبّل الفقراء، فإنّها تصير علامة فصحيّة.
62. ولا يمكن إنهاء هذا التّأمّل في الذين حُرموا حرّيّتهم دون أن نذكر السّجناء القابعين في مختلف السّجون ومراكز الاحتجاز. وفي هذا الصّدد، لنتذكّر كلمات البابا فرنسيس التي وجّهها إلى مجموعة منهم، قال: "بالنّسبة لي، دخول السّجن هو دائمًا لحظة مهمّة، لأنّ السّجن مكان غنيّ بالإنسانيّة [...]. إنسانيّة مجروحة، وتثقلها أحيانًا الصّعوبات، ومشاعر الذّنب، والأحكام، وسوء الفهم، والآلام، لكنّها في الوقت نفسه مليئة بالقوّة، والرّغبة في المغفرة، والإرادة في الفداء" [51]. وهذه الإرادة تبنّتها أيضًا الرّهبنات المكرّسة لفدية السّجناء، من بين أمورٍ أخرى، كخدمة مفضّلة في الكنيسة. وكما أعلن القدّيس بولس: "إِنَّ المسيحَ قد حَرَّرَنا تَحْريرًا!" (غلاطية 5، 1). وهذه الحرّيّة ليست داخليّة فحسب، بل تتجلّى في التّاريخ كمحبّة تهتمّ بكلّ قيد من قيود العبوديّة وتحرّرنا منها.
شهود الفقر الإنجيليّ
63. في القرن الثّالث عشر، ومع نموّ المدن، وتراكم الثّروات، وظهور أشكال جديدة من الفقر، أوحى الرّوح القدس بنمط جديد من التّكرُّس في الكنيسة: الرّهبنات المتسوّلة. وعلى خلاف النّموذج الرّهبانيّ الثّابت، اعتنق المتسوّلون حياة التّرحال، دون أن يكون لهم أملاك شخصيّة أو جماعيّة، واعتمدوا بشكلٍ كامل على العناية الإلهيّة. لم يقتصروا على خدمة الفقراء، بل صاروا فقراء معهم. كانوا يرون في المدينة صحراء جديدة، وفي المهمّشين معلّمين روحيّين جُدُد. هذه الرّهبنات مثل الفرنسيسكان، والدّومينيكان، والأغسطينيّون، والكرمليّون، أحدثت ثورة إنجيليّة، جعلت من أسلوب العيش البسيط والفقير علامةً نبويّة من أجل الرّسالة، وأَحيَت من جديد خبرة الجماعة المسيحيّة الأولى (راجع أعمال الرّسل 4، 32). وقد تحدَّت شهادة الرّهبنات المتسوّلة، في الوقت نفسه، تَرَف الإكليروس وبرودة المجتمع المدنيّ.
64. صار القدّيس فرنسيس الأسيزي أيقونة لهذه النّهضة الرّوحيّة. فهو باتّخاذه الفقر عروسًا له، أراد أن يقتدي بالمسيح الفقير، والعريان، والمصلوب. طلب في قانونه: "ألّا يمتلك الإخوة شيئًا، لا بيتًا ولا مكانًا ولا أيّ شيء آخر. ومثل الحجّاج والغرباء في هذا العالم، يخدمون الرّبّ يسوع بفقر وتواضع، ويسألون الصّدقة بثقة، وعليهم ألّا يخجلوا، لأنّ الرّبّ يسوع صار فقيرًا من أجلنا في هذا العالم" [52]. كانت حياته تجرّدًا مستمرًّا: فذهب من القصر إلى الأبرص، ومن البلاغة إلى الصّمت، ومن الامتلاك إلى العطاء الكامل. لم يؤسّس فرنسيس مؤسّسةً للخدمة الاجتماعيّة، بل أخوّة إنجيليّة. رأى في الفقراء إخوة وصورًا حيّة للرّبّ يسوع. كانت رسالته أن يبقى معهم من أجل تضامن يتخطّى المسافات، ومن أجل محبّة رؤوفة. كان فقره علاقة مع الفقراء: جعله يصير قريبًا، مساويًا للآخر، بل أصغر منه. نبعَت قداسته من قناعته بأنّه يمكن أن نستقبل حقًّا المسيح فقط إن بذلنا أنفسنا للإخوة بسخاء.
65. القدّيسة كلارا من أسيزي، التي ألهمها فرنسيس، أسّست رهبنة السّيّدات الفقيرات، التي عُرفت لاحقًا باسم راهبات الكلاريس. كانت معركتها الرّوحيّة قائمة على الحفاظ بأمانة على مثال الفقر الجذريّ. رفضت الامتيازات البابويّة التي كانت تسمح لها بأن تؤمّن لها ضمانًا ماديًّا لديرها، وحصلت بإصرارها من البابا غريغوريوس التّاسع على ما يُعرف بامتياز الفقر (Privilegium Paupertatis) الذي كان يضمن الحقّ في العيش دون امتلاك أيّ خيرات ماديّة. [53] عبَّر هذا الاختيار عن ثقتها الكاملة بالله، وعن وَعيها بأنّ الفقر الطَّوعيّ هو شكل من أشكال الحرّيّة والنّبوءة. وعلّمت كلارا أخواتها أنّ المسيح هو ميراثهنَّ الوحيد، وأنّ لا شيء يجب أن يحجب الوَحدة والشّركة معه. حياة الصّلاة والاختفاء التي كانت تعيشها، كانت صرخة ضدّ حياة العالم ودفاعًا صامتًا عن الفقراء والمنسيّين.
66. القدّيس دومينيك دي غوزمان (Domenico di Guzmán)، الذي كان معاصرًا لفرنسيس، أسّس رهبنة الواعظين، بموهبة مختلفة، ولكن بالجذريّة نفسها. أراد أن يعلن الإنجيل بالسّلطة النّاجمة من حياة فقيرة، وكان مقتنعًا بأنّ الحقّ بحاجة إلى شهود صادقين غير مرائين. فمثال فقر الحياة كان يرافق الكلمة المُعلنة. وإذ كانوا أحرارًا من ثِقَل الخيرات الأرضيّة، استطاع الإخوة الدّومينيكان أن يكرّسوا أنفسهم بشكل أفضل للعمل الأهمّ، أي الكرازة. وكانوا يتوجّهون إلى المدن، ولا سيّما المدن التي فيها جامعات، ليعلِّموا حقيقة الله. [54] وفي اعتمادهم على الآخرين، كانوا يبرهنون أنّ الإيمان لا يُفرض بل يُقدَّم. وبعيشهم بين الفقراء، كانوا يتعلّمون حقيقة الإنجيل ”من القاعدة“، مثل تلاميذ للمسيح المتواضع.
67. إذًا، كانت الرّهبنات المتسوّلة جوابًا حيًّا على الإقصاء واللامبالاة. لم يقترحوا صراحةً إصلاحات اجتماعيّة، بل ارتدادًا شخصيًّا وجماعيًّا إلى منطق الملكوت. بالنّسبة لهم، لم يكن الفقر نتيجة لنقص في الخيرات، بل اختيارًا حرًّا: أن يصيروا صغارًا ليستقبلوا الصّغار. كما قال توماس دي سيلانو (Tommaso de Celano) عن فرنسيس: "كان يُظهر حبًّا شديدًا للفقراء […]. كان مرارًا يخلع عنه ثوبه ليكسو الفقراء، الذين كان يسعى لأن يتشبّه بهم" [55]. صار المتسوّلون رمزًا لكنيسة حَاجَّة، ومتواضعة، وأخويّة، تعيش بين الفقراء لا للبحث عن أتباعٍ لها، بل لتحدِّد هويّتها. كانوا يعلّمون أنّ الكنيسة تكون نورًا فقط عندما تتجرّد من كلّ شيء، وأنّ القداسة تمرّ عبر القلب المتواضع والمكرَّس للصّغار.
الكنيسة وتربية الفقراء
68. توجّه البابا فرنسيس إلى بعض المرّبين، وذكّر بأنّ التّربية كانت دائمًا إحدى أسمى تعابير المحبّة المسيحيّة: "رسالتكم هي رسالة مليئة بالعقبات ولكن أيضًا بالأفراح. […] إنّها رسالة محبّة، لأنّه لا يُمكن أن نعلّم دون أن نُحبّ" [56]. بهذا المعنى، فَهِمَ المسيحيّون منذ العصور الأولى أنّ المعرفة تُحرّرهم، وتمنحهم الكرامة، وتقرّبهم من الحقيقة. بالنّسبة للكنيسة، كان تعليم الفقراء عملًا من أعمال العدل والإيمان. وإذ استلهمت ذلك من مثال المعلّم الذي كان يعلّم النّاس الحقائق الإلهيّة والبشريّة، أخذت على عاتقها رسالة تنشئة الأطفال والفتيان، ولا سيّما أشدّهم فقرًا، على الحقّ والمحبّة. هذه الرّسالة تجسّدت في تأسيس رهبنات مكرّسة للتّربية الشّعبيّة.
69. في القرن السّادس عشر، تأثّر القدّيس يوسف كالازانس (Giuseppe Calasanzio) من النّقص في التّعليم والتّنشئة للشّباب الفقراء في مدينة روما، فأسّس في بعض الغرف المُلحقة بكنيسة القدّيسة دوروتيا في تراستيفيري، أوّل مدرسة شعبيّة عامّة مجّانيّة في أوروبا. كانت هذه البذرة التي ستولد منها وستتطوّر في ما بعد، رغم الصّعوبات، رهبنة الإكليريكيّين فقراء والدة الله لمدارس التّقوى، المعروفة بالسكولوبِيّين (Scolopi)، بهدف تعليم الشّباب "بالإضافة إلى العلوم الدنيويّة، حكمة الإنجيل أيضًا، وتعليمهم أن يروا في حياتهم الشّخصيّة وفي التّاريخ، عمل محبّة الله الخالق والفادي" [57]. في الواقع، يمكننا أن نعتبر هذا الكاهن الجريء أنّه "المؤسّس الحقيقيّ للمدرسة الكاثوليكيّة الحديثة، التي تسعى إلى تنشئة الإنسان تنشئة كاملة، ومنفتحة على الجميع" [58]. مدفوعًا بالإحساس نفسه، أسّس القدّيس يوحنّا باتّيستا دي لا سال (Giovanni Battista de La Salle) في القرن السّابع عشر ”إخوة المدارس المسيحيّة“، بعد أن لمس الظّلم النّاتج عن استبعاد أبناء العمّال والفلّاحين من التّعليم في فرنسا في وقته. وقد جعل هدفه تقديم تعليم مجّاني لهم، وتنشئة راسخة، وبيئة أخويّة. رأى دي لا سال في الصّفّ الدّراسي مكانًا للارتقاء الإنسانيّ، وأيضًا للتّوبة. اجتمعت في مدارسه الصّلاة والمنهجيّة والانضباط والمشاركة. كلّ طفل يُعتبر عطيّة فريدة من الله، وعمليّة التّعليم خدمة لملكوت الله.
70. في القرن التّاسع عشر، أسّس القدّيس مارسيلينو شامبانيا (Marcellino Champagnat)، في فرنسا أيضًا، جمعيّة الإخوة المريميّين (Fratelli Maristi) للمدارس، "لأنّه كان حسّاسًا للاحتياجات الرّوحيّة والتّربويّة في زمنه، ولا سيّما الجهل الدّيني وحالات الإهمال التي كان يعيشها الشّباب بصورة خاصّة" [59]، وكرّس نفسه من كلّ قلبه، في زمن كان فيه التّعليم ما يزال امتيازًا لقلَّة قليلة، لرسالة تربية الأطفال والشّباب الأشدّ احتياجًا ونقل بشرى الإنجيل إليهم. وبالرّوح نفسها، بدأ القدّيس يوحنّا بوسكو في إيطاليا عمله السّالزيانيّ الكبير، القائم على ثلاثة مبادئ ”للمنهج الوقائي“ - العقل، والدّين، والمحبّة - [60] كما أسّس الطّوباوي أنطونيو روزميني (Antonio Rosmini) جمعيّة المحبّة، حيث ”المحبّة الفكريّة“ – إلى جانب ”المحبّة الماديّة“، وقمّتها ”المحبّة الرّوحيّة-الرّعويّة“ – كانت تُقدَّم على أنّها بُعد لا غنى عنه في أيّ عمل محبّة يهدف إلى خير الإنسان ونموّه المتكامل. [61]
71. وكانت أيضًا الرّهبنات النّسائيّة العديدة التي لعبت دورًا في هذه الثّورة التّربويّة. الأورسولينيّات وراهبات رهبنة سيّدتنا مريم العذراء والمعلّمات التقيّات (Le Orsoline, le monache della Compagnia di Maria Nostra Signora, le Maestre Pie) ورهبنات أخرى كثيرة، تأسّست خصوصًا في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر، عملن حيث كانت الدّولة غائبة. فأنشأن المدارس في القرى الصّغيرة، وفي الضّواحي، والأحياء الشّعبيّة. وصار تعليم الفتيات بشكلٍ خاصّ أولويّة. بدأت الرّاهبات بتعليم القراءة والكتابة، وتعليم الإنجيل، والاهتمام بشؤون الحياة العمليّة اليوميّة، ورفع الرّوح بتنمية الفنون، وقبل كلّ شيء تكوين الضّمير. كان أسلوب تربيتهنّ بسيطًا: المودّة، والصّبر، والوداعة. كُنَّ يعلّمن بحياتهنَّ، قبل كلامهنَّ. في زمن انتشار الأمّيّة وإقصاء بعض الفئات في طبقات المجتمع، كانت تلك النّساء المكرّسات منارات للأمل. كانت رسالتهنَّ تنشئة القلب، وتعليم التّفكير، وتعزيز الكرامة. ولمّا دمجنَ بين الحياة التقويّة والتّفاني في خدمة القريب، حاربنَ الإهمال والإبعاد بحنان من يربّي باسم المسيح.
72. بالنّسبة للإيمان المسيحيّ، تربية الفقراء ليس إحسانًا بل هو واجب. فالصّغار لهم الحقّ في المعرفة، وهو شرط أساسيّ للاعتراف بكرامتهم الإنسانيّة. تعليمهم هو تأكيد لكرامتهم، ولتزويدهم بالأدوات لتغيير الواقع. التّقليد المسيحيّ يعتبر المعرفة عطيّة من الله ومسؤوليّة جماعيّة. فالتّربية المسيحيّة لا تُنشّئ فقط مُحترفين، بل أشخاصًا منفتحين على الخير والجمال والحقّ. وعندما تكون المدرسة الكاثوليكيّة أمينة لاسمها، تصير مكانًا للاندماج، والتّنشئة المتكاملة، والارتقاء الإنسانيّ. وإن جمعَتْ بين الإيمان والثّقافة، فإنّها تزرع المستقبل، وتكرّم صورة الله، وتبني مجتمعًا أفضل.
مرافقة المهاجرين
73. رافقت خبرة الهجرة تاريخ شعب الله. فقد خرج إبراهيم دون أن يعلم إلى أين يذهب. وقاد موسى الشّعب التّائه في الصّحراء. وهربت مريم ويوسف بالطّفل إلى مصر. والمسيح نفسه، الذي "جاءَ إِلى بَيتِه، فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنّا 1، 11)، عاش بيننا مثل الغريب. لهذا السّبب، رأت الكنيسة دائمًا في المهاجرين حضورًا حيًّا للرّبّ يسوع الذي سيقول في يوم الدّينونة للذين عن يمينه: "كُنتُ غَريبًا فآويتُموني" (متّى 25، 35).
74. في القرن التّاسع عشر، عندما هاجر ملايين الأوروبيّين بحثًا عن ظروفِ معيشيةٍ أفضل، ظهر قدّيسان كبيران في خدمة المهاجرين الرّعوية: القدّيس يوحنّا باتّيستا سكالابريني (Giovanni Battista Scalabrini)، والقدّيسة فرانشيسكا سافيريو كابريني (Francesca Saverio Cabrini). أسّس سكالابريني، أسقف بياتشنسا (Piacenza)، مُرسَلي القدّيس كارلو لمرافقة المهاجرين في الجماعات التي يستقرّون فيها، وتقديم السّند الرّوحيّ والقانونيّ والماديّ لهم. رأى في المهاجرين ضرورة تبشيرهم من جديد بالإنجيل، وحذّر من مخاطر الاستغلال وفقدان الإيمان في الغُربة. وإذ استجاب بسخاء إلى الموهبة التي منحه إيّاها الرّبّ يسوع: "نظر سكالابريني إلى ما هو أبعد، نظر إلى الأمام، إلى عالم وكنيسة بلا حواجز، وبلا غُرباء" [62]. أمّا القدّيسة فرانشيسكا كابريني، فقد وُلِدَت في إيطاليا وكانت تحمل الجنسيّة الأمريكيّة، وكانت أوّل مواطنة أمريكيّة تُعلَن قداستها. ولكي تقوم برسالتها في خدمة المهاجرين، عبرت المحيط الأطلسيّ عدّة مرّات، "وتسلّحت بجرأة فريدة، ومن اللاشيء بدأت تؤسّس المدارس، والمستشفيات، ودور الأيتام لجماهير المعدمين الذين وصلوا إلى العالم الجديد بحثًا عن العمل، وهم يجهلون اللغة ويفتقرون للوسائل التي تمكّنهم من الاندماج اللائق في المجتمع الأمريكيّ، وكانوا أحيانًا ضحايا لأشخاص عديمي الضّمير. كان قلبها الوالديّ، الذي لا يعرف الرّاحة، يصل إليهم في كلّ مكان: في الأحياء الفقيرة، والسّجون، والمناجم" [63]. في سنة اليوبيل 1950، أعلنها البابا بيوس الثّاني عشر شفيعة جميع المهاجرين. [64]
75. تقليد الكنيسة في العمل من أجل المهاجرين ومعهم ما زال مستمرًّا، واليوم، تتمّ هذه الخدمة في المبادرات مثل مراكز استقبال اللاجئين، والإرساليّات على الحدود، وجهود مؤسّسة كاريتاس العالميّة ومؤسّسات أخرى. السُّلطة الكنسيّة التّعليميَّة المعاصرة تؤكّد هذا الالتزام بوضوح. ذَكَّر البابا فرنسيس أنّ رسالة الكنيسة تجاه المهاجرين واللاجئين أوسع من ذلك، وأكّد أنَّه: "يمكن تلخيص الإجابة على التحدّي الذي تمثّله الهجرة المعاصرة في أربعة أفعال: استضافة، وحماية، ومساندة، ودمج. لكن هذه الأفعال لا تنطبق فقط على المهاجرين واللاجئين. فهي تعبّر عن رسالة الكنيسة تجاه جميع سكّان الضّواحي حيث وجود الإنسان يكون مهدَّدًا، فيجب أن نستضيفهم ونحميهم ونساندهم وندمجهم" [65]. وقال أيضًا: "كلّ إنسان هو ابن لله! وقد طُبعت فيه صورة المسيح! لذا، علينا أن نرى نحن أوّلًا تلك الصّورة ونساعد الآخرين كي يروا في المهاجر واللاجئ لا مجرّد مشكلة يجب مواجهتها بل أخًا وأختًا علينا قبولهما واحترامهما ومحبّتهما، وفرصةً تقدّمها لنا العناية الإلهيّة للمساهمة في بناء مجتمع فيه مزيد من العدل، ومزيد من الدّيمقراطيّة، عالم فيه مزيد من الأخوّة وفيه جماعة مسيحيّة أكثر انفتاحًا، بحسب الإنجيل" [66]. الكنيسة مثل الأمّ، تسير مع السّائرين. حيث العالم يرى تهديدات، هي ترى في الجميع أبناء، وحيث تُبنى الجدران، هي تبني الجسور. هي تعلم أنّ إعلانها للإنجيل يكون صادقًا فقط عندما ترافقه أعمال مودّة وقبول، وأنّ في كلّ مهاجر مرفوض، المسيح نفسه هو الذي يقرع على أبواب الجماعة.
إلى جانب الأخيرين
76. القداسة المسيحيّة تزهر مرارًا في أكثر الأماكن نسيانًا وأوجاعًا في البشريّة. أفقر الفقراء – الذين لا يفتقرون فقط إلى الخيرات، بل أيضًا إلى سماع صوتهم، والاعتراف بكرامتهم – يحتلّون مكانة خاصّة في قلب الله. إنّهم أحبّاء الإنجيل، وورثة الملكوت (راجع لوقا 6، 20). فيهم يواصل المسيح آلامه وقيامته. فيهم تجد الكنيسة من جديد دعوتها لتبيِّن حقيقتها الأصيلة.
77. القدّيسة تريزا من كالكوتا، التي أُعلنت قداستها سنة 2016، صارت أيقونة محبّة عالميّة عاشتها حتّى أقصى الحدود في سبيل الأشدّ فقرًا، والمنبوذين في المجتمع. أسّست مُرسلات المحبّة، وكرّست حياتها من أجل المحتضرين المهملين في شوارع الهند. كانت تحتضن المرفوضين، وتغسل جراحهم، وترافقهم حتّى لحظة الموت بحنان هو صلاتها معهم. محبّتها لأفقر الفقراء جعلها لا تكتفي بتلبية احتياجاتهم الماديّة فقط، بل أرادت أن تعلن لهم بشرى الإنجيل السّارّة: "نريد أن نعلن للفقراء أنّ الله يحبّهم، ونحن نحبّهم، وأنّهم مهمّون لنا، وأنّ الله الواحد نفسه هو الذي خلقنا جميعًا وخلقهم ليُحِبّوا ويُحَبّوا. فقراؤنا هم أشخاصٌ رائعون، ولطفاء جدًّا، ولا يحتاجون إلى رحمتنا أو شفقتنا، بل إلى محبّتنا التي تفهم من هم. هم بحاجة إلى احترامنا، وإلى أن نعاملهم بكرامة" [67]. كلّ ذلك كان وَليد روحانيّة عميقة جعلها ترى في خدمة أفقر الفقراء ثمرة للصّلاة والمحبّة، ومصدرًا للسّلام الحقيقيّ، كما ذكّر القّديس البابا يوحنّا بولس الثّاني الحجّاج الذين جاؤوا إلى روما لتطويبها: "من أين استمدّت الأم تريزا القوّة لتضع نفسها بصورة كاملة في خدمة الآخرين؟ لقد وجدتها في الصّلاة والتّأمّل الصّامت في يسوع المسيح، وفي وجهه المقدّس وقلبه الأقدس. هي نفسها قالت ذلك: ”ثمرة الصّمت هي الصّلاة، وثمرة الصّلاة هي الإيمان، وثمرة الإيمان هي المحبّة، وثمرة المحبّة هي الخدمة، وثمرة الخدمة هي السّلام“ […]. كانت الصّلاة تملأ قلبها بسلام المسيح، وتسمح لها بأن تشعّ هذا السّلام على الآخرين" [68]. لم تعتبر تريزا نفسها فاعلة خير أو ناشطة، بل عروسًا للمسيح المصلوب، الذي كانت تخدمه بمحبّة كاملة في الإخوة المتألّمين.
78. في البرازيل، القدّيسة دولسي قدّيسة الفقراء (Dulce dei Poveri) – المعروفة ”بالملاك الصّالح لباهيا“ – جسّدت الرّوح الإنجيليّة نفسها بطابع برازيليّ. وفي الإشارة إليها وإلى راهبتَين أُخريَين أُعلنت قداستهما في الاحتفال نفسه، ذكّر البابا فرنسيس حبّهنَّ للأشدّ تهميشًا في المجتمع وقال إنّ القدّيسات الجديدات "يُظهِرْنَ لنا أنّ الحياة الرهبانيّة هي طريق الحبّ في كلّ مجالات الحياة" [69]. واجهت الرّاهبة دولسي الصّعوبات بالإبداع، والعقبات بالحنان، والحاجة بالإيمان الذي لا يتزعزع. بدأت تستقبل المرضى في قنّ الدّجاج، ومن هناك أسّست أحد أكبر الأعمال الاجتماعيّة في البلد. كانت تساعد آلاف الأشخاص يوميًّا، دون أن تفقد لطفها أبدًا. صارت فقيرة مع الفقراء حبًّا في مَن جعل نفسه أوّل الفقراء. كانت تعيش بالقليل، وتصلّي بحرارة، وتخدم بفرح. لم يُبعدها إيمانها عن العالم، بل كان يدفعها بشكلٍ أعمق إلى آلام الأخيرين.
79. يمكن أن نذكر أيضًا القدّيس بندكتس منّي (Benedetto Menni) والرّاهبات الممرّضات لقلب يسوع الأقدس، مع الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة، والقدّيس شارل دي فوكو بين الجماعات المسيحيّة في الصّحراء، والقدّيسة كاترينا دريكسيل (Katharine Drexel) إلى جانب المجموعات غير المحظوظة في شمال أمريكا، والرّاهبة إيمانويل مع عمّال النّظافة في حَي عزبة النّخل في القاهرة، وغيرهم كثيرين. اكتشف كلّ واحدٍ منهم، وبطريقته، أنّ الأشدّ فقرًا ليسوا مجرّد موضوعًا لشفقتنا، بل هم معلّمون للإنجيل. فليست المسألة أن ”نحمل“ الله إليهم، بل أن نلتقي به فيهم. كلّ هذه الأمثلة تعلّمنا أنّ خدمة الفقراء ليست عملًا نقوم به من الأعلى نحو الأدنى، بل هو لقاء بين متساوين، حيث نرى المسيح ونسجد له. ذكّرنا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني أنّ "هناك حضورًا خاصًّا للمسيح في الشّخص الفقير، الذي يُلزم الكنيسة أن تقوم بخيار تفضيليّ من أجلهم" [70]. لذلك، عندما تنحني الكنيسة لتهتمّ بالفقراء، فإنّها تكون في أسمى مواقفها.
الحركات الشّعبيّة
80. يجب أن نعترف أيضًا أنّ مساعدة الفقراء والنّضال من أجل حقوقهم لم يكن عمل أفراد فقط، أو بعض العائلات، أو المؤسّسات، أو الجماعات الدّينيّة، على امتداد قرون التّاريخ المسيحي. فقد وُجدت، وما زالت موجودة، حركات شعبيّة مختلفة، تتكوّن من علمانيّين ويقودها قادة من الشّعب، وقد تعرّض هؤلاء مرارًا للاتّهامات بل للاضطهاد أيضًا. أشير هنا إلى "جماعات من الأشخاص ليسوا فقط أفرادًا، بل هم نسيج حيّ لجماعة مكوّنة من الجميع وتعمل من أجل الجميع، ولا يمكنها أن تسمح بأن يبقى الفقراء والضّعفاء في الخلف. [...] فالقادة الحقيقيّون للشّعب، إذًا، هم الذين يمتلكون القدرة على إشراك الجميع. [...] وهم لا يشعرون بالحرج ولا ترعبهم رؤية الشّباب المجروحين والمصلوبين" [71].
81. هؤلاء القادة، قادة الشّعب الحقيقيّون، يعرفون أنّ التّضامن "هو أيضًا النّضال ضدّ الأسباب الهيكليّة للفقر، وعدم المساواة، وعدم وجود العمل والأرض والسّكن، وإنكار الحقوق الاجتماعيّة وحقوق العمل. إنّه مواجهة الآثار المدمّرة لإمبراطوريّة المال [...]. التّضامن، إذا فُهم بمعناه الأعمق، هو أسلوب لصنع التّاريخ، وهذا بالذّات ما تقوم به الحركات الشّعبيّة" [72]. ولهذا السّبب، عندما تفكّر المؤسّسات المختلفة في احتياجات الفقراء، يصير من الضّروري "أن تعمل مع الحركات الشّعبيّة وأن تنعش الهيكليّات الحكوميّة المحليّة والوطنيّة والدّوليّة بتلك الطّاقة الأخلاقيّة المتدفّقة التي تنبع من إشراك المهمّشين في بناء المصير المشترك" [73]. فالحركات الشّعبيّة، في الواقع، تدعو إلى تجاوز "تلك الفكرة التي ترى السّياسات الاجتماعيّة كسياسة تعمل من أجل الفقراء، ولكنّها لا تعمل مع الفقراء، ولا هي من الفقراء، ولا هي جزء من مشروع يجمع الشّعوب" [74]. وإن لم يُصغِ السّياسيّون والمنظِّرون إليهم، "تُشَوَّهُ الدّيمقراطيّة، وتصير مجرّد اسم وصورة بلا مضمون، وتفقد قدرتها على تمثيل الفقراء، وتتفكّك لأنّها تُقصي الشّعب عن كفاحه اليومي من أجل الكرامة، وعن مشاركته في بناء مصيره" [75]. والشّيء نفسه يقال في مؤسّسات الكنيسة.
الفصل الرّابع
القصّة تستمرّ
عصر تعليم الكنيسة الاجتماعيّ
82. تسارع التحوّلات التّكنولوجيّة والاجتماعيّة في القرنَين الأخيرَين، المليء بالتّناقضات المأساويّة، لم يكن مجرّد واقع مفروض على الفقراء، بل كان أيضًا واقعًا واجهه وتأمّل فيه الفقراء. فقد أدّت حركات العمّال والنّساء والشّباب، وكذلك النّضال ضدّ التّمييز العنصريّ، إلى ظهور وعي جديد لكرامة المهمّشين. ومساهمة تعليم الكنيسة الاجتماعيّ تحمل في طيّاتها هذه الجذور الشّعبيّة التي لا يجوز نسيانها: إذ لا يمكن تصوّر قراءة الوَحي المسيحيّ من جديد في ظلّ الظّروف الاجتماعيّة والعمليّة والاقتصاديّة والثّقافيّة الحديثة من دون العلمانيّين المسيحيّين الذين واجهوا تحدّيات عصرهم. ووقف إلى جانبهم، الرّهبان والرّاهبات شهودًا على كنيسة أخذت تخرج من الطّرق التي سارت فيها من قبل. التّحوّل العصريّ الذي نعيشه اليوم يجعل من الضّروريّ أكثر من أيّ وقت مضى استمرار التّفاعل بين المعمَّدين والسُّلطة التّعليميّة، وبين المواطنين والخبراء، وبين الشّعب والمؤسّسات. ومن المهمّ بشكل خاصّ أن نؤكّد من جديد على أنّ الواقع يُرى بصورة أوضح من الأطراف، والفقراء هم أصحاب ذكاء خاصّ لا غِنَى عنه للكنيسة وللإنسانيّة.
83. السُّلطة التّعليميّة في المئة وخمسين سنة الأخيرة قدّمت كنزًا حقيقيًّا من التّعاليم الخاصّة بالفقراء. وقد جعل أساقفة روما من أنفسهم صوتًا للوعي الجديد الذي خضع لتمحيص التّمييز الكنسيّ. مثلًا، في الرّسالة البابويّة العامّة ”في الشّؤون الجديدة - Rerum novarum“ (1891)، تناول البابا لاون الثّالث عشر قضيّة العمل، وكشف عن وضعٍ لا يمكن قبوله في حياة عمّال المصانع الكثيرين، واقترح إقامة نظام اجتماعيّ عادل. وقد عبّر بابوات آخرون عن آرائهم بمثل ذلك. في الرّسالة البابويّة العامّة ”أمّ ومعلّمة - Mater et Magistra“ (1961)، روّج القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون لتحقيق عدلٍ ذي أبعاد عالميّة: لا يمكن للبلدان الغنيّة أن تبقى غير مبالية أمام البلدان التي تعاني من الجوع والبؤس، بل هي مدعوّة إلى مساعدتها بسخاء بكلّ ما لديها من خيرات.
84. المجمع الفاتيكانيّ الثّاني يمثّل مرحلة أساسيّة في التّمييز الكنسي في ما يختصّ بالفقراء، في ضوء الوحي. فعلى الرّغم من أنّ موضوع الفقراء لم يكن واضحًا في الوثائق التّحضيريّة للمجمع، فإنّ القدّيس البابا يوحنّا الثّالث والعشرين، في الرّسالة الإذاعيّة في 11 أيلول/سبتمبر 1962، أي قبل شهر من افتتاح المجمع الفاتيكانيّ، سلّط الضّوء على هذا الموضوع بكلمات لا تُنسى: "الكنيسة تقدِّم نفسها كما هي وكما تريد أن تكون، كنيسة الجميع وخاصّة كنيسة الفقراء" [76]. وقد كان للعمل الكبير الذي قام به الأساقفة، واللاهوتيّون، والخبراء المهتمّون بتجديد الكنيسة - مع دعم القدّيس البابا يوحنّا الثّالث والعشرين - دورٌ في إعادة توجيه المجمع. وتكمن أهمّيّة هذا التّوجّه أنّه كان يرتكز على شخصيّة المسيح، فكان اهتمامهم مؤسّسًا على العقيدة، وليس فقط بعدًا اجتماعيًّا. وقد ساعد العديد من آباء المجمع على ترسيخ هذا الوعي، الذي عبّر عنه بوضوح الكاردينال ليركارو (Lercaro) في مداخلته التّاريخيّة في 6 كانون الأوّل/ديسمبر 1962، إذ قال: "إنّ سرّ المسيح في الكنيسة كان دائمًا وما زال، ولكنّه اليوم هو كذلك بصورة خاصّة، سرّ المسيح في الفقراء" [77]، و"هو ليس أيّ موضوع، بل هو، بمعنى ما، الموضوع الوحيد للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني بأكمله" [78]. وأضاف رئيس أساقفة بولونيا، وهو يُعِدُّ نص هذه المداخلة: "هذه هي ساعة الفقراء، ساعة ملايين الفقراء الذين هم في جميع أنحاء الأرض، هذه هي ساعة سرّ الكنيسة أمّ الفقراء، هذه هي ساعة سرّ المسيح ولا سيّما في الفقير" [79]. وهكذا، ظهرت الحاجة إلى صورة جديدة للكنيسة، فيها بساطة وقناعة، تشمل كلّ شعب الله وشخصيّته التّاريخيّة. كنيسة أكثر شبهًا بربّها منها بسلطات هذا العالم، تسعى إلى تحفيز كلّ البشريّة لتلتزم التزامًا حقيقيًّا من أجل حلّ مشكلة الفقر الكبيرة في العالم.
85. في مناسبة افتتاح الدّورة الثّانية للمجمع، تناول القدّيس البابا بولس السّادس الموضوع من جديد الذي تناوله سلفه، وهو أنّ الكنيسة تنظر باهتمام خاصّ "إلى الفقراء والمحتاجين والمنكوبين والجائعين والمتألّمين والمسجونين، أي أنّها تنظر إلى البشريّة جمعاء التي تتألّم وتبكي: هذه البشريّة تنتمي إلى الكنيسة، بموجب حقٍّ إنجيليّ" [80]. وفي المقابلة العامّة بتاريخ 11 تشرين الثّاني/نوفمبر 1964، أوضح أنّ "الفقير هو ممثّل المسيح"، ثمّ ربط صورة المسيح في الأخيرين بالصّورة الظّاهرة للبابا، فقال: "تمثيل المسيح في الفقير هو شامل، إذ إنّ كلّ فقير يعكس صورة المسيح. أمّا تمثيل البابا فهو شخصيّ. […] ويمكن للفقير وبطرس أن يلتقيا، بل أن يكونا الشّخص نفسه، بتمثيل مزدوج، الفقر والسُّلطة" [81]. وهكذا عَبَّر عن العلاقة الجوهريّة بين الكنيسة والفقراء برمزيّة جديدة وواضحة لم يسبق لها مثيل.
86. في الدّستور الرّعائيّ ”فرح ورجاء“، وعلى نهج إرث آباء الكنيسة، أكّد المجمع بقوّة على الغاية الشّاملة لخيرات الأرض، والوظيفة الاجتماعيّة للملكيّة المستمدّة منها: "لقد أعدّ الله الأرض وكلّ ما فيها لخدمة جميع الأفراد والشّعوب، حتّى تفيض خيرات الخليقة بالإنصاف على الجميع [...]. لذلك لا يظننّ الإنسان باستعماله الخيرات، إنّ ما يملكه بطريقة مشروعة لا يخصّ أحدًا غيره، بل فليعتبره مشتركًا: وهذا يعني ألّا يعود بالنّفع عليه فقط بل على الآخرين أيضًا. ومع ذلك فللبشر كلّهم حقّ في الحصول على قسط كافٍ من الخيرات لهم ولعيالهم. [...] أمّا من هو في الضّرورة القصوى، فله الحقّ في تحصيل الكفاف من ثروات غيره. [...] وإنّه لمن طبيعة الملكيّة الخاصّة عينها، أن يكون لها أيضًا طابع اجتماعيّ، مبني على شريعة أساسها: الخيرات هي للجميع. حيث لا يُحترم هذا الطّابع الاجتماعيّ، قد تصير الملكيّة فرصة متواترة لبلبلات خطيرة وللمطامع" [82]. وقد أكدّ القدّيس البابا بولس السّادس هذه الحقيقة في الرّسالة البابويّة العامّة ”تقدُّم الشّعوب - Populorum Progressio“، حيث قال إنّه لا يحقّ لأحد بأن "يحتفظ لاستعماله الخاصّ ما يزيد عن حاجته الخاصّة، عندما يفتقر الآخرون إلى ما هو ضروريّ" [83]. وفي كلمته أمام الأمم المتّحدة، قدّم البابا مونتيني (Montini) نفسه أنّه محامي الشّعوب الفقيرة، [84] ودعا المجتمع الدّولي إلى بناء عالم يقوم على التّضامن.
87. مع القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، ترسّخ، على الأقل على المستوى العقائديّ، أفضليّة الفقراء والعلاقة التي تربط الكنيسة بهم، إذ إنّ تعليمه قد اعترف بأنّ خِيَار الفقراء هو "شكل خاصّ من أشكال الأولويّة في ممارسة المحبّة المسيحيّة، التي يشهد لها تقليد الكنيسة بأكمله" [85]. وكتب أيضًا في الرّسالة البابويّة العامّة ”الاهتمام بالشّأن الاجتماعيّ - Sollicitudo rei socialis“ أنّ اليوم، ونظرًا للبعد العالميّ الذي اتّخذته القضيّة الاجتماعيّة، "لا يمكن لهذه المحبّة التّفضيليّة، ومع القرارات التي تلهمنا بها، لا يمكن ألّا تحتضن الجموع الهائلة من الجياع والمتسوّلين والمشرّدين، والذين يحتاجون إلى المساعدة الطّبّيّة، وقبل كلّ شيء، الذين فقدوا كلّ رجاء في مستقبل أفضل: لا يمكننا ألّا نعترف بوجود هذا الواقع. أن نتجاهل ذلك يعني أنّنا نُشبه ”الرّجل الغنيّ“ الذي تظاهر بأنّه لا يعرف لَعازر الفقير الذي كان مُلقًى خارج بابه (راجع لوقا 16، 19- 31)" [86]. تظهر أهمّيّة تعليمه في العمل عندما نريد أن نفكّر في دور الفقراء الفعّال في تجديد الكنيسة والمجتمع، متجاوزين بذلك النّزعة الأبويّة التي تقتصر على مساعدتهم فقط في تلبية احتياجاتهم الأوّليّة. ففي الرّسالة البابويّة العامّة ”العمل الإنسانيّ - Laborem exercens“ أكّد أنّ "العمل الإنسانيّ هو المفتاح، وربّما المفتاح الأساسيّ للمسألة الاجتماعيّة كلّها" [87].
88. أمام الأزمات المتعدّدة التي ميّزت الألفيّة الثّالثة، مال البابا بندكتس السّادس عشر إلى قراءة سياسيّة للوضع. قال في الرّسالة البابويّة العامّة، ”المحبّة في الحقيقة - Caritas in veritate“: "تكون محبّة القريب فاعلة بقدر ما نساهم في الخير العام الذي يلبّي احتياجاته الحقيقيّة" [88]. بالإضافة إلى ذلك، لاحظ أنّ "الجوع غير مرتبط فقط بقلّة المواد، بل بقلّة الموارد الاجتماعيّة، وأهمّها الموارد المرتبطة بالمؤسّسات. أي إنّه ينقص نظام مؤسّسات اقتصاديّة تقدر أن تضمن الحصول على الغذاء والماء بشكل منتظم وكافٍ من النّاحية الغذائيّة، وتقدر أن تواجه الاحتياجات المرتبطة بالضّروريّات الأساسيّة وحالات الطّوارئ في الأزمات الغذائيّة الحقيقيّة، النّاجمة عن أسباب طبيعيّة أو بسبب عدم المسؤوليّة السّياسيّة الوطنيّة والدّوليّة" [89].
89. اعترف البابا فرنسيس بأنّه أخذت تزداد، في العقود الأخيرة، بالإضافة إلى سُلطة أساقفة روما، مواقف مجالس الأساقفة الوطنيّة والإقليميّة من هذه القضيّة. وقد شهد هو نفسه، مثلًا، على التزام هيئة أساقفة أمريكا اللاتينيّة الخاصّ في إعادة التّفكير في علاقة الكنيسة بالفقراء. في مرحلة ما بعد المجمع، وفي جميع بلدان أمريكا اللاتينيّة تقريبًا، كان هناك شعور قويّ بتعاطف الكنيسة مع الفقراء ومشاركتها الفعّالة في خلاصهم. قلب الكنيسة نفسها هو الذي تحرّك أمام الفقراء الكثيرين الذين كانوا يعانون من البطالة، ونقص العمل، والأجور غير العادلة، وكانوا مضطرّين لأن يعيشوا في ظروف بائسة. كان استشهاد القدّيس أوسكار روميرو، رئيس أساقفة سان سلفادور، شهادة وإرشادًا حيًّا معًا للكنيسة. أحسّ بمأساة الغالبيّة العظمى من مؤمنيه، كما لو أنّها مأساته، وجعلهم محور اهتمامه الرّعوي. مجالس أساقفة أمريكا اللاتينيّة في ميديلين (Medellin) وبويبلا (Puebla) وسانتو دومينغو (Santo Domingo) وأباريسيدا (Aparecida) تشكّل محطّات هامّة للكنيسة بأكملها أيضًا. وأنا نفسي، وقد كنت مدّة سنوات طويلة مرسَلًا في البيرو، أدين بالكثير لهذه المسيرة من التّمييز الكنسيّ، الذي عرف البابا فرنسيس أن يربطها بحكمة بمسيرة الكنائس الخاصّة الأخرى، لا سيّما في جنوب العالم. أودّ الآن أن أتوقّف عند موضوعَين من تعليم هذه السّلطة الأسقفيّة.
هيكليّات مبنيّة على الخطيئة تخلق الفقر وعدم المساواة الشّديدة
90. أعلن الأساقفة في ميديلين (Medellin) اختيارهم التّفضيليّ للفقراء: "أحبّ المسيح مخلّصنا الفقراء، وليس هذا فقط، بل ”بما أنّه كان غنيًّا، صار فقيرًا“ وعاش في الفقر، وركّز رسالته على إعلان تحريرهم وأسّس كنيسته علامةً لهذا الفقر بين النّاس. [...] فقر الإخوة الكثيرين يدعو إلى العدل والتّضامن والشّهادة والالتزام والجُهد والتَّغلُّب، لكي تتحقّق بشكل كامل الرّسالة الخلاصيّة التي أوكلها المسيح إلينا" [90]. أكّد الأساقفة بقوّة أنّ الكنيسة، لكي تكون أمينة كلّ الأمانة لدعوتها، لم يكن عليها فقط أن تشارك الفقراء محنتهم، بل أن تقف إلى جانبهم وتعمل بنشاط من أجل دعمهم الكامل. أكّد مجلس أساقفة بويبلا (Puebla)، أمام البؤس المتفاقم في أمريكا اللاتينيّة، على قرار مجلس أساقفة ميديلين (Medellin) مع خيار صريح ونبويّ لصالح الفقراء، ووصف هيكليّات الظّلم بأنّها ”خطيئة اجتماعيّة“.
91. المحبّة قوّة تغيّر الواقع، وقوّة تغيير تاريخيّة أصيلة. هذا هو الينبوع الذي يجب أن ينهل منه كلّ التزام "لحلّ أسباب الفقر الهيكليّة" [91]، وإطلاقه بشكل مستعجل. لذلك أتمنّى أن "يتزايد عدد السّياسيّين القادرين على أن يدخلوا في حوار حقيقيّ، يعالج بفعّاليّة الجذور العميقة لمشاكل العالم، وليس فقط بعض الظواهر" [92]، لأنّ "الأمر يتعلّق بالاستماع إلى صرخة شعوب بأكملها، وهي أفقر شعوب الأرض" [93].
92. لذلك، من الضّروري أن نواصل إدانة ”ديكتاتوريّة الاقتصاد القاتل“ وأن ندرك أنّه "بينما تتزايد مكاسب القلّة أضعافًا مضاعفة، فإنّ مكاسب الأغلبيّة تتباعد أكثر فأكثر عن رفاهية هذه الأقلّيّة السّعيدة. ينبع هذا الخلل من الأيديولوجيّات التي تدافع عن الاستقلاليّة المطلقة للأسواق والمضاربات الماليّة. وبالتّالي، فهي تنكر حقّ مراقبة الدّول للسّوق، وهي المسؤولة عن حماية الخير العام. ويتمّ تأسيس طغيان جديد غير مرئي، وأحيانًا افتراضيّ، يفرض قوانينه وقواعده بشكل أحاديّ وعنيد" [94]. رغم أنّه لا تغيب النّظريّات المختلفة التي تحاول أن تبرّر الوضع الحالي للأمور، أو أن تفسّر أنّ العقلانيّة الاقتصاديّة تتطلّب منّا أن ننتظر أن تحلّ قِوى السّوق الخفيّة كلّ شيء، فإنّ كرامة كلّ إنسان يجب أن يتمّ احترامها الآن، وليس غدًا، وأنّ وضع الشّقاء لأشخاص كثيرين، يُحرمون من هذه الكرامة، يجب أن يكون تذكيرًا وتأنيبًا دائمًا لضميرنا.
93. في الرّسالة البابويّة العامّة ”لقد أحَبَّنا - Dilexit nos“، ذكّر البابا فرنسيس أنّ خطيئة المجتمع هي ”خطيئة بنية اجتماعيّة“، "وهذا غالبًا جزءٌ من عقليّة مهيمنة، تعتبر أمرًا طبيعيًّا وعقلانيًّا ما هو في الحقيقة فقط أنانيّة ولامبالاة. هذه الظّاهرة يمكننا أن نسمّيها بالاغتراب الاجتماعيّ" [95]. صار تجاهل الفقراء والعيش كما لو أنّهم غير موجودين أمرًا طبيعيًّا. وصار يُقدَّم على أنّه الخيار المعقول لتنظيم الاقتصاد، الذي يتطلّب تضحيات من النّاس، ليخدم بعض الأغراض للأقوياء. أمّا بالنّسبة للفقراء فتبقى لهم وعود هي ”قَطَرات“ ستتساقط، إلى أن تأتي أزمة عالميّة جديدة تعيدهم إلى الوضع السّابق. إنّه اغتراب حقيقيّ يؤدّي فقط إلى إيجاد الأعذار النّظريّة وليس إلى محاولة حلّ المشاكل الحقيقيّة للذين يتألّمون اليوم. قال ذلك من قَبل القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني: "المجتمع الذي يعيق في أشكال تنظيمه الاجتماعيّ، وإنتاجه واستهلاكه، تحقيق هذه العطيّة ويجعل هذا التّضامن بين البشر أكثر صعوبة، هو مجتمع مغترب" [96].
94. يجب أن يزداد التزامنا دائمًا بحلّ أسباب الفقر الهيكليّة. إنّها ضرورة ملحّة "لا يمكنها الانتظار، ليس فقط لأسباب برغماتيّة بانتظار نتائج أو تنظيم المجتمع، بل لشفائه من مرضٍ يجعله هزيلًا ومَعيبًا ولسوف يقوده إلى أزماتٍ جديدة. برامجُ المساعدة التي تواجه بعض الطّوارىء يجب أن تُعتبَر فقط حلولًا آنيّةً عابرة" [97]. غياب المساواة "هو أصل مصائب المجتمع" [98] . في الواقع، "نلاحظ مرارًا أنّ حقوق الإنسان ليست في الواقع متساوية للجميع" [99].
95. يحدث أنّه "في النّمط الحاليّ لما يُعتبَر ”نجاحًا“ و”حقًّا خاصًّا“، يبدو أنّ لا معنى للاجتهاد لشقّ الطّريق في الحياة إذ إنّ الذين هم في المؤخّرة يبقون حيث هم، وكذلك الضّعفاء والمحرومون" [100]. والسّؤال الذي يتكرّر هو دائمًا نفسه: أليس المحرومون بشرًا؟ أليس للضّعفاء كرامتنا نفسها؟ هل الذين ولدوا بإمكانّيات أقلّ، قيمتهم الإنسانيّة أقلّ، وهل يجب عليهم فقط أن يكتفوا بالبقاء على قيد الحياة؟ قيمة مجتمعاتنا تعتمد على الجواب الذي نعطيه على هذه الأسئلة وعليه يعتمد مستقبلنا أيضًا. فإمّا نستعيد كرامتنا الأخلاقيّة والرّوحيّة أو نسقط في حفرة من القذارة. وإن لم نتوقّف ونأخذ الأمور على محمل الجدّ، فسوف نستمرّ، بطرق صريحة أو مقنعة، "بإضفاءِ الشّرعيّة على نموذج التّوزيع الحالي، حيث تظنّ أقليّة أنّه يحقّ لها الاستهلاك بنسبة يستحيل تعميمها، لأنّ الكوكب لا يستطيع حتّى احتواء نفايات استهلاك كهذا" [101].
96. من بين القضايا البُنيَوِيّة التي لا يمكن أن نتصوّر وجود حلّ لها من فوق، والتي تستدعي في أقرب وقت ممكن أن تُؤخذ على محمل الجدّ، قضيّة الأماكن والمساحات والبيوت والمدن التي يعيش ويسير فيها الفقراء. نحن نعلَم ذلك: "كم هي جميلة المدن التي تتجاوز الاحتقار الفاسد وتدمج المختلفين في المجتمع، وتجعل من ذلك الاندماج عاملًا جديدًا للتطوّر! كم هي جميلة المدن التي توفِّرُ المساحات التي تجمع وتشجّع نشأة العلاقات وتعزّز الاعترافَ بالآخر، حتّى في هندستها!" [102]. وفي الوقت نفسه، "لا يمكننا أن نحوِّل النّظر عن تأثيرات التّدهور البيئيّ، ونموذج التّطور الحالي وثقافة الهدْرِ في حياة الأشخاص" [103]. في الواقع "تراجع البيئة والمجتمع يصيب بشكل خاصّ من هم أكثر ضُعفًا في المسكونة" [104].
97. لذلك، من واجب جميع أعضاء شعب الله أن يرفعوا صوتًا مسموعًا، ولو بطرق مختلفة، صوتًا يوقظ، ويندّد، ويعرِّضوا به أنفسهم للملامة، ولو كان الثّمن أن يقال لهم إنّهم ”أغبياء“. يجب علينا أن نتعرّف على هيكليّات الظّلم وندمّرها بقوّة الخير، بتغيير العقليّات، وأيضًا، بمساعدة العِلم والتّكنولوجيا، وبتطوير سياسات فعّالة في تحويل المجتمع. يجب علينا أن نتذكّر دائمًا أنّ ما يطلبه الإنجيل ليس فقط إنشاء علاقة شخصيّة وحميمة مع الرّبّ يسوع. إنّما يطلب أكثر من ذلك: "هو ملكوتُ الله (راجع لوقا 4، 43)؛ وهو أن نحبّ الله مالكًا في العالم. وبقدر ما يستطيع الله أن يملك في ما بيننا، تصير الحياة الاجتماعيّة فسحةَ أخوّة وعدالة وسلام وكرامة للجميع. إذًا، الكرازةُ والحياة المسيحيّة، كلاهما تنزعان إلى إحداث نتائجَ اجتماعيّة. فلنطلب ملكوته" [105].
98. أخيرًا، هناك وثيقة لم تلقَ في البداية استحسانًا من الجميع، وهي تقدِّم لنا تأمّلًا يستجيب دائمًا لأوضاعنا: "المدافعون عن ”الأرثوذكسيّة“ يُتَّهَمون أحيانًا بالسّلبيّة أو التّساهل أو التّواطؤ المذنب تجاه أوضاع الظّلم التي لا تطاق، والأنظمة السّياسيّة التي تحافظ على هذه الأوضاع. إنّ التّوبة الرّوحيّة، والمحبّة الشّديدة لله والقريب، والغَيرة من أجل العدل والسّلام، والحسّ الإنجيليّ تجاه الفقراء والفقر، هي أمور مطلوبة من الجميع، وخاصّة من الرّعاة والمسؤولين. الاهتمام بنقاوة الإيمان يجب ألّا ينفصل عن الاهتمام بإعطاء جواب، بحياة لاهوتيّة متكاملة، لشهادة فعّالة لخدمة القريب، وبطريقة خاصّة جدًّا للفقير والمظلوم" [106].
الفقراء هُم أشخاص
99. التّمييز الرّوحي الذي عبّرت عنه وثيقة مجلس الأساقفة في أباريسيدا (Aparecida) إنّما هو عطيّة أساسيّة لمسيرة الكنيسة الجامعة، حيث أوضح الأساقفة في أمريكا اللاتينيّة أنّ خيار الكنيسة التّفضيليّ للفقراء "متأصِّل في الإيمان بشخص المسيح: الله صار فقيرًا من أجلنا، لكي يُغنينا بفقره" [107]. الوثيقة تضع الرّسالة في سياقها الحالي للعالم المعَولَم باختلالاته الجديدة والمأساويّة، [108] وكتب الأساقفة في الرّسالة الختاميّة: "إنّ الفوارق الشّديدة بين الأغنياء والفقراء تدعونا إلى أن نعمل بالتزام أكبر، لكي نكون تلاميذ قادرين على أن نشارك الآخرين في مائدة الحياة، ومائدة أبناء وبنات الآب جميعًا، مائدةً مفتوحة للجميع، ترحِّب بالجميع، ولا تستثني أحدًا. لذلك نؤكّد مجدّدًا على خيارنا التّفضيليّ والإنجيليّ للفقراء" [109].
100. في الوقت نفسه، أصرّت الوثيقة، التي تعمّقت في موضوعٍ كان قد طُرح مسبقًا في مؤتمرات الأساقفة في أمريكا اللاتينيّة السّابقة، على ضرورة اعتبار الجماعات المهمّشة قادرة على خلق ثقافتها الخاصّة، وليست ”موضوع“ حسنة أو صدقة. وهذا يعني أنّ هذه الجماعات لها الحقّ في أن تعيش الإنجيل وتحتفل بالإيمان وتنقله إلى الأجيال التّالية بحسب قِيَمٍ سائدة في ثقافتها الخاصّة. فخبرة الفقر تمنح تلك الشّعوب القدرة على إدراك جوانب من الواقع لا يستطيع الآخرون رؤيتها، ولهذا يجب على المجتمع أن يصغي إليهم. الأمر نفسه ينطبق على الكنيسة، التي يجب عليها أن تقيّم بشكل إيجابيّ طريقتهم ”الشّعبيّة“ في عيش الإيمان. إنّ النّصّ الجميل في الوثيقة الختاميّة للأباريسيدا، يساعدنا لنتأمّل في هذا الموضوع لكي نجد الموقف الصّحيح: "القُرب الذي يجعلنا أصدقاء، هو فقط الذي يسمح لنا بأن نقدّر بعمق قِيَم فُقراء اليوم، ورغباتهم المشروعة وطريقة عيشهم للإيمان. [...] ويومًا بعد يوم، يصير الفقراء أشخاصًا يعلنون البشارة ويعزّزون الإنسانيّة المتكاملة: فيربّون أولادهم في الإيمان، ويعيشون تضامنًا دائمًا بين الأقارب والجيران، ويبحثون باستمرار عن الله ويُحيُون حجّ الكنيسة. في ضوء الإنجيل، نعترف بكرامتهم الكبيرة وقيمتهم المقدّسة في نظر المسيح، الفقير مثلهم والمُستبعد بينهم. من خبرة الأمانة هذه، سنشاركهم في الدّفاع عن حقوقهم" [110].
101. كلّ ذلك يعني وجود جانب في الخيار من أجل الفقراء الذي يجب علينا أن نتذكّره باستمرار: في الواقع، هذا الخيار يتطلّب منّا "اهتمامًا بالآخر [...]. هذه العنايةُ وهذه المحبّة هي بداية اهتمام حقيقيّ بشخصه، وانطلاقًا من هذا الاهتمام أريد السّعي فعلًا لتحقيق خيره. وهذا يتطلّب أن أقدِّر الفقيرَ في طيبته الخاصّة، مع أسلوب كيانِه وثقافتِه وطريقتِه في عيشِ الإيمان. الحبُّ الحقيقيُّ هو دائمًا تصوّفيٌّ، تأمليٌّ يسمح لنا بأن نخدم الآخَرَ لا عن اضطرارٍ ولا عن غرور، لكن لأنّه جميل، في ما هو أبعدُ من مظاهره. [...] انطلاقًا فقط من هذا القرب الحقيقيّ والودّي نستطيع أن نرافقهم، كما يليق، على طريق تحريرهم" [111]. لهذا السّبب، أوجّه شكرًا خاصًّا إلى كلّ الذين اختاروا أن يعيشوا بين الفقراء: أي، إلى الذين لا يكتفون بزيارتهم بين الحين والآخر، بل يعيشون معهم ومثلهم. هذا الخيار يجب أن يجد له مكانًا بين أسمى أشكال الحياة الإنجيليّة.
102. من هذا المنظور، تبدو الحاجة واضحة إلى أن نترك الفقراء "يبشّروننا جميعًا" [112] ، وإلى أن ندرك كلّنا "الحكمة الخفيّة التي يريد اللهُ أن يبلّغنا إيّاها من خلالهم" [113]. فالفقراء الذين ترعرعوا في ظروف صعبة جدًّا، وتعلَّموا أن يبقوا على قيد الحياة في أصعب الظّروف، ووثقوا بالله وهُم على يقين بأنّ لا أحد آخر ينظر إليهم نظرة جدّيّة، وساعدوا بعضهم البعض في أحلك اللحظات، تعلَّموا أمورًا كثيرة يحتفظون بها في سرّ قلوبهم. الذين لم يعرفوا منّا خبرات مماثلة، أي عيش الحياة على حافّتها، يمكن أن يتعلَّموا الكثير من مصدر الحكمة التي هي خبرة الفقراء. إذا قارنَّا بين شكاوينا وبين معاناتهم وحرمانهم، يمكن أن نجد منهم تأنيبًا يدعونا إلى أن نجعل حياتنا أكثر بساطة.
الفصل الخامس
تحَدٍ دائم
103. أردت أن أذكر تاريخ ألفَيْ سنة لاهتمام الكنيسة بالفقراء ومع الفقراء لأُبَيِّنَ أنّه جزء أساسيّ من مسيرة في الكنيسة لم تتوقّف. الاهتمام بالفقراء هو جزءٌ من تراث الكنيسة الكبير، مِثلَ منارة تبعث نورًا، منذ أن ظهر الإنجيل وما بعد ذلك، فأنارت قلوب وخطى المسيحيّين في كلّ زمان. لذلك، يجب أن نشعر بأهمّيّة دعوة الجميع للدخول في نهر النّور والحياة هذا الذي يرى المسيح في وجه المحتاجين والمتألّمين. إنّ محبّة الفقراء هي عنصر أساسيّ من تاريخ الله معنا، وهي نداء مستمرّ من قلب الكنيسة إلى قلوب المؤمنين، جماعات وأفرادًا. ولأنّ الكنيسة هي جسد المسيح، فإنّها تشعر بحياة الفقراء، كأنّهم جسدها، وهم الجزء الأفضل فيه، في شعبٍ يسير ويتقدَّم. ولهذا، فإنّ محبّة الفقراء، كيفما ظهر وجه الفقر فيهم، هي الضّمانة الإنجيليّة لأمانة الكنيسة لقلب الله. في الواقع، كلّ تجديد في الكنيسة كان دائمًا من أولويّاته هذا الاهتمام التّفضيليّ بالفقراء، وهو يختلف، بدوافعه وأسلوبه، عن عمل أيّ منظّمة إنسانيّة أخرى.
104. لا يستطيع المسيحيّ أن ينظر إلى الفقراء على أنّهم مجرّد مشكلة اجتماعيّة: إنّهم ”مسألة عائليّة“. إنّهم ”مِنَّا“. ولا يمكن أن تقتصر العلاقة معهم على نشاط أو وظيفة في الكنيسة. يعلِّم مجلس الأساقفة في أباريسيدا (Aparecida) فيقول: "يُطلب منّا أن نخصِّصَ وقتًا للفقراء، وأن نلتفت إليهم بمودَّة، وأن نصغي إليهم باهتمام، وأن نرافقهم في أوقاتهم الصّعبة، ونختار أن نشاركهم في حياتهم ساعات أو أسابيع أو سنوات من حياتنا، ونسعى، انطلاقًا من واقعهم، لتغيير وضعهم. ولا يمكننا أن ننسى أنّ يسوع نفسه اقترح ذلك بطريقة عمله وبكلامه" [114].
السّامري الرّحيم مرّة ثانية
105. إنّ الثّقافة السّائدة في بداية هذه الألفيّة تدفعنا إلى أن نترك الفقراء لمصيرهم، وإلى عدم اعتبارهم جديرين بالاهتمام، أو بأيّ تقدير. في الرّسالة العامّة ”كلّنا إخوة - Fratelli tutti“، دعانا البابا فرنسيس إلى التّفكير في مَثَلِ السّامري الرّحيم (راجع لوقا 10، 25-37)، للتعمّق في هذا الموضوع. نرى في المثل رجلًا جريحًا متروكًا في الطّريق، ومواقف مختلفة من الذين مرُّوا به. السّامري الرّحيم وحده اهتمّ به. وهنا يعود السّؤال الذي يخاطب كلّ واحد منّا: "مع من ترى نفسك؟ السّؤال صعب، مباشر وحاسم. أنت تشبه مَن مِن هؤلاء المارّة؟ يجب أن نعترف بأنّ الإغراء شديد في محيطنا الذي يدعونا إلى عدم الاهتمام بالآخرين، وخاصّة الضّعفاء. يجب أن نعترِف بأنّنا نمَوْنا وتطوّرنا في أمور كثيرة، لكنَّا بقينا أُمِّيّين، في مجتمعاتنا المتقدمّة، في مرافقة الضّعفاء والفقراء ورعايتهم ودعمهم. لقد اعتدنا أن ننظر إلى الجانب الآخر، وأن نمُرّ ونتجاهل ما يجري، ما زالت هذه الأمور لا تخُصُّنا بصورة مباشرة" [115].
106. ومن المفيد جدًّا أن نكتشف أنّ مشهد السّامري الرّحيم يتكرّر اليوم أيضًا. لنتذكَّرْ موقفًا من أيّامنا: "عندما ألتقي بشخص نائم في الشّارع في تقلّبات الطّقس، في ليلة باردة، قد أشعر أنّ هذا ”الإنسان“ هو شيء غير متوقَّع يزعجني، أو هو جانح بطّال، أو عائق في طريقي، أو تأنيب مزعج لضميري، أو مشكلة يجب على السّياسيّين أن يحلُّوها، وربّما أذهب إلى القول إنّه قمامة يلطِّخ الفضاء العام. أو يمكنني أن أتفاعل انطلاقًا من الإيمان والمحبّة فأرى فيه إنسانًا له كرامة مثل كرامتي، وهو مخلوقٌ يحِبُّه الآب حُبًّا لا حدَّ له، وهو صورة لله، وأخٌ افتداه المسيح. هذا يدلّ على أنّك مسيحيّ! أم هل يمكن أن نفهم القداسة دون هذا الاعتراف الحيّ بكرامة كلّ إنسان؟" [116]. ماذا فعل السّامري الرّحيم؟
107. هذا السّؤال مُلِحٌّ، لأنّه يساعدنا على أن ندرك نَقصًا خطيرًا في مجتمعاتنا، وفي جماعاتنا المسيحيّة أيضًا. إنّا نجد اليوم أشكالًا عديدة من اللامبالاة وهي "علامة على نمط حياة عامّ، يظهر بطرق مختلفة، وأحيانًا بطرق خفيّة. ولأنّنا جميعًا غارقون في احتياجاتنا الخاصّة، فإنّ رؤية إنسانٍ يعاني تزعجنا، ولا نريد أن نضَيِّع الوقت بسبب مشاكل الآخرين. هذه أعراض مجتمع مريض، يريد أن يبني نفسه بأن يدير ظهره للألم. ليتنا لا نقع في مثل هذا البؤس. لننظُرْ إلى مِثال السّامري الرّحيم" [117]. الكلمات الأخيرة من المثل الإنجيليّ - "اذهب واعمل كذلك" (لوقا 10، 37) - هي أمرٌ يجب على المسيحيّ أن يسمعَهُ مدَوِّيًا في قلبه كلّ يوم.
تحَدٍ لا مفَرَّ منه للكنيسة اليوم
108. كان وقت صعب جدًّا لكنيسة روما، عندما كانت المؤسّسات الإمبراطوريّة تنهار تحت ضربات البرابرة. وكان البابا القدّيس غريغوريوس الكبير يوصِي المؤمنين فيقول: "في كلّ يوم يمكننا أن نجد لِعازَر، إن بحثنا عنه، وكلّ يوم نلتقي به، حتّى ولو لم نبحث عنه. قد يأتي إلينا الفقراء بطريقة مزعجة ويوجِّهون إلينا طلباتهم، وهم الذين سيقدرون يومًا ما أن يشفعوا بنا. [...] لذلك، لا تُضَيِّعوا الفرص لعمل الرّحمة ولا تهملوا اللجوء إلى كلّ الوسائل المتوفِّرة لكم" [118]. كان يتحدّى، بشجاعة، الآراء الشّائعة في زمنه ضدّ الفقراء، مثل الذين يقولون اليوم إنّ الفقراء مسؤولون عن شقائهم. كان يقول: "إذا رأيتم فقراء يقومون ببعض الأعمال التي تستحقّ اللوم، لا تحتقروهم ولا تفقدوا الثّقة بهم، لأنّ نار الفقر ربّما تطهِّر ما يعملونه إذا ارتكبوا خطايا ولو كانت طفيفة" [119]. فإنّ التّرف كثيرًا ما يجعلنا عميانًا، فنظنُّ أنّا لا يمكننا أن نحقّق سعادتنا إلّا بالاستغناء عن الآخرين. وفي هذا، يمكن للفقراء أن يكونوا معلِّمِين صامتين لنا، فيعيدون كبريائنا وغطرستنا إلى تواضع سليم.
109. إن كان صحيحًا أنّ أصحاب المال يسندون الفقراء، يمكننا أن نقول العكس أيضًا. وهذه خبرة مدهشة يشهد لها التّقليد المسيحيّ نفسه، وهي سبب تحوُّل حقيقيّ في حياتنا الشّخصيّة، عندما ندرك أنّ الفقراء هم الذين يبشِّروننا. كيف ذلك؟ الفقراء، في صمتهم وضعة حالتهم، يضعوننا أمام ضعفنا. فالإنسان المـُسِنّ، مثلًا، مع ضعف جسده، يذكِّرُنا بضعفنا، ولو حاولنا إخفاء ذلك وراء الرّفاه أو المظاهر. علاوة على ذلك، فإنّ الفقراء يجعلوننا نفكِّر في هشاشة الكبرياء العدوانيّة التي نواجِهُ بها مرارًا صعوبات الحياة. بالإيجاز، إنّهم يكشفون عن هشاشتنا وفراغ حياتنا التي تبدو محميّة وآمنة. في هذا الصّدد، لنصغِ من جديد إلى القدّيس البابا غريغوريوس الكبير: "لا يظُنّ أحد نفسه أنّه في أمان، ولا يَقُلْ: أنا لا أسرق الآخرين، وأقتصر على استخدام الخيرات التي كسبتها وفقًا للعدالة. في الواقع، الرّجل الغني لم يُعاقَبْ لأنّه أراد لنفسه ممتلكات الآخرين، بل لأنّه أهمل نفسه بعد أن حصل على ثروات كثيرة. حُكِمَ عليه بالجحيم لأنّه لم يحتفظ بمخافة الله، في واقع سعادته، بل دفعته ثروته إلى العجرفة، ولم يكن له أيّ شعور بالرّحمة" [120].
110. بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين، تعيدنا قضيّة الفقراء إلى جوهر إيماننا. إنّ تفضيل الفقراء، أي محبّة الكنيسة لهم، كما علّم القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، "هو أمرٌ جوهريٌّ وجزءٌ من تراثها الرّاسخ. ويدفعها إلى أن تتوجّه إلى العالم، حيث يُهدِّد الفقر بأن يتّخذ أشكالًا هائلة، بالرّغم من التّقدّم التّقني والاقتصادي" [121]. والواقع هو أنّ الفقراء بالنّسبة للمسيحيّين ليسوا فئة اجتماعيّة، بل هم جسد المسيح نفسه. ولم يَعُدْ يكفي مجرّد إعلان عقيدة تجسّد الله بصورة عامّة. فلكي ندخل حقًّا في هذا السّرّ، يجب أن ندرك أنّ الرّبّ صار إنسانًا يجوع، ويعطش، ويمرض، ويُسجَن. "إنّ كنيسة فقيرة تهتمّ بالفقراء تبدأ فتتحرّك نحو جسد المسيح. فإذا توجّهنا نحو جسد المسيح، بدأنا نفهم بعض الشّيء، بدأنا نفهم ما هو فقر الرّبّ يسوع هذا. وهذا ليس سهلًا" [122].
111. إنّ قلب الكنيسة، بطبيعته، متضامن مع الفقراء والمستبعدين والمهمّشين، ومع الذين يُعتَبَرون ”مرفوضين“ في المجتمع. إنّ الفقراء هم في قلب الكنيسة، وهم جزء من "الإيمان بالمسيح الذي صار فقيرًا وظلَّ دائمًا قريبًا من الفقراء والمستبعدين، ومن هذا ينجم الاهتمام بالتّنمية المتكاملة للمتروكين ولأكثر النّاس تهميشًا في المجتمعات" [123]. في قلب كلّ مؤمن توجد "الحاجة إلى الإصغاء إلى الصّراخ النّاجم من نفس عمل النّعمة المحرِّر في كلّ واحد منّا، ومن ثمّ ليست العناية بالفقير رسالة مخصّصة للبعض فقط" [124].
112. أحيانًا يُلاحظ في بعض الحركات أو الجماعات المسيحيّة نقصًا أو حتّى غيابًا في الالتزام بالخير العام للمجتمع، وبالأخصّ في الدّفاع عن الأضعفين والمحرومين وتعزيز مكانتهم. وفي هذا الصّدد، من الضّروريّ أن نتذكّر أنّ الدِّين، وخاصّة الدِّين المسيحيّ، لا يمكن أن يقتصر على الحياة الخاصّة، كما لو أنّ المؤمنين يجب ألّا يهتمّوا أيضًا بالمشاكل التي تهمّ المجتمع المدني والأحداث التي تخُصُّ المواطنين. [125]
113. في الواقع، "كلّ جماعة أيًّا كانت، في الكنيسة، تدَّعي الانزواء ولا تعمل بشكل خلّاق ولا تتعاون بشكل فعّال لكي يعيش الفقراء بكرامة، ولا تعمل لإدماج الجميع في المجتمع، إنّما هي معرّضة لخطر الانحلال، ولو تحدّثت عن بعض القضايا الاجتماعيّة أو انتقدت الحكومات. ستغمرها بسهولة الرّوح العالميّة، المتخفّية في بعض الممارسات الدّينيّة، والاجتماعات العقيمة، أو الخطب الفارغة" [126].
114. نحن لا نتكلَّم فقط على المساعدة والالتزام الضّروريّ من أجل العدالة. على المؤمنين أن يؤدّوا حسابًا عن شكل آخر من أشكال التّناقض في موقفهم من الفقراء. في الحقيقة، "إنّ أسوأ تفرقة يعاني منها الفقراء هي النّقص في الاهتمام الرّوحي بهم […]. تفضيل الفقراء يجب أن يظهر بصورة أساسيّة في اهتمام دينيّ بهم متميّز، ويجب أن تكون له الأولويّة" [127]. ومع ذلك، فإنّ هذا الاهتمام الرّوحي بالفقراء لا يزال موضوع جدل بسبب بعض الأحكام المسبقة، حتّى من قبل بعض المسيحيّين، لأنّنا نشعر براحة أكبر بدون الفقراء. وهناك من يقول أيضًا: ”مهمّتنا هي الصّلاة وتعليم العقيدة الصّحيحة“. لكن، بفصل هذا الجانب الدّيني عن الدّعم العملي والتّعزيز المتكامل، يضيفون أنّ الحكومة وحدها هي التي يجب أن تعتني بهم، أو من الأفضل تركهم في حالة الفقر وتعليمهم بالأحرى، بدل ذلك، كيف يعملون. وفي بعض الأحيان يستخدمون معايير علميّة خاطئة للقول إنّ حرّيّة السّوق ستؤدّي تلقائيًّا إلى حلّ مشكلة الفقر. أو، نفضل أن نختار تكوين النُّخَب. وحُجَّتهم في ذلك أنّه بدلًا من إضاعة الوقت مع الفقراء، من الأفضل الاهتمام بالأغنياء والأقوياء والمهنيّين، وهكذا يمكن التّوصّل معهم إلى حلول أكثر فعّاليّة. من السّهل قبول الرّوح العالميّة الكامنة وراء هذه الآراء: إنّها تدفعنا إلى النّظر إلى الواقع بمعايير سطحيّة وخالية من كلّ نور فائق الطّبيعة، فنميل إلى مرافقة من يمنحنا الشّعور بالأمان، ونسعى إلى الامتيازات التي تريحنا.
اليوم أيضًا، أعطوا
115. حسَنٌ أن نقول كلمة أخيرة في الصّدقة، التي صارت اليوم وكأنّها غير مقبولة، حتّى بين الكثير من المؤمنين. صارت الصّدقة ليس فقط نادرة بل محتقرة. أنا أكرّر أنّ المساعدة الأهمّ لإنسان فقير هي مساعدته بتوفير عمل له، يطوِّر به كفاءاته ويقدِّم هو للمجتمع مجهوده الشّخصي. الواقع هو أنّ "نقص العمل هو أكثر من عدم وجود مصدر دخل للعيش. العمل هو هذا، لكنّه أكثر من ذلك بكثير. بالعمل نثبِّت شخصيّتنا وكرامتنا، وتزدهر إنسانيّتنا، وبالعمل فقط يصير الشّباب بالغين. يعتبر تعليم الكنيسة الاجتماعيّ أنّ عمل الإنسان هو مشاركة في الخلق الذي يستمرّ كلّ يوم، بفضل أيدي العمّال وعقولهم وقلوبهم" [128]. ومن جهة أخرى، إن لم تتوفّر هذه الإمكانيّة عمليًّا، يجب ألّا نخاطر ونترك الشّخص لمصيره، وهو لا يملك ما هو ضروري له ليعيش بكرامة. ولذلك تبقى الصّدقة لحظة ضروريّة من اللقاء، والتّواصل، والتّعاطف مع حال الآخر.
116. من الواضح لمن يحِبّ حقًّا أنّ الصّدقة لا تعفي السُّلطات المختصّة من مسؤوليّاتها، ولا تلغي التزام المؤسّسات المنظمّة، ولا تحلّ محلّ النّضال المشروع من أجل العدالة. لكنّها تدعو على الأقل إلى التوقّف والنّظر في وجه الفقير، ولمسه ومشاركته في شيء خاصٍّ به. وفي كلّ حال، فإنّ الصّدقة، حتّى لو كانت صغيرة، تغرس مشاعر التّقوى والاهتمام بالآخرين في حياة اجتماعيّة يهتمّ فيها الجميع وراء مصلحتهم الخاصّة. يقول سفر الأمثال: "الصَّالِحُ العينِ يُبارَك لِأَنَّه أَعْطى مِن خُبزِه لِلفَقير" (الأمثال 22، 9).
117. نجد في كلا العهدَين القديم والجديد إشادة حقيقيّة بالصّدقة: "مع ذلكَ كُن طَويلَ الأَناةِ على البائس، ولا تُماطِلْه في الصَّدَقَة. [...] أَغلِقْ على الصَّدَقَةِ في أَهْرائِكَ، فهي تُنقِذُكَ مِن كُلِّ شَرّ" (يشوع بن سيراخ 29، 8. 12). وتبنّى يسوع هذا التّعليم: "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها واجعَلوا لَكُم أَكْياسًا لا تَبْلى، وكَنزًا في السَّمواتِ لا يَنفَد" (لوقا 12، 33).
118. نُسِبَ الإرشاد التّالي إلى القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم: "الصّدقة هي جناح الصّلاة. إن لم تضِفْ جناحًا إلى صلاتك، فلن تقدر أن تطير إلّا بصعوبة" [129]. واختتم القدّيس غريغوريوس النّزيانزي إحدى خطبه الشّهيرة بهذه الكلمات: "إن كنتم تستمعون إليَّ، أنتم خُدَّام المسيح، إخوته وورثته، ما زال الوقت مناسبًا، زوروا المسيح، واعتَنوا بالمسيح، وأطعِموا المسيح، وألبِسوا المسيح، ورَحِّبوا بالمسيح، وكَرِّموا المسيح: ليس فقط بوليمة كما فعل البعض، ولا بالأطياب مثل مريم، ولا بتقديم قبر له، مثل يوسُف الرَّاميّ، وليس فقط بالقيام بواجبات الدّفن، مثل نيقوديموس، الذي أحبّ المسيح حبًّا جزئيًّا، وليس فقط بالذّهب والبخور والمرّ، مثل المجوس، لكن بما أنّ الرّبّ يريد الرّحمة لا الذّبيحة [...] فلنقدِّم له هذا في الفقراء، حتّى إذا غادرنا هذه الأرض استقبلونا في الدّيار الأبديّة" [130].
119. يجب تغذية الحبّ والقناعات العميقة، وذلك ببعض المبادرات. البقاء في عالم الأفكار والنّقاشات، دون أعمال شخصيّة ومتكرّرة وصادقة، هو بمثابة تدمير لأغلى أحلامنا. لهذا السّبب البسيط نحن المسيحيّين لا نتخلّى عن الصّدقة. هو عمل يمكن أن نقوم به بطرق مختلفة، ويمكن أن نحاول أيضًا أن نتّخذ أكثر الطّرق فعّاليّة، ولكن المهمّ، يجب أن نعمل. أن نعمل شيئًا أفضل دائمًا من ألَّا نعمل. في كلّ حال، ذلك سيمسّ قلبنا. لن نحلَّ مشكلة الفقر في العالم، وهو الحلّ الذي يجب البحث عنه بالذّكاء والإصرار والالتزام الاجتماعيّ. ولكنّنا بحاجة إلى ممارسة الصّدقة لكي نلمس جسد الفقراء المتألّم.
120. المحبّة المسيحيّة تتخطَّى كلّ الحواجز، وتقرّب البعيدين، وتجمع بين الغرباء، وتجعل الأعداء أصدقاء، وتجتاز مهاويَ لا يمكن عبورها بقوّة بشريّة، وتدخل في أكثر ثنايا المجتمع خفاء. المحبّة المسيحيّة بطبيعتها نبويّة، وتصنع المعجزات، ولا حدود لها: تواجه المستحيل. الحبّ هو قبل كلّ شيء طريقة لفهم الحياة، وأسلوب للحياة. الكنيسة التي لا تضع حدودًا للمحبّة، ولا تعرف أعداء تقاتلهم، بل تعرف فقط رجالًا ونساء تحبّهم، هي الكنيسة التي يحتاج إليها العالم اليوم.
121. بعملكم، وبالتزامكم لتغيير البُنَى الاجتماعيّة غير العادلة، وبلفتة لمساعدة بسيطة، شخصيَّةٍ جدًّا وقريبة من الآخر، سيكون من الممكن للفقير أن يشعر بأنّ كلمات يسوع هي له: "لقد أَحبَبتُكَ" (رؤيا يوحنّا 3، 9).
صَدَرَ في روما، قُرب ضريح القدّيس بطرس، في 4 تشرين الأوّل/أكتوبر، عيد القدّيس فرنسيس الأسّيزي، سنة 2025، الأولى من حبريَّتي.
لاوُن الرّابع عشر
************
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
_____________________
[1] فرنسيس، الرّسالة البابويّة العامّة، لقد أحَبَّنا (24 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024)، 170: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 1422.
[2] المرجع نفسه، 171: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 1422-1423.
[3] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، اِفَرحوا وابتَهِجوا (19 آذار/مارس 2018)، 96: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 110 (2018)، 1137.
[4] فرنسيس، لقاء مع ممثّلي وسائل الإعلام (16 آذار/مارس 2013): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 381.
[5] ج. بيرغوليو – أ. سكوركا، فوق السّماء والأرض، بونيس آيرس، 2013، 214.
[6] القدّيس بولس السّادس ، عظة في القدّاس الإلهيّ في مناسبة الجلسة العامّة الأخيرة للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني المسكونيّ (7 كانون الأوّل/ديسمبر 1965): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 58 (1966)، 55-56.
[7] راجع فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 187: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1098.
[8] المرجع نفسه، 212: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1108.
[9] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، كلّنا إخوة (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 23: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 112 (2020)، 977.
[10] المرجع نفسه، 21: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 112 (2020)، 976.
[11] مجلس الجماعات الأوروبيّة، القرار (85/8/CEE) بشأن إجراء عمل جماعيّ محدّد لمكافحة الفقر (19 كانون الأوّل/ديسمبر 1984)، المادّة 1، الفقرة 2: الصّحيفة الرّسميّة للجماعات الأوروبيّة، N. L 2/24.
[12] راجع القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامّة (27 تشرين الأوّل/أكتوبر 1999): L’Osservatore Romano، 28 تشرين الأوّل/أكتوبر1999، 4.
[13] فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 197: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1102.
[14] راجع المؤلّف نفسه، رسالة في اليوم العالميّ الخامس للفقراء (13 حزيران/يونيو 2021)، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 113 (2021)، 691: "لم يكن يسوع إلى جانب الفقراء فقط، بل شاركهم مصيرهم. وهذا تعليم قويّ أيضًا لتلاميذه في كلّ زمن".
[15] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 186: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1098.
[16] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، اِفَرحوا وابتَهِجوا (19 آذار/مارس 2018)، 95: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 110 (2018)، 1137.
[17] المرجع نفسه، 97: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 110 (2018)، 1137.
[18] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 194: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1101.
[19] فرنسيس، لقاء مع ممثّلي وسائل الإعلام (16 آذار/مارس 2013): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 381.
[20] المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور عقائدي، نور الأمم، 8.
[21] فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 48: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1040.
[22] نقدّم في هذا الفصل بعض أمثال تلك القداسة، ولا ندّعي بأنّها شاملة، لكنّها دليل على تلك العناية بالفقراء، التي ميّزت دائمًا حضور الكنيسة. يمكن وجود دراسة أعمق وأشمل لهذه الرّعاية لأكثر النّاس احتياجًا في كتاب Vincenzo Paglia، تاريخ الفقر، ميلانو 2014.
[23] راجع القدّيس أمبرزيوس، في مهام الخدمات 1، الفصل 41، 205-206: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 15، تورنهاوت 2000، 76-77؛ 2، الفصل 28، 140-143: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 15، 148-149.
[24] المرجع نفسه، 2، الفصل 28، 140: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 15، 148.
[25] المرجع نفسه.
[26] المرجع نفسه، 2، الفصل 28، 142: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 15، 148.
[27] القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، الرّسالة إلى أهل إزمير، 6، 2: مصادر مسيحيّة 10، باريس 2007، 136-138.
[28] القدّيس بوليكاربس، الرّسالة إلى أهل فيليبي، 6، 1: مصادر مسيحيّة 10، 186.
[29] القدّيس يوستينس، الدّفاع الأوّل، 67، 6-7: مصادر مسيحيّة 507، باريس 2006، 310.
[30] القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم ، عظة في إنجيل القدّيس متّى، 50، 3: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 58، باريس 1862، 508.
[31] المرجع نفسه، 50، 4. مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 58، 509.
[32] المؤلّف نفسه، عظة في الرّسالة إلى العبرانيّين، 11، 3. مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 63، باريس 1862، 94.
[33] المؤلّف نفسه، عظة ثانية في لعازر، 6. مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 48، باريس 1862، 992.
[34] القدّيس أمبروزيوس، عن نابوت، 12، 53: مجموعة الكتابات الكنسيّة اللاتينيّة 32/2، براغ – فيينّا - لايبزيغ 1897، 498.
[35] القدّيس أغسطينس، في شرح المزامير، 125، 12: مجموعة الكتابات الكنسيّة اللاتينيّة 95/3، فيينّا 2001، 181.
[36] المؤلّف نفسه، العظة 86، 5: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 41Ab، تورنهاوت 2019، 411-412.
[37] أغسطينس (المنحول)، العظة 388، 2: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اللاتينيّة 39، باريس 1862، 1700.
[38] القدّيس كبريانوس، الموتى، 16: مجموعة المؤلّفين المسيحيّين السّلسلة اللاتينيّة 3A، تورنهاوت 1976، 25.
[39] فرنسيس، رسالة في اليوم العالمي الثّلاثين للمريض (10 كانون الأوّل/ديسمبر 2021)، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 114 (2022)، 51.
[40] القدّيس كاميلّو دي ليلّيس، قوانين رهبنة خدّام المرضى، 27. طبعة ماريو فانتي، كتابات كاميلّو دي ليلّيس، ميلانو 1965، 67.
[41] القدّيسة لويزا دي مارياك، رسالة إلى الأختَين كلود كاريه وماري غودوين (Claude Carré e Marie Gaudoin) (28 تشرين الثّاني/نوفمبر 1657): طبعة إليزابيت شاربي، القدّيسة لويزا دي مارياك، كتابات، باريس 1983، 576.
[42] القدّيس باسيليوس الكبير، القوانين المفسَّرة على نحو أوسع، 37، 1. مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 31، باريس 1857، 1009 C-D.
[43] قانون بندكتس، 53، 15: مصادر مسيحيّة 182، باريس 1972، 614.
[44] القدّيس يوحنّا كاسيانو، Collationes، 15، 10: مجموعة الكتابات الكنسيّة اللاتينيّة 13، فيينّا 2004، 410.
[45] بندكتس السّادس عشر، التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامّة (21 تشرين الأوّل/أكتوبر 2009): L’Osservatore Romano، 22 تشرين الأوّل/أكتوبر 2009، 1.
[46] راجع إنوشنسيوس الثّالث - Innocenzo III، مرسوم Operante divinæ dispositionis - القانون الأصلي للثّالوثيّين (17 كانون الأوّل/ديسمبر 1198)، 2: طبعة خوسيه لويس أوريكويشيا – أنتونيو مولدون، المصادر التّاريخيّة لرهبنة الثّالوث الأقدس (من القرن الثّاني عشر إلى القرن الخامس عشر)، قرطبة 2003، 6: "تُقسّم جميع الخيرات، أيًّا كان مصدرها الشّرعي، إلى ثلاثة أقسام متساوية؛ يستعمل قسمان منها، بقدر ما يكفيان، لأعمال الرّحمة، ولتأمين معيشة معتدلة للرّهبان وللخدم الذين هم في خدمتهم للضّرورة. أمّا القسم الثّالث، فيُخصّص لتحرير الأسرى بسبب إيمانهم بالمسيح".
[47] راجع دساتير رهبنة سيّدتنا مريم العذراء سيّدة الرّحمة، رقم 14: رهبنة سيّدتنا مريم العذراء سيّدة الرّحمة، قواعد ودساتير، روما 2014، 53: "لتحقيق هذه الرّسالة، وبدافع المحبّة، نُكرّس أنفسنا لله بنذرٍ خاصّ، يُسمّى نذر الفداء، نعد بموجبه بأن نبذل حياتنا، إن لزم الأمر، كما بذلها المسيح من أجلنا، لخلاص المسيحيين المُعرّضين لخطر فقدان إيمانهم في ظلّ أشكال جديدة من العبوديّة".
[48] راجع القدّيس يوحنّا باتيتسا (Giovanni Battista della Concezione)، قانون رهبنة الثّالوث الأقدس، 20، 1: BAC Maior 60، مدريد 1999، 90: "في هذا، الفقراء والأسرى هم مثل المسيح، الذي حمل آلام العالم [...]. هذه الرّهبنة للثّالوث الأقدس تدعوهم لكي يأتوا ويشربوا ماء المخلّص، يعني إن كان المسيح المعلّق على الصّليب فداءً وخلاصًا للبشر، فإنّ هذه الرّهبنة أخذت هذا الفداء وتريد أن توزّعه على الفقراء وأن تخلِّص وتحرِّر السّجناء".
[49] راجع المؤلّف نفسه، الذّاكرة الدّاخليّة، 40، 4: BAC Maior 48، مدريد 1995، 689: "الإرادة الحرّة تجعل الإنسان حرًّا وسيّدًا بين جميع المخلوقات، ولكن، ليساعِدْني الله! كم هم الذين يصيرون، بهذه الطّريقة، عبيدًا وأسرى للشّيطان، ومسجونين ومقيّدين بسلاسل أهوائهم وشهواتهم".
[50] فرنسيس، رسالة في اليوم العالميّ السّابع والأربعين للسَّلام (8 كانون الأوّل/ديسمبر 2014)، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 107 (2015)، 69.
[51] المؤلّف نفسه، لقاء مع ضبّاط شرطة السّجون والسّجناء والمتطوّعين (فيرونا، 18 أيّار/مايو 2024): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 766.
[52] هونوريوس الثّالث، مرسوم Solet annuere - قانون مؤيّد بمرسوم (29 تشرين الثّاني/نوفمبر 1223)، الفصل 6: مصادر مسيحيّة 285، باريس 1981، 192.
[53] راجع غريغوريوس التّاسع، مرسوم Sicut manifestum est (17 أيلول/سبتمبر 1228)، 7: مصادر مسيحيّة 325، باريس 1985، 200: "وكما قد التمستم، فإنّنا نثبّت بعطف رسوليّ قراركم في الفقر الأسمى، ونمنحكم بسلطان هذه الرّسالة حتّى لا يَجبركم أحد على قبول الممتلكات".
[54] راجع سيمون توغويل، الدّومينيكان الأوائل. كتابات مختارة،Mahwah 1982، 16-19.
[55] توماس دي سيلانو، ثاني حياة - القسم الأوّل، الفصل الرّابع، 8: مختارات فرنسيسكانيّة، 10، فلورنسا 1941، 135.
[56] فرنسيس ، كلمة بعد الزّيارة إلى قبر الأب لورينسو ميلاني (باربيانا، 20 حزيران/يونيو 2017)، 2: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 109 (2017)، 745.
[57] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، كلمة إلى المشاركين في الجمعيّة العامّة للإكليريكيّين فقراء والدة الله لمدارس التّقوى (السكولوبيّين) (5 تمّوز/يوليو 1997)، 2: L’Osservatore Romano، 6 تمّوز/يوليو 1997، 5.
[58] المرجع نفسه.
[59] المؤلّف نفسه، عظة في قدّاس التّقديس (18 نيسان/أبريل 1999): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 91 (1999)، 930.
[60] راجع المؤلّف نفسه، رسالة Iuvenum Patris (31 كانون الثّاني/يناير 1988)، 9: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 80 (1988)، 976.
[61] راجع فرنسيس، كلمة إلى المشاركين في الجمعيّة العامّة لجمعيّة المحبّة (Rosminiani) (1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2018): L’Osservatore Romano، 1-2 تشرين الأوّل/أكتوبر 2018، 7.
[62] المؤلّف نفسه، عظة في قدّاس التّقديس (9 تشرين الأوّل/أكتوبر 2022): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 114 (2022)، 1338.
[63] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، رسالة إلى رهبنة مرسلات القلب الأقدس (31 أيّار/مايو 2000)، 3: L’Osservatore Romano، 16 تمّوز/يوليو 2000، 5.
[64] راجع بيوس الثّاني عشر، إرشاد رسولي مختصر، Superiore Iam Aetate (8 أيلول/سبتمبر 1950): أعمال الكرسي الرّسولي 43 (1951)، 455-456.
[65] فرنسيس، رسالة في اليوم العالمي الخامس بعد المائة للمهاجرين واللاجئين (27 أيّار/مايو 2019): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 111 (2019)، 911.
[66] المؤلّف نفسه ، رسالة في اليوم العالميّ المائة للمهاجرين واللاجئين (5 آب/أغسطس 2013): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 930.
[67] القدّيسة تريزا دي كالكوتا، كلمة في مناسبة تقديم جائزة نوبل للسّلام (أوسلو، 10 كانون الأوّل/ديسمبر 1979): المؤلّف نفسه، الحبّ حتّى الضّجر من الحبّ، ليون 2017، 19-20.
[68] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، كلمة إلى الحجّاج القادمين إلى روما من أجل تطويب الأمّ تريزا دي كالكوتا، 20 تشرين الأوّل/أكتوبر 2003، 3: L’Osservatore Romano، 20-21 تشرين الأوّل/أكتوبر 2003، 10.
[69] فرنسيس، عظة في قدّاس التّقديس (13 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 111 (2019)، 1712.
[70] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة البابويّة العامّة، في بداية الألفيّة الثّالثة-Novo millennio ineunte (6 كانون الثّاني/يناير 2001)، 49: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 93 (2001)، 302.
[71] فرنسيس، الإرشاد الرسولي، المسيح يحيا (25 آذار/مارس 2019)، 231: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 111 (2019)، 458.
[72] المؤلّف نفسه، كلمة إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشّعبيّة (28 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 106 (2014)، 851-852.
[73] المرجع نفسه: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 106 (2014)، 859.
[74] المؤلّف نفسه، كلمة إلى المشاركين في اللقاء العالمي للحركات الشّعبيّة (5 تشرين الثّاني/نوفمبر2016): L’Osservatore Romano، 7-8 تشرين الثّاني/نوفمبر 2016، 5.
[75] المرجع نفسه.
[76] القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون، رسالة إذاعيّة إلى جميع المؤمنين في العالم قبل شهر واحد من افتتاح المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني (11 أيلول/سبتمبر 1962): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 54 (1962)، 682.
[77] جاكومو ليركارو، مداخلة في المجمع العام الخامس والثّلاثين للمجمع الفاتيكاني الثّاني المسكوني (6 كانون الأوّل/ديسمبر 1962)، 2: أعمال المجمع (Acta Synodalia) المجلّد الأوّل، الفصل الرّابع، 327-328.
[78] المرجع نفسه، 4: أعمال المجمع (Acta Synodalia) المجلّد الأوّل، الفصل الرّابع، 329.
[79] طبعة معهد العلوم الدّينية، بقوّة الرّوح. خطابات مجمعيّة للكردينال جاكومو ليركارو، بولونيا 1984، 115.
[80] القدّيس بولس السّادس، خطاب في الافتتاح الرّسمي للدورة الثّانية للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني المسكونيّ (29 أيلول/سبتمبر 1963): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 55 (1963)، 857.
[81] المؤلّف نفسه، التّعليم المسيحيّ أثناء المقابلة العامّة (11 تشرين الثّاني/نوفمبر 1964): تعاليم بولس السّادس، 2 (1964)، 984.
[82] المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 69. 71.
[83] القدّيس بولس السّادس، الرّسالة البابويّة العامّة، تقدُّم الشّعوب-Populorum Progressio (26 آذار/مارس 1967)، 23: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 59 (1967)، 269.
[84] راجع المرجع نفسه، 4: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 59 (1967)، 259.
[85] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة البابويّة العامّة، الاهتمام بالشّأن الاجتماعيّ- Sollicitudo rei socialis(30 كانون الأوّل/ديسمبر 1987)، 42: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 80 (1988)، 572 .
[86] المرجع نفسه: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 80 (1988)، 573 .
[87] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، العمل الإنسانيّ-Laborem exercens (14 أيلول/سبتمبر 1981)، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 73 (1981)، 584 .
[88] بندكتس السّادس عشر، الرّسالة البابويّة العامّة، المحبّة في الحقيقة-Caritas in veritate (29 حزيران/يونيو 2009)، 7: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 101 (2009)، 645.
[89] المرجع نفسه، 27: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 101 (2009)، 661.
[90] مؤتمر الأساقفة الثّاني في أمريكا اللاتينيّة، وثيقة ميديلين (24 تشرين الأوّل/أكتوبر 1968)، 14، رقم 7: مجلس أساقفة أمريكا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي (CELAM)، ميديلين. ختام أعمال المؤتمر، ليما 2005، 131-132.
[91] فرنسيس، الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 202: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1105.
[92] المرجع نفسه، 205: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1106.
[93] المرجع نفسه، 190: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1099.
[94] المرجع نفسه، 56: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1043.
[95] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، لقد أحبّنا (24 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024)، 183: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 116 (2024)، 1427.
[96] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة البابويّة العامّة، السّنة المئة-Centesimus annus (1 أيّار/مايو 1991)، 41: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 83 (1991)، 844-845.
[97] فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 202: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1105
[98] المرجع نفسه.
[99] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، كلّنا إخوة (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 22: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 112 (2020)، 976.
[100] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 209: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1107.
[101] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 50: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 107 (2015)، 866.
[102] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 210: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1107.
[103] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 43: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 107 (2015)، 863.
[104] المرجع نفسه، 48: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 107 (2015)، 865.
[105] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 180: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1095.
[106] دائرة عقيدة الإيمان، تعليمات بشأن جوانب معيّنة من ”لاهوت التّحرير“ (6 آب/أغسطس 1984)، 11، 18: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 76 (1984)، 907-908.
[107] المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي، وثيقة الأباريسيدا (29 حزيران/يونيو 2007)، رقم 392، بوغوتا 2007، صفحات 179-180. راجع بندكتس السّادس عشر، كلمة في الجلسة الافتتاحيّة لأعمال المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي (13 أيّار/مايو 2007)، 3: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 99 (2007) 450 .
[108] راجع المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي، وثيقة الأباريسيدا (29 حزيران/يونيو 2007)، أرقام 43-87، صفحات 31-47.
[109] المؤلّف نفسه، الرّسالة الختاميّة (29 أيّار/مايو 2007)، رقم 4، بوغوتا 2007، 275.
[110] المؤلّف نفسه، وثيقة الأباريسيدا (29 حزيران/يونيو 2007)، رقم 398، 182.
[111] فرنسيس، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 199: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1103-1104.
[112] المرجع نفسه، 198: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1103.
[113] المرجع نفسه.
[114] المؤتمر العام الخامس لأساقفة أمريكا اللاتينيّة ومنطقة البحر الكاريبي، وثيقة الأباريسيدا (29 حزيران/ يونيو 2007)، رقم 397، 182.
[115] فرنسيس، الرّسالة البابويّة العامّة، كلّنا إخوة (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 64: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 112 (2020)، 992.
[116] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرسوليّ، اِفَرحوا وابتَهِجوا (19 آذار/مارس 2018)، 98: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 110 (2018)، 1137.
[117] المؤلّف نفسه، الرّسالة البابويّة العامّة، كلّنا إخوة (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 65-66: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 112 (2020)، 992.
[118] القدّيس غريغوريوس الكبير، العظة 40، 10: مصادر مسيحيّة 522، باريس 2008، 552-554.
[119] المرجع نفسه، 6: مصادر مسيحيّة 522، 546.
[120] المرجع نفسه، 3: مصادر مسيحيّة 522، 536.
[121] القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الرّسالة البابويّة العامّة، السّنة المئة-Centesimus annus (1 أيّار/مايو 1991)، 57: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 83 (1991)، 862-863.
[122] فرنسيس، عشيّة العنصرة مع حركات الجماعات الجديدة، والجمعيّات، والتّجمّعات العلمانيّة (18 أيّار/مايو 2013): L’Osservatore Romano، 20-21 أيّار/مايو 2013، 5.
[123] المؤلّف نفسه، الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 186: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1098.
[124] المرجع نفسه، 188: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1099.
[125] راجع المرجع نفسه، 182-183: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1096-1097.
[126] المرجع نفسه، 207: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1107.
[127] المرجع نفسه، 200: أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 105 (2013)، 1104.
[128] المؤلّف نفسه، كلمة في اللقاء مع عالم العمل في مؤسّسة ILVA في جينوا (27 أيّار/مايو 2017): أعمال الكرسيّ الرّسوليّ 109 (2017)، 613.
[129] يوحنّا الذّهبيّ الفم (المنحول)، عظة في الصّوم والصّدقة: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 48، 1060.
[130] القدّيس غريغوريوس النّازيانزي، الخطبة 14، 40: مجموعة المؤلّفات لآباء الكنيسة اليونانيّة 35، باريس 1886، 910.
Copyright © دائرة الاتصالات - Libreria Editrice Vaticana